قصة استهوتني منذ كنت صغيرا في صفوف المراحل الابتدائية من التعليم، فلطالما تخيلت أحداث القصة، وتوسعت في تصور شخصياتها، وحواراتها، ووقائعها، ولم تكن نصوص المطالعة في مادة اللغة العربية آنذاك كافية لتجيب على تساؤلاتي بعد سماع النزر اليسير عنها من خلال هذه النصوص...
وأنا أتلمس ذكرياتي، وخصوصا منها تلك التي
أثرت في حياتي، وَجَدْتُنِي أذكر هذه القصة وأمثالها مما أتحف به جيلنا السيد أحمد
بوكماخ.. إضافة إلى شوق كبير وجدته في نفسي إلى ذلك الشموخ.. وتلك العزة.. وذلك
التميّز الاخلاقي الذي عاشته الأمة، والذي جسدته صور عديدة من بينها القصة التي
بين أيدينا.
فاخترت أن أعيد كتابتها بنَفَس جديد،
تُشَم منه رائحة الاعتزاز، والافتخار بهذه الأمة، والإنتماءإليها، والتشبث
بأهدابها ...
لكل ذلك وغيره تخيلت وقائع حدثت بالفعل،
فتصرفت فيها، وفي حوارات شخصياتها، بالزيادة في أغلب الأحيان بما يتناسب وشموخ
القصة الحقيقية والواقعية...
في القصة التي بين أيدينا رمزية لشموخ أمة
في زمن ليس بالبعيد في الزمن، وليس بالبعيد في الكينونة، وليس بالبعيد في الهوية...
رمزية تدعو الطفل العربي إلى التطلع مستقبلا إلى هذا الزمن الجميل.. كي يعود من
جديد...
وامعتصماه...
عصر مزدهر
تدور القصة في زمن العباسيين، حيث كان
العصر عصرا ذهبيا بالنسبة للمسلمين ودولتهم، والقيم الراقية التي عرفتها الإنسانية
معهم .
يتعلق الأمر بخلافة المعتصم بالله
العباسي، الذي لم يَسلم هو الآخر من انتقادات المنتقدين، فالعباسيون، عموما وبعض
خلفائهم خصوصا مثل هارون الرشيد، قيل في حقهم الكثير..
لكن القصة التي
بين أيدينا تشهد لهذا الرجل، كما تشهد للدولة التي ينتمي إليها بحسن التصرف، فيما
يدور فيها من أحدات، ومن خلالها على عهد بني العباس بصفة عامة.. خلافالما كتبه
بعضهم يصف العباسيين أنهم كانوا فاسدين مفسدين، لم يهتموا إلا بأنفسهم وشهواتهم،
وبالمقابل تعاملوا مع رعاياهم بفضاضة وشدة جعلتهم يُعملون السيف في كل من اعترض
على الأنانية والعنجهية التي كانوا يعاملون الرعية بها...
فهارون الرشيد مثلا، وصف بأنه كان يحب
الخمر والنساء.. ويقدم رغبته فيهم على كل شيء، حتى طبعت خلافته بهذا اللون، فقيل
عنه أنه كان يسبح في بركة من خمر.. كما قيل عن غيره من الخلفاء الكثير...فالمامون
كان يقتل بغير رحمة، ووو.
لكن قصتنا هذه ربما تكون معيارا للحكم على
حقيقتهم، والفصل فيما قيل عنهم، وصور عن عهدهم، وفترة حكمهم...
عرفت الدولة الإسلامية في زمن العباسيين
توسعا جغرافيا كبيرا، وصل إلى بلاد المغرب والأندلس غربا، وإلى حدود تركيا شمالا،
وإلى وسط إفريقيا جنوبا، وإلى الهند وأندونيسيا شرقا. وذلك في إطار الفتوحات
الإسلامية، المبنية على تبليغ الإسلام للآفاق، والقيام بواجب الدعوة إلى الله..وهو
تكليف كانوا يرون أنهم ملزمون به، ما دام أمر حكم المسلمين قد أُسْنِد إليهم..
وقد كان توسعهم في شمال الجزيرة العربية
وبلاد الشام على حساب دولة الروم، التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
تحكم نصف الجزيرة العربية فضلا عن الشام، وفلسطين، والأردن، وسوريا حاليا.
انتشر الإسلام في الشام، وفتحت فلسطين
مبكرا على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانحسر حكم دولة الروم
في شمال سوريا وحدود تركيا حاليا .. فأصبح الروم يحقدون أكثر ما يحقدون على شعب
حقدهم على المسلمين، وكل ما يرمز إلى حضارتهم عقيدة كان أو زيا أو عمرانا أو لغة،
أو أذانا أو صومعة تدل عليهم وعلى دينهم وحضارتهم...
كان المسلمون في أعين الروم هم العدو الأول لهم ،
فجيشهم المسلح بعقيدتهم هو الذي أخرجهم من فلسطين، وقوّض دولتهم في الشام، وحاصرهم
في هضبة الأناضول بعد أن كانت امبراطوريتهم لا تكاد تغرب عليها الشمس..
فقليلة هي البلدان
التي لم تخضع لحكمهم.. وتشرب من كأسهم، وتذوق من انحلالهم وتفسخهم وإغراقهم في
ذلك...
فكانوا لا يدخرون جهدا،
ولا وسعا في النيل من كل ما يمُتّ إلى المسلمين بصلة، وينتمي إلى دولتهم وحضارتهم
.. العدو الأول لهم...
سوق عمورية
على حدود دولة الروم كان المسلمون يرابطون
متوجسين من انتقامهم، وهجومهم، وعلى الجانب الآخر الذي لا زال تحت سيطرتهم كانت
هناك قرية تسمى "عمورية" وكان من بين ساكنيها إضافة إلى الروم يساكنهم
بعض العرب المسلمين.. الذين يعيشون القهر والذل تحت حكم الروم، وفي معاشرة
قومهم...
وذات يوم من أيام عمورية، الرتيبة بالنسبة
لساكنيها من المسلمين، الذين كانوا يتوقون للحرية من الدولة الرومية، والالتحاق بالمسلمين
ودولتهم.. خرجت امرأة مسلمة إلى سوق من أسواقها لاقتناء ما يلزمها من مطالب للحياة
اليومية، وبضائع تسد حاجاتها، وتفي بأغراضها كباقي السكان... تختار في السوق ما
يلبي حاجتها ما دامت ستدفع مقابل ذلك عوضا،
بينما هي منشغلة مع البائع في مناقشة الثمن، كان في نفس
السوق مجموعة من الشبان الروم، الذين كان لا يبدو عليهم الإنشغال بالتسوق، بل
كانوا يتسكعون في السوق، ويراقبون الباعة وزبناءهموخاصة النساء منهم...
كانت المرأة المسلمة موضوع غيبتهم
ونميمتهم، وكانوا يسلطون أنظارهم عليها وهي غافلة متوجهة للدكان، وتجعل هذه
المجموعة وراء ظهرها..
وكان الشبان يتنافسون في إصدار الشتائم للمرأة
المسلمة، وإلى ما تمثله من عقيدة وحضارة، فيتمعضون من هويتها ولباسها الذي كان
يعلن بقوة على أنها مسلمة، فقد كانت تلبس لباسا يستر كل جسدها على عكس ما تعرفه
المرأة الرومية من عري وتبرج ..
كان الأمر يتعلق بتدافع حضاري بين اللون
الحضاري الإسلامي، وما يعرفه الروم في حضارتهم، وسيقوم بتجسيده مجموعة من الشبان
الروم من دونشعورهم بذلك...
كان الشبان يستعدون للسخرية من المرأة
المنشغلة ،وكان كل منهم يقترح سبيلا للنيل منها، ولم يوجد منهم منيردهم عن مكرهم و
إساءتهم، وتفوق أحدهم في خطة ماكرة صفق لها جميعهم، كان محتواها كما شرحه لزملائه:
-
أتروا المسلمة أمام الدكان؟
-
أجاب الجميع " نعم إنها تلف نفسها في
ذلك الثوب".
-
" خطتي تنبني على
إزالة ثوبها، وكشفها أمام أهل السوق"..
-
تردد أحدهم وقال : " لا لا لا تفعل..
ماذا سيقال علينا؟
-
صاحب الخطة: " أو تريد أن تضحك أم لا ؟
أم تراك أصبحت على دينها، مسلما؟"
-
" لا لا وإنما
أفكر في خطة تضحكنا دون أن يلومنا أحد، وتقوم على نفس ما ذكرت: كشف المرأة للعالم
وبطريقة ذكية لا يكشف فيها أمرنا.
-
"وكيف ذلك؟"
-
" نعمد إلى طرف
ثوبها، ونربطه إلى الدكان، حتى إذا انتهت من تبضعها من الدكان، وأرادت أن تغادر،
علق الثوب بالدكان، فتنكشف.. ونضحك كثيرا، كما يضحك كل من انتبه إلى ذلك من أهل
السوق.
-
صاحب الخطة الأولى: " يا ابن الجني.. ما
أشطرك.. تعال بنا نربط ثوبها.
- "إياك أن تشعر المرأة بشيء .. سوف أسأل
البائع عن ثمن شيء ما بينما تقوم أنت بالمهمة.
- الثاني:
"اتفقنا".
بينما كانت المرأة في غفلة عما يحاك لها،
منشغلة باقتناء ما تحتاج إليه.. قام أحدهم بربط طرف ثوبها إلى مسمار بباب الدكان،
ولما أحست بمن يزاحمها على باب الدكان، حسبت ذلك طبيعيا يرجع إلى بحث الناس عن
التبضع كما هو الشأن بالنسبة لها، وشراء ما يلزمهم من نفس الدكان.
لكنها
حينما أرادت أن تغادر، بعد أن انتهت من شراء أغراضها، همت بمغادرة المكان بقوة،
قاصدة في مشيها، دون أن يخطر على بالها شيء من قبيل ما خططت له جماعة العابثين
هؤلاء.
وامعتصماه
علق ثوبها بالدكان.. " يا للعار انكشفتُ ..."
قالت في غضب، ضانة أنه إنما حصل ذلك من غفلتها هي. " يا للطامة الكبرى.. اطلع
أهل السوق على عورتِي...
ترنحت.. وأسرعت إلى نزع الثوب بقوة حتى مزقت طرفه،
والتفت به، وهي تلعن نفسها ظنا منها أن الأمر حصل بسوء تصرف منها..
لكنها لما لملمت ثوبها، وسترت نفسها، واطلعت من حولها
تتحسس مَن مِن الناس ينظر إليها .. وجدت مجموعة من الروم يتساقطون من شدة الضحك
بعضهم على بعض على ما حصل لها، فهمت أن ما حصل لها مكر ومكيدة دبرت لها، وهؤلاء من هم دبره. ولذلك يحصل لهم من
الضحك والانتشاء...
بكت المرأة، من الإحساس بالإهانة، وصرخت بمرارة، وامعتصماه
...
لما عرفت أن الروم في منعة من عدل الحاكم المسلم الذي
يقتص منهم ، ولا من ينصرها ويقتص من
ضالميها، فلم تجد إلا أن تصرخ من شدة القهر: " وامعتصماه" مرة أخرى ربما
أسمعتها كل أهل السوق.. وظلت ترددها..
كانت
المرأة تقصد بكل علم أن تستنجد بالمعتصم، وربما لا يعرف الكثيرون في السوق من هو
المعتصم، وربما ظنوا أنه أحد أقربائها أو زوجها مثلا.
كانت تستنجد بخليفة المسلمين، التي هي إحدى رعاياه.. ولم
تنادي أحدا غيره لما عرفت من سخر منها، وعرفت حجم خصمها.. إنهم الروم جميعا، ولا
يقدر عليهم جميعا إلا ولي أمر المسلمين، ولذلك لم تستنجد بأبيها ولا أخيها أو
زوجها...
يا
لفقه المرأة.. ومعرفتها بالمسؤوليات والواجبات، فقه دستوري يحدد من المسؤول عن
حماية رعايا الدولة خارج حدودها...
لم تدرس المرأة في جامعة ولا معهد ولا كلية
قانونية واقتصادية أو سياسية، لكنها عرفت بالفطرة أن المسؤولية تلقى على الحاكم
المسلم، الذي يملك من القوة والمال ما يرعى به المسلمين داخل وخارج الدولة
الإسلامية، شأنها شأن المرأة البدوية التي علمت عمر بن الخطاب أمرا دستوريا كان
غائبا عنه..
عندما شكرت عمرا
على معروفه في إطعام يتاماها وهي لا تعرفه قائلة: " والله أنت أفضل من
عمر"، لأنها كانت تسمع بأن عمر هو خليفة المسلمين، لكنها لا تعرفه فلم يسبق
أن رأته.
قال عمر مدافعا عن نفسه: " لعله لا يعلم بأمركم يا
خالة..."
قالت معاتبة قولة شهيرة، تعتبر بناء الأساس للقوانين
الدستورية، وتحديدا لواجبات رؤساء وملوك وخلفاء الدول :
" أيلي أمرنا ويغفل عنا؟"
لا لا يجوز للحاكم المسلم أن يتولى أمر الأمة الإسلامية
بالحكم والرئاسة، ويغفل عن أمورهم، ومحنهم، وجوعتهم، وظلمهم، وقهر عدوهم لهم...
"وامعتصماه"
استغاثة كانت المرأة الفقيهة التي اختارت الاستنجاد بها
على يقين أنها لن تصل إلى أسماع المعتصم، وإنما صرخت صرخة الموجوع الذي لا أمل له
في الشفاء.. ثم لملمت جراحها، وجمعت حاجاتها ثم انصرفت تشكو أمرها وذلها لمولاها
الذي لا يغفل ولا ينام...
شاهد عيان
كان
في السوق رجل آلمه ما كان من أمر الاستهزاء بالمرأة، وهويتها، ودينها، بل كان يجد
نفسه معنيا، ومستهدفا بالإهانة والسخرية...
وكان يجد نفسه عاجزا حتى على إبداء التعاطف معها خوفا من
بطش الروم..وظلمهم...
وكم من مرة حدَّث
نفسه بالانتقام من هؤلاء .. والدفاع عن المرأة وليكن ما يكون..لكن منعه من ذلك ما
يوجد وراءه من أسرة وأولاد...
وفي الأخير اهتدى إلى أن لا يكشف عن موقفه وبالتالي
هويته، ويحاول نصرها بشكل آخر ربما يكون أفضل لها وله ولعمورية كاملة...
تساءل الرجل في ذهول عما يستطيع فعله لها؟
"أأشكو أمر هؤلاء لحاكم عمورية؟"
" أو ينصفها، ويرد الظلم عنها؟"
"أم أنه يبقى رومي من جنسهم، وسينتصر لهم على حساب
المسلمة المسكينة..."
"يا ربي ماذا أفعل؟ فإن إهانة المسلمة إهانة
للإسلام كله.."
"لسوف أنقل خبرها إلى الخليفة في بغداد، وأستعين
بالله على ذلك".
"لكن بغداد بعيدة.. كم يلزمني كي أصل إليها؟
"وإذا وصلت هناك.. كيف أصل إلى الخليفة؟
"إنه يجعل حوله الحجاب..."
" وإذا ما كتب لي أن أقابله، فهل يسمع مني؟؟
" وإذا سمع مني فهل يغيث المستغيثة؟؟"
" ولِمَ أحاكم الخليفة؟وهو لا يدري حتى بالموضوع ".
"علي أن أنقل إليه الخبر".
"وبعد ذلك أرى كيف يكون رده، وكيف يكون
حكمه.."
"لا بد إذا من السفر إلى بغداد... "
"على الأقل أكون قد فعلت ما يسقط به التكليف عني في
نصرة هذه المسلمة التي تستغيث ولا مغيث ".
" إن المسافة بين عمورية وبغداد كبيرة، لا يمكن
قطعها في زمن يقل عن شهر .. "
"علي أن أجهز نفسي لهذا السفر الطويل، فأشتري دابة
تحملني وتحمل زادي.. وحبذا لو كانت فرسا سريعة أقطع بها المسافة في أسرع
وقت".
كما يلزمني قبل
السفر أن أأمن عيش أولادي في غيابي، حتى
أعود إليهم، إن كتب لي ذلك، وكان في العمر بقية، فإن مِتّ، فأسأل الله تعالى أن
يكفلني فيهم، إنه نعم المولى ونعم النصير".
أعدّ
الرجل المؤمن العدة، واطمأن على أولاده، واقتنى لنفسه ما يلزم للسفر، وكتم أمره
هذا حتى على أسرته، خشيةمن أن يصل الأمر إلى الروم بطريق أو بأخرى، فادعى أنه قد
عزم على الحج...
الطريق إلى عمورية
انطلق
الرجل يجوب الصحراء والفيافي، يسير نهارا، ويتوقف ليلا يستريح من التعب، ويريح
فرسه، وكان إذا جن عليه اليل في الخلاء وسط الصحراء لا يستطيع أن يغمض عينيه
بالنوم، يحاذر من قطاع الطرق، وهجوم السباع المفترسة عموما...
كانت
رحلته شاقة، عرف الرجل فيها كل أنواع المشقة، من تعب، وخوف، وحر بالنهار، وبرد
بالليل، يحتسب كل ذلك لله تعالى..
كم حدثته نفسه من مرة في التخلي عنها والرجوع
من حيث أتى، وترك أمر المرأة إلى الله، يتولاها كما يتولى سائر عباده.
لكن
سرعان ما يذكر نفسه بأن جهده وتعبه في هذا السفر هو من قبيل الجهاد في سبيل الله،
ونصرة دينه، والقيام بواجبه بنصر المرأة، وبعد ذلك تبقى المسؤولية على عاتق ولي
الأمر...
وإذا ذكر أهمية ما يقوم به، تحمس من جديد، وضاعف الجهد ليبلغ
ما يحس أنه أصبح واجبا عليه تبليغه إلى ولي أمر المسلمين... فإذا مر بقرية أو
مدينة تزود منها لما يحتاجه، ويحتاجه فرسه، وارتاح بالقدر الذي يؤهله لمواصلة
السفر، وتحمل مشقة ما ياتي من أهوال الطريق...
بغداد أخيرا
وصل
أخيرا إلى مشارف بغداد، فانشرحت أساريره، وخف همه وغمه وخوفه..
"أخيرا هاهيذي بغداد، الحمد لله الذي وفقني إلى
بلوغها.. "
" علي أن أرتاح إلى الغد، وبعدها أستعد لمقابلة
الخليفة، لا يعقل أن ألقاه وأنا على هذا الحال.. "
" لكن الأمر لا يقبل الإنتظار ، علي أن أسعى إلى
لقائه الآن.. لا تكتمل مهمتي إلا بتبليغ ما جئت لتبليغه إلى الخليفة".
سأل
بعض من لقيهم في مدخل مدينة بغداد عن قصر الخليفة، فدلوه عليه، لكنهم استبعدوا
وصوله إلى الخليفة ...
لم
يأبه الرجل بما سمعه منهم، وما كان ليتراجع على إثر ما سمعه بعد ما قطع تلك
المسافات من عمورية على مشارف دولة الروم إلى بغداد في ما يقارب شهرا من الزمن،
إنه يُصر إصرارا على لقاء الخليفة، وإنهاء مهمته التي لا زالت تثقل كاهله.. وقد
اقترب من لحظة التخلص منها...
حراس القصر
تقدم
الرجل إلى قصر الخليفة، فاستوقفه الحراس
وسألوه بغلظة رجال الأمن المتوجسين دائما من كل من يقترب من قصر الخليفة:
" إلى أين ؟ وماذا تريد ؟ اذهب من هنا..."
أجاب الرجل وقد بدا عليه التعب، وتذكر كلام من دلوه على
القصر، وبدا احتمال استبعاد لقاء الخليفة يلوح في الأفق...
لكنه تحمس من جديد، ولم يأبه بغلظة الحراس.. وأجاب جواب
الواثق من نفسه:
" أريد أن ألقى الخليفة.."
الحراس: " الخليفة مرة واحدة ".
الرجل: " نعم الخليفة أطال الله عمره".
الحراس: " من أنت ؟ ومن أي البلاد جئت ؟
توالت
الأسئلة على الرجل، يتناوب عليه الحراس، كل مرة يفاجئه أحدهم بسؤال قبل أن يجيب
الآخر، فاحتار على أيها يجيب، كما أحس أن كل تلك الأسئلة تضعف احتمال لقائه
بالخليفة...
كان
الحراس يقومون بتنفيذ مهمة الحراسة والتحري، حتى التأكد من هوية الرجل خوفا من
وصول عدو أو عميل يريد بالخليفة سوءا.
ولذلك كانوا يتصرفون مع الرجل بشدة، وقسوة، وشك جعلت
أحدهم يأمر الرجل بمغادرة المكان، معللا ذلك بانشغال الخليفة عن مقابلة أمثاله:
" اذهب من هنا وإلا ..."
كان الحراس يختبرون مدى إصرار الرجل على طلبه، لأن ذلك
يعتبر بالنسبة لهم مؤشرا على صدقه، وجدية مطلبه...
لم
يأبه الرجل إلى التهديد، فقد كان مصرا على الدخول إلى قصر الخليفة ، وكان حاله
فضلا عن إصراره ينبئ عن صدقه فيما يقول
خصوصا وأن لباسه المغبر، وشعره الأشعث يدلان على سفره الطويل.
أمام
كل ذلك بدأ الحراس يخففون من شدتهم معه، فسأله أحدهم:
" ماذا تريد من الخليفة ؟"
أجاب الرجل وهو يحس أن موقف الحراس قد تغير، الشيء الذي
حرك الأمل من جديد في لقاء الخليفة:
" لا يمكن أن يسمع خبري هذا إلا الخليفة نفسه، فهو
الوحيد المعني بما أحمله".
كلم أحد الحراس زملاءه قائلا:
" بلغوا الحاجب بأمر الرجل، ودعو له أمر تقدير
إدخاله أو عدمه..."
أجابه آخر: " لعله يحمل معه ما يستحق أن يصل إلى
الخليفة، فلا تحرموه مقابلته..."
حاجب الخليفة
وصل
خبر الرجل إلى الحاجب، هذا الأخير هو الذي يبلغ الخليفة مباشرة بزواره، فطلب من
الحراس إدخاله، وهناك رحب بالرجل، وأخذ يسأله بعض الأسئلة حتى يطمئن هو الآخر له.
أجاب الرجل على كل الأسئلة إلا سؤاله: " وماذا تريد
من الخليفة؟" فالرجل يريد الاحتفاظ به إلى أن يقابل الخليفة شخصيا.
طلب
الحاجب من الرجل الانتظار في غرفة مهيبة وجميلة.. تدل على فخامة قصر الخليفة والتي
كانت جزء منه، وظل الرجل يتطلع إلى سقفها ومهارة صنع مرافقها، بينما غادر الحاجب
إلى جهة أخرى من القصر، ظن الرجل أنه ذهب إلى حيث يجد الخليفة ويستأذنه في شأن
الرجل الذي يود لقاءه، ولا يخبر عما يريده من الخليفة، وقد جاء من بلدة عمورية
التي تقع تحت حكم الروم...
بقي
الرجل يقلب عينيه في جنبات الغرفة التي بقي فيها، في سقفها، ونوافذها، وستائرها،
وكل محتوياتها...
لم
يطل غياب الحاجب، حتى جاء ينبئ الرجل بموافقة الخليفة على لقائه،" تفضل أيها
الرجل.. الخليفة ينتظرك".
قام
الرجل على عجل، ونوع من الإحساس بالرهبة يراوده كلما طغى عليه وقع المكان: القصر،
والفخامة، والستائر.. لكن سرعان ما يعود إلى قوته ورباطة جأشه، وصلابة عزمه عندما
يتذكر ما جاء من أجله...
في مجلس الخليفة المعتصم
خرج
الرجل من الغرفة الفخمة ليدخل إلى بهو أكبر منها كثيرا، وأفخم منها كثيرا.. إنها
قبة عظيمة يتوسطها كرسي كبير مرتفع يجلس عليه الخليفة، وفي جنباته على اليمين وعلى
اليسار منه اصطفت كراسي فخمة هي الأخرى، لكنها أقل فخامة من كرسي الخليفة، يجلس
على بعضها بعض الناس الذين تبدو عليهم النعمة...
كان
الرجل وسط القبة مأخوذا بما يراه من العز والأبهة في القبة، ومحتوياتها... وانتباه
كل الحاضرين لدخوله.. وهيبة الخليفة في مجلسه.. حيث لم يسبق له أن وقف موقفا كهذا
من قبل. فكان بين الانشغال بمنظر القبة والإلتهاءبمحتوياتها، وبين التفكير في ما
جاء من أجله. فلما وجد نفسه أمام مجلس الخليفة سلم متلعتما فقال:
" السلام على خليفة المسلمين ورحمة الله
وبركاته".
الخليفة: " وعليك السلام، تقدم واجلس".
"يبدو عليك تعب السفر.. لعله كان طويلا".
قبل أن
يجيب الرجل كانت تدور في خلده تساءلات كثيرة، فإنه وجد في الخليفة ما لم يكن في
حسبانه من قبل:
" أهذا هو الخليفة؟
إنه يتبسط معي.. ويسألني.. ثم يأمرني بالجلوس..
إنه غير ما كنت أحسب من خلال ما سمعت من كلام الناس في
بغداد، وكلام الحراس الذين أظهروا لي انشغاله عن مثلي، وأنه لن يعيرني وأمثالي أي
اهتمام..."
كل ذلك لم يجد منه شيئا، بل وجد العكس، الشيء الذي شجعه،
وزاد من قوته في الإفصاح عما جاء من أجله.
كل هذا مر في ذهن الرجل كلمح البصر، وأجاب:
" نعم يا خليفة المسلمين.. أعزك الله.. قد جئت من
أطراف دولتكم على حدود دولة الروم..."
الخليفة: " وكيف هي الحياة هناك؟ أقصد حال
رعايانا.."
الرجل: " يا مولاي.. هذا ما جئت من أجله".
الخليفة: " وما الذي جئت من أجله؟"
الرجل: " جئت أبلغك رسالة.."
الخليفة: " ممن؟
الرجل: " من امرأة مسلمة.. مؤمنة.. حيية تغار على
عرضها كما لم تفعل امرأة من قبل.."
الخليفة: " أفصح عما تقول.."
الرجل: " يا مولاي.. أنا وهي نسكن جميعا في بلدة اسمها
"عمورية" وهي تقع تحت حكم الروم على مسافة قريبة من حدود دولتكم شمالا.
وبينما كنت في
سوق هذه البلدة التي يتكون سكانها من أغلبية الروم ، وفي المقابل لا يستهان بعدد
المسلمين هناك.."
"كانت هذه المرأة التي جئتُ في أمرها، تتبضع هناك
كباقي الناس في السوق.. وكان في السوق مجموعة من الروم الحاقدين، الذين يكيدون لكل
ما هو مسلم.. فعمدوا إلى طرف ثوب المرأة في غفلة منها، وربطوه بمسمار في الدكان
الذي كانت تقف أمامه..
وتراجعوا إلى الوراء ينتظرون نتيجة ما أعدوا له.. فلما
قضت حاجتها من الدكان وهمت بالمغادرة علق ثوبها هناك.. وانكشف جسمها أمام الناس في
السوق.. وأخذ هؤلاء يضحكون ويتمايلون من الضحك.. فلما أحست بإهانتها.. وإهانة دينها،
وهويتها صرخت مستغيثة.. وامعتصماه.. وامعتصماه.. وظلت ترددها...
هذا ما جئت أبلغك إياه يا سيدي".
الخليفة: " عليهم لعنة الله.. الكفرة..
الفسقة..."
الرجل: " يا مولاي، إن الذي جعلني أترك كل شغلي
واهتمامي.. وأحمل نفسي إلى بغداد لألقاك هو أن المرأة لما أحست بالمهانة،
والازدراء والقهر... لم تستغث بأحد إلا بالله تعالى، وباسمك وامعتصماه ..."
جحظت
عينا الخليفة وأخذ يقلب النظر في الحاضرين في مجلسه واحدا واحدا، وكأنه يستشيرهم
في الأمر دون أن يفصح عن ذلك... وساد صمت بينهم جميعا...
نطق
بعد هذا الصمت رجل كان يجلس على يمين الخليفة، وقريب منه الشيء الذي أوحى للرجل
أنه ربما كان وزيرا، خصوصا وأنه لم يستأذن من الخليفة في الكلام، فقال:
" وماذا فعلت أنت ؟ أو ماذا فعل المسلمون ..."
أسكته الخليفة قائلا: " وماذا الذي يستطيعون فعله
في قرية أغلب سكانها من الروم..."
الخليفة: " أو تعرف المرأة بأمر سفرك إلى بغداد
؟"
الرجل: " لا لا تعلم .. فهي لا تعرفني.. كما لا
أعرفها.. ولا تربطني بها أية علاقة.. وإنما ساقني قدري إلى أن أكون في السوق في
وقت ..."
الخليفة: " تركت شغلك وعملك، وسافرت إلينا.."
الرجل: " نعم يا مولاي، كنت تاجرا بنفس السوق..
لكنني وجدت أن الأمر إهانة لي أنا قبل المرأة.. بل إهانة لكل مسلم."
الخليفة: " بورك فيك... أجل إنها إهانة لخليفة
المسلمين نفسه.. وسنرى ما يمكن فعله... يمكنك الآن أن تذهب لنيل قسط من الراحة بعد
هذا الجهد الذي قمت به... بارك الله فيك وفي أمثالك.." وأشار إلى الحاجب
قائلا:
" خذ الرجل الطيب إلى جناح الضيافة، واحرص بنفسك
على راحته..."
خرج
الرجل من مجلس الخليفة يصاحبه الحاجب وسار به مسافة لا يستهان بها وفي الخير وصل
به إلى ما يسمونه بدار الضيافة...
مداولة
مغلقة
في مجلس الخليفة، ظل الموضوع الذي يطغى على المجلس هو
موضوع المرأة في عمورية، وكان الخليفة يود استشارة وزرائه والمقربين منه، وخصوصا
منهم قادة الجيوش... فقال:
" أشيروا علي أيها الناس..."
ساد الصمت من جديد، وكأن كل منهم لا يريد أن يتقدم هو
بالكلام ويتقدم غيره ... ثم بادر أحدهم فقال:
" يا مولاي إن أذنت لي.."
الخليفة: " تفضل.."
" يا مولاي أرى أن الأمر بسيط، ولا يصل إلى حد أن
تحمل همه،ولم يكن من الضروري أن يقطع هذا الرجل كل هذه المسافات، تاركا عمله
وأولاده ليخبرك به..."
تكلم آخر فقال ما يشبه كلام سابقه: " هذا أمر يحصل
في كل الأوقات، وفي كل البلدان..."
وتكلم ثالث له علاقة بالجيش: " لا ننسى يا مولاي
أننا ودولة الروم في حرب، فلنبقي على الهدنة السارية بيننا.."
كان آخر المتدخلين برأيه هو الوزير المقرب من الخليفة
قال:
" يا مولاي.. أعزك الله.. علينا أن نتريت قليلا..
ولا نستعجل. فأمر المرأة لا يستحق
الخليفة: " إنهم بهذا الفعل المشين قد أساءوا للمسلمين
جميعا، وأخرجوا أنفسهم من الهدنة التي كانت بيننا، ثم إن الأمر ليس بسيطا، إنه
عدوان من الروم على عقيدتنا، وديننا، ولا بد من غوث من استغاث بنا ولو كان من غير
المسلمين، فكيف بها مسلمة تقهر من عدونا، كيف إذن نهادن من أدوا رعايانا، لا هدنة
معهم..."
بدا على الخليفة الانفعال، واستمر في قوله:
" ألم تعلموا أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان يقول: ( والله لو عثرت بغلة في العراق - وهو في المدينة المنورة –لسئلت عنها يا ابن
الخطاب.. لم لم تصلح لها الطريق).أو تريدون أن أسأل يوم القيامة عن هذه المرأة
وأمثالها ؟"
" يا قائد الجند.. "
" لبيك سيدي.."
" أعد جيشا يفي بغرض التوجه إلى عمورية، وانظر أي
المطالب يحتاج كل ذلك، فلن نتخلى بإذن الله عن هذه المرأة، كما لا نتخلى عن
رعايانا في كل مكان.. وإني لأرى أن هذه المرأة مباركة نبهتني إلى المسؤولية
الملقاة على عاتقي منذ أن توليت هذا الأمر ..."
" وإن هذا الرجل الذي حمل لنا خبر المرأة،بطل مخلص
لأمته ولدينه، عرف بفطرته أن ما حصل للمرأة كبيرة ينبغي أن يصل خبرها إلى خليفة
المسلمين... لأكافئنه على معروفه هذا.. ثم إن الله تعالى الذي يدبر الأمر من فوق
سبع سماوات استعمله في أن يسمعني استنجاد المرأة المسكينة نصرا منه سبحانه لها
..."
كان آخر المتدخلين برأيه هو الوزير المقرب من الخليفة
قال:
" يا مولاي.. أعزك الله.. علينا أن نتريت قليلا..
ولا نستعجل. فأمر المرأة لا يستحق أن نسير من أجله إلى أطراف الدولة بجيش كبير
يتطلب نفقات كبيرة..."
الخليفة: " أيها الوزير.. لن نتوان عن نصرة
المرأة.. لأن الأمر يستحق منا كل ذلك، إن هذه المرأة إنما هي رمز لإسلامنا، ورمز
لدولتنا، والروم أرادوا أن يسخروا منا ومن إسلامنا، لذلك لا بد من تأديبهم ...
إن هذه المرأة قد حملتني واجب نصرة أهل عمورية جميعا،
إنها إنما هي نموذج للمرأة المسلمة هناك، فقد تنتهك الأعراض، وتستباح دون أن يدري
عنها أحد، ولكن هذه المرأة بندائها "ومعتصماه" جعلت الواجب يفرض علي
حمايتها، وحماية كل المسلمات أمثالها في عمورية وفي غيرها...
بورك فيك من امرأة.. لم ترض الذلة .. ولم تقبل السخرية
والاستهزاء على حساب شرفها... لسوف أخرج بنفسي على رأس جيش بالآلاف لأنصفها وأقتص
من الفساق الفجرة.. الذين سولت لهم أنفسهم التعدي على حرمات الإسلام في شخص
أتباعه..."
الخليفة:
" أعدوا لكل شيء عدته.. "
بدأ
الخليفة يوزع المهام على المقربين منه، وكان يريد أن يعرف الجميع من المقربين إليه
أن اهتمامه بأمر عمورية وأهلها كبير، ولا يجوز لأحدهم أن يتوانى فيه... أو أن يأحذ
أمر الإعداد له بشكل لا يرقى إلى اهتمام الخليفة..
فأمر العساكر أن بالاهتمام بكل ما هو عسكري، من عدد وعدة،
وسلاح، ورجال.. وأمر الممون بالاهتمام بطعام الجند، وكلأ الخيول والبهائم..
وأمر المهندسين والمفكرين بالتفكير في أمر الرحلة
ومسارها..
وطالب قادة الجيش بأن يفكروا في خطة عسكرية تضمن نجاح
المهمة العسكرية، وبلوغ الهدف الذي لم يعد هو نصرة المرأة المسلمة فقط، ولكنه أصبح
جليا نصرة كل أمثال هذه المرأة ممن لم يُكتب أن تصل آهاتهن واستغاثاتهن إلى
الخليفة..
" لابد أن نعمل على فتح المدينة، فتحا إسلاميا..
يصبح على رأسها حاكما مسلما لا تهان عنده المسلمة ولا تضام...
حديث مع النفس
كان
الإعداد لهذه الرحلة يتطلب وقتا، كان الخليفة المعتصم يتفهم المطالبين به لأداء ما
طلب منهم، وكان يتابع بنفسه مراحل الاستعداد بتفاصيلها، كما أنه كان يدخل طيلة مدة
الاستعداد في حوار مع نفسه، ينقسم فيه إلى شخصيتين.. أحدهما متحمس إلى خوض الرحلة،
وبلوغ الهدف المرسوم، والثاني متخاذل خائف يتوقع الفشل والهزيمة...
كان
الخليفة يقف في أغلب حواراته مع نفسه في صف صاحب الشجاعة والنخوة الذي يحس
بالمسؤولية الكبرى في حماية رعايا دولة الإسلام أينما وجدوا.. وفي المقابل كان
يحاوره الخليفة المعتصم الذي يستجيب إلى داعية نفسه، ورغد العيش في القصر حيث
الجواري والخدم، حيث لا حر الشمس، وزمهرير البرد...
المعتصم الخائف: " سيطول سفرنا كثيرا..."
المعتصم الشجاع: " ولو طال هذا السفر.. فذلك هو
واجبي أمام الله تعالى..."
المعتصم الخائف: " واجبك تجاه رعاياك.. وفي حدود
بلدك... أو لا تقدر عاقبة الأمر.. وإن احتدم القتال بيننا وبين الروم... أولا تخشى
ذلك؟"
المعتصم الشجاع: " كل ذلك في حسابي.. لكنني أستعين
بربي عليهم.. وإن كتبت لي الشهادة في سبيل الله فذلك أقصى ما أتمناه... ثم إنه قد
بلغ إلى علمي أن أقرب نقطة بها تجمع لجيوشهم تبعد عن عمورية بكثير...
وأحرص كل الحرص على أن يبقى خبر خروجنا إلى عمورية سرا
لا يعلمه إلا من أثق بهم... ثم إن الجيوش الرمية لم تعد تقوى على مواجهتنا مند
هزائمهم على يد جيوشنا.. فلا أظنهم يغامرون مغامرة كهاته..."
" لن أتأخر في الخروج إلى عمورية.." عبارة
قالها المعتصم بانفعال أخرص بها معتصمه الثاني..
تقرر
خبر خروج الخليفة على رأس الجيش، لما للمسألة من أهمية في حياته كخليفة للمسلمين
تُجعل تبعاتها في ميزان حسناته يوم القيامة أمام الله تعالى.. ونصب عينيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يتردد في الخروج في قرابة عشرة آلاف مجاهد لفتح
مكة، على إثر ارتكاب مشركي مكة ما خرقوا به هدنة صلح الحديبية لما قَتَلَ حلفاؤُهم
حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم...
تغلب
المعتصم على نفسه، وعلى شهواته، وعلى شيطانه، فما عاد هذا الأخير يثبط من عزيمته،
ويخوفه من الخروج لأنه أصبح متأكدا ثقته بنفسه.. ولأن الشيطان لا ييأس من صد
الإنسان فإنه يظل يوسوس في تفاصيل ذلك العمل الخير الذي لم يستطع ثني صاحبه عنه..
في جناح الضيافة
في
جناح الضيافة كان الرجل يرفل في ما حباه به الخليفة من كرم وسخاء، فقد وجد هناك
حماما ساخنا، وأثوابا جديدة، وأطعمة ما سبق له أن تذوقها من قبل... فكان كلما تقلب
في هذه النعم كلما ردد قائلا:
" حفظ الله الخليفة، وأدام عزه، ونصره على أعدائه،
وأعداء أمته..."
وكان لا يعلم
بعد ما الذي قرره في أمر المرأة في عمورية، وإنما كان يدعو له على ما رأى منه من
كرم ضيافة وحسن استقبال..
بينما
كان الرجل يستمتع بكل ذلك، طرق باب غرفته طارق:
الرجل: من الطارق ؟ وفتح الباب ليرى...
الطارق: " هل أستطيع أن أدخل.."
الرجل: " تفضل.."
لم يكن وجه الطارق غريبا على الرجل، فقد سبق له أن رآه،
لكن لا يعلم أين... كان الطارق هو قائد الجيوش في الدولة الإسلامية كلها...
الرجل: " سبق وأن التقينا.."
القائد: " نعم.."
الرجل: " تذكرت .. كنت في مجلس الخليفة.."
القائد: " أجل.."
الرجل: " وكنت تجلس بالقرب منه على يساره..."
القائد: " لعلك لا تعرف مَن أكون.. ولكن الأمر ليس
مهما، أريد أن أسألك بعض الأسئلة إن تكرمت.."
الرجل: لكن قبل أن أجيبك، لا بد أن أعرف من أنت.."
القائد: " لا بأس أيها الرجل الطيب.. أنا قائد
الجيش..."
استقام الرجل في جلسته، وحدد من فضول كلامه، وقال:
" تفضل يا
سيدي بما تشاء من الأسئلة.."
القائد: " لقد استجاب الخليفة لنداء المرأة، وستكون
في رفقتنا إلى عمورية.. وأريد أن أسألك بعض الأسئلة التي تتعلق بالعدة التي أمره
الخليفة بإعدادها للرحلة إلى هناك... من مثل: كم تبعد بلدة عمورية؟ وكم عدد سكانها
؟ وعدد جنود الروم فيها ؟ وما هي المسافة بين عمورية وبين أقرب مدينة أخرى قد
يأتيهم منهاالمدد ..."
مرت
على الرجل في القصر بضعة أيام، لم ينتبه إلى انصرامها، لأنه كان فيها لا يصدق نفسه
مما يجده من حسن المعاملة، وجودة الخدمة، وجودة المأكل والمشرب... بينما هو غارق
في الاستمتاع بكل ذلك، إذ جاءه الحاجب يخبره بأن الخليفة يطلبه...
لبى الرجل دعوة الخليفة بسرعة، فاستقبله بكل بشاشة جعلته
يحس بالزهو أمام الحاضرين، ثم قربه منه وسأله عن حاله، وعن راحته.. وفي نفس الآن
كان الخليفة قد أرسل في طلب كل رجال الدولة الذين كان قد تكلف بمهمة في الإعداد
للرحلة...
وفي حضور الرجل طلب الخليفة من كل منهم أن يوافيه بتقرير
عن ما الذي تم إنجازه في المهمة التي تكلف بها...
كان الرجل يستمتع بسماع هؤلاء القادة يذكرون إنجازاتهم التي
كانت تنم عن قرب الانطلاق الرحلة إلى عمورية..
وكان يتنطط فرحا كلما أُعْجب الخليفة بذلك، وأثنى عليه...
وكل ذلك يوحي بقرب حلول جيش المسلمين بقيادة الخليفة نفسه بعمورية ليرد الاعتبار
للمرأة التي أهينت، ويضع حدا لأي اعتداء آخر قد يحصل لأي امرأة مسلمة من بعد..
يكاد لا يصدق نفسه وهو يرى أنه كان وراء هذا الحدث
الكبير الذي يشهد التاريخ له بحسن الصنع.. فهو الذي جاء من هناك.. ليخبر الخليفة..
يكاد يطير من الفرح، فقد أُخذ كلامه بعين الاعتبار..
بدا
على الخليفة الرضى من جراء ما سمع من تقارير، ختمها بالثناء والشكر والدعاء
لأصحابها، فقام بتحديد أجل الانطلاق...
إلى عمورية من جديد
شدد الخليفة على كتمان سر هذه الحملة حتى على
المقربين.. فأمر قادة الجند أن لا يبوحوا بوجهتها لأهلهم وذويهم، وأصدقائهم،
وأصهارهم.. وأن يتجنبوا الحديث عنها في مجالسهم.. كل ذلك كان إصرارا من الخليفة
وأعوانه والمقربين منه على أن لا يصل الخبر إلى الروم فيدبروا أمورهم، ويعدوا
أسلحتهم وعددهم...
كان
السفر وسط جيش يعد بالآلاف أكثر مشقة من مثله حيث كان الرجل وحده، يقرر بنفسه
حينما يتعلق الأمر باتخاذ الوجهة أو التوقف، أو السير أو الراحة...
مع كثرة الجند كان الجميع يلزم بالبطء في السير، فهو
يسير بالنهار، ويعسكر إذا لاح الظلام.. تجنبا لما يمكن أن يحصل مع السير في
الظلام..
وكان الجميع منضبطا لأوامر قادة الجيش الذين يقررون وقت
المسير، ووقت التوقف للراحة، ووقت الطعام وغيره...
وكان نظام الطعام طيلة الرحلة، يكون في وجبتين في اليوم،
أحدها في فجر اليوم قبل الانطلاق، والثانية في نهايته عند التوقف..
كان الرجل يجد في ذلك مشقة لم يعرفها من قبل .. خصوصا
بعد الشبع والرَّيّ الذي كان يجده في قصر الخليفة..وحتى قبل ذلك في رحلة الذهاب من
عمورية إلى بغداد، كان يأكل كلما أحس بالجوع، ويستريح إذا أحس بالتعب، ويسير كلما
وجد في نفسه نشاطا ولو كان الأمر ليلا...أما وهو واحد ضمن الكثيرين فلابد له من
الانضباط لما قررته القيادة..
لقد
استغرق السفر شهرين من الزمن، تعبت فيها الدواب، وكَلَّ الجُند ، ورغم ذلك كان
الجميع يستميت ويصبر محتسبا أجره على الله، فلم يثبت أن اشتكى أحد من التعب.. إنه
الجهاد في سبيل الله، النصر فيه هو أحد الحسنيين، والشهادة أحسن لمن كتب الله له
ذلك...
كان
الخليفة ينهج خطة استخباراتية دقيقة، وأمر كل الجنود بتنفيذها، وهي أنه بعد أن دخل
الجيش حدود دولة الروم كان يأمر بالقبض على كل من صادفه في طريقه من الروم حتى لا
يفشي سر دخوله حدود دولتهم من جهة، وليعلم منهم ما يمكن أن يصل إليه من المعلومات
التي تمكنه التي تنفع في ما يتعلق بجيش العدو..
ظل
الأمر على هذا الحال حتى وصل إلى مشارف عمورية التي لم تكن بعيدة عن حدود دولة
الخلافة كثيرا...
أمر
قائد الجيش بحصار المدينة من كل جانب، كان الحصار العسكري وسيلة فعالة تحقق النصر
المؤزر للجيوش، ولا زالت الآن .. وزيد عليها الحصار الاقتصادي وغيره من المضايقات
الاستخباراتية..
كانت
المدن والقرى محصنة بأسوار تحميها من هجوم العدو عليها، وكانت الأسوار –ولكثير من
الظروف- تكون محدودة لا تشمل كل الأراضي التي تشمل مصالح السكان من رعي وزراعة،
ومنابع للمياه وغيرها... وغيرها مما يبقى خارج الأسواق مما يرتبط بعيش السكان..
كان
ارتباط السكان بما هو خارج الأسوار سببا في أن صمود عمورية أمام حصار جيش المسلمين
لم يدم طويلا... فسرعان ما فتحت أبوابها استسلاما للخليفة وجيشه..
فتح عمورية
بدأ الجيش الإسلامي بالدخول عبر بوابات
عمورية، وأخذ مواقعه فيها، وحاصر أعداد الجيش الروماني فيها، الذي كان أغلب رجاله
قد ألقوالسلاح من قبل..
تأخر دخول الخليفة وكبار مساعديه حتىأُخْبِر بأن الأمر
تحت سيطرة الجيش.. فدخل الخليفة المعتصم منتصرا، يحمد ربه في سره على ما أنعم به
عليه من فتح مظفر.. وقد اصطف السكان على الممرات التي سلكها موكب الخليفة يشاهدون
هذا الحدث التاريخي الذي تشهده عمورية ..
كان حاكم عمورية من الروم هو من جاء يفتح الأبواب مستلما
وسلم مفاتحها إلى الخليفة
وكان يمشي صاغرا بين يدي الخليفة يقوده إلى حيث مقر
حكمه..
توجه به إلى حيث مجلس حكمه، فجلس الخليفة الكرسي حيث كان
يجلس هذا الحاكم..وبعد شكر الله تعالى على ما مَنَّ به عليه من نصر وتوفيق، دعا
بإحضار المرأة التي كانت سببا في هذا الفتح.. كان الرجل قريبا من الخليفة.. فما إن
سمع بأن الخليفة يريد المرأة التي انْتُهِكَت حُرمتها، حتى توجه إلى الحاكم
الروماني فقال له:
" ... لو كنت تقوم بواجب تأديب المارقين ما تجرأ
هؤلاء على المرأة المسكينة.. فأمر حراسك بإحضارهم جميعا..."
وذكرهم بأسمائهم...
المرأة تُسْمِع المعتصم..
في وقت
وجيز حضرت المرأة بين يدي الخليفة المعتصم، الذي استغاثت باسمه، وهي لا تدري أنها
السبب في وجوده في عمورية.. فقد كانت تنتظر أن يفرغ مما يريده منها حتى تخبره بما جرى لها من قهر الروم وجرأتهم
علىها.. لكنها تفاجأت بالخليفة يُكْبِرُها
ويُنْزِلُها منزلة إكرام.. ويسألها هو عن الذي جرى لها في السوق...
ذهلت
المرأة... وقبل أن تحكي عن مصيبتها قالت:
" إذن لي يا مولاي في أن أسألك.."
الخليفة: " تفضلي.. وقولي ما تشائين.."
المرأة: " من الذي أخبركم بما جرى لي يومها، بالله
عليكم يا مولاي الخليفة ؟"
" ناديت باسمكم لما احسست بالقهر.. واستنجدت بمن
وكله الله تعالى بحمايتنا.. فصرخت وسط السوق: " وامعتصماه" وكنت على
يقين أن صوتي لا يقوى على الوصول إلى سمعكم..."
الخليفة: " لقد وصل.. وهو سبب وجودنا معك في عمورية
لنصرتك.. وتأديب من اعتدوا عليك .."
المرأة : " كيف ذلك يا مولاي؟"
الخليفة: " بسبب هذا الرجل الطيب .." وأشار
إلى الرجل الذي سافر إلى بغداد من أجل ذلك.
الرجل: " أنا ، يا أمة الله .. كنت في السوق يومها
.. ولأنني لم أستطع أن أدفع عنك الظلم الذي حصل لكِ .. وسمعت استغاثتك بالخليفة
المعتصم – أدام الله عزه – فلم أجد أقل من أبلغ صوتك إلى من تستغيثين به.."
الخليفة: " بورك فيك .. فلقد أديت حق الله عليك في
هذا الأمر.. وبورك فيك يا أختاه فقد عرفت من الأجدر بالاستغاثة به.. إنك تذكريني
بأم الأيتام التي قالت لعمر بن الخطاب قولتها الشهيرة: أيلي أمرنا ويغفل عنا.. نعم
، لقد ابتلاني الله تعالى بتولي أمر المسلمين، وإنني مسؤول يوم القيامة عنهم ..
بما في ذلك رد الظلم عنهم، وقضاء حاجاتهم، والسهر على حرية دينهم... فمن الذي أساء
إليك، وأساء إلينا و إلى ديننا .. أتعرفينهم ؟"
المرأة: "
نعم أعرفهم .. أعزك الله."
الخليفة: " اذكري أسماءهم لهذا الرومي كي يأتيني
بهم."
الخليفة يخاطب الحاكم السابق لعمورية:
" أكنت تقر
رعاياك على ظلم رعايانا ؟"
الرومي: " معاذ الله يا مولاي .. إنني لم أعلم بأية
مظلمة .. ولم أتوصل بأية شكاية ..."
الخليفة: " سنعرف .. سنعرف .. أسرع في
إحضارهم.."
ظهر الحق..
بدأ
المعتصم يغلظ الكلام .. ويتوعد كل من سولت له نفسه بالإساءة إلى رعايا الدولة
الإسلامية ..حاول الرومي أن يتدخل للتخفيف من غضب الخليفة.. لكنه قاطعه .. ولم
يترك له مجال الكلام بقوله:
" ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ...
اليوم لا سلطان لكم على عمورية ... من شاء منكم أن يدخل في دين الإسلام فله ما
للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أراد أن يبقى على دينه ويعطي الجزية فأهلا وسهلا به،
ليس في المسلمين ولا حاكمهم من يظلمه أو يعين على ظلمه، أو ينتقص منه ولا من ماله،
ولا من عقيدته، ومن أراد أن يلحق بأهل ملته، ودولته فله ذلك.."
الرومي متعجلا خوف من أن يعيد الخليفة النظر في كلامه:
" نلحق يا مولاي ..."
الخليفة: " ليس بعد .. لا بد من العقاب ..."
" إن الذي حصل لهذه المرأة المسلمة من مجموعة من
الفسقة من بني جلدتك .. وتحت غطائك لكبير عند الله تعالى ، وعندنا، وعند كل عاقل
يحترم عقله .. لقد انتُهك حقُها في أن تلبس ما تريد، وأن تعتقد ما تريد .. فهي حرة
تختار ما تريد، وهذا الذي أفعله معكم الآن .. فلا يجوز أن يُكره الإنسان على شيء يَكرهُه
.. وقد فصل في ذلك القرآن الكريم في قول الله تعالى: ( لا إكراه في الدين...) أي
لاإكراه في العقيدة .. ولا إكراه في اللباس .. ولا إكراه في الاختيار ... سيعاقب
الفاعلون .. وتعاقب أنت معهم ..."
الرومي: " رحماك يا مولاي ... فإنني لم أكن أعلم
بكل هذا .."
دخل حارس من حراس الخليفة يعلمه بان المطلوبين قد
أحضروا...
الخليفة: " أدخلوهم ... سيعز الله تعالى بقوته أمته
.. وبعدها عباده المؤمنين في عمورية.."
دخل الجنود يقبضون على أربعة رهطمكبلين .. يدفعونهم إلى
حيث يجلس الخليفة ...
الخليفة ملتفتا إلى المرأة، وبعدها إلى الرجل .. قال :
" لا أريد أن أرى هؤلاء الأوغاد .. لكن الذي يحملني
على إدخالهم هو أن أراكِ تنتقمين لنفسك، وتقتصين منهم بقدر ما سببوه لك من القهر
.. فامري فيهم ما تشائين .."
المرأة : " يا مولاي .. قد رُدَّ إلي اعتباري
بمجيئكم إلينا .. ولا أطلب أكثر من هذا .. يا مولاي قد شفيت نفسي لما أصبحتم
تجلسون على كرسي حكم عمورية .. ثم إنني أجدني لا أتلذذ بإذاية الآخرين، ومنذ كانوا
يحكمون في المدينة .. فديننا ينهانا عن الإساءة إلى غير المسلمين ، والصبر على
أذاهم ... "
الخليفة: " بوركت يا امرأة .. بوركت .. أخرجوهم عني
.. ولينظر في أمرهم قاضي المسلمين في المدينة.."
خرج الجنود يدفعون الأشرار مكبلين ومعهم الحاكم السابق
للمدينة .. وبقي في مجلس الخليفة بعض المقربين منه ، بالإضافة إلى المرأة المظلومة
والرجل الفذ ..
حاكم عمورية الجديد
الخليفة : " يلزمنا الآن حاكما مسلما.. يستطيع القيام
بواجب العدل بين رعايانا في المدينة مسلمين وغير مسلمين ..
والضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسه أن يظلم
العباد، ويعتدي على حقوقهم وأموالهم .. وإني لا أجد أفضل من هذا الرجل الطيب الذي
ضحى بكل شيء، وخاض أهوال السفر وسط الصحراء يجابه المخاطر والغوائل من أجل إحقاق
الحق، وإنصاف مظلوم ضعيف لا يقوى على رد الظلم عن نفسه ..
سيكون هذا الرجل
هو حاكم عمورية .. وإني لأطمئن على رعايا تحت حكمه .."
صافح
الخليفة الرجل، معلنا تسميته حاكما على عمورية ..
اندهش
الجميع، بما فيهم الرجل الذي لم يخطر على باله أن يصبح يوما حاكما لا على عمورية
ولا على غيرها .. وسُرَّتالمرأة بذلك.. وبدت الدهشة كذلك على كل مرافقي الخليفة
خصوصا وأنهم كانوا ينتظرون أن يختار الخليفة منهم حاكما على المدينة...
قام
الخليفة من كرسي الحكم وأجلس عليه الرجل .. وقد حاول الرجل الامتناع عن ذلك في
حضرة الخليفة، لكن الخليفة أصرَّ على ذلك وقال:
" لابد أن نقيم حفلا نقوم فيه بتنصيب الحاكم
الجديد.. قبل المغادرة إلى بغداد..."
الحاكم الجديد: " أدام الله عزكم يا مولاي.. وأطال
عمركم سندا للمظلومين والمقهورين في كل أرجاء الدولة.. يا مولاي أريد أن أطلب شيئا
إذا أذنت لي .."
الخليفة: " لك ما تشاء .. تفضل.."
الحاكم: " يا مولاي أخشى من أن يقوم الروم بمحاولة الانتقام.. فيهجمون على
المدينة من جديد.. لذا أطلب منكم يا مولاي مَدَّنا بالقوة اللازمة لِردِّ عدوانهم
بإذن الله..
سُرَّ الخليفة بتقييم الرجل للمرحلة المقبلة،
لأنه أصبح يفكر كرجل دولة يملك الخبرة في تسيير الأمور بها، وتوقع ما يمكن حصوله
في المستقبل..
الخليفة: " لقد صدقت فراستي فيك
أيها الحاكم .. أجل إن كل عاقل لا بد أن يأخذ أمر انتقام الرومفي الحسبان.. وقد
ففكرتُ في الأمر.. وسَأُبْقِي معك أغلب جنودنا وأسلحتهم وعتادهم، ولن أعود إلى
بغداد إلا في بعض المئات منهم.. يؤمنون رحلتي إليها..."
الحاكم : "تعود بألف سلامة يا
مولاي..."
عاشت عمورية في ظل حكم المسلمين، وفي ظل
حكم هذا الرجل المؤمن في أمان، واستقرار، وعدل شمل المسلم وغير المسلم من سكانها، حتى
إن كثيرا من الروم الذين فضلوا البقاء في المدينة بعد فتحها، قد التحق أغلبهم
بالإسلام.. لما انبهروا بعدل المسلمين، وسماحتهم، وتعايشهم مع غيرهم ممن يخالفهم رغم غلبتهم...
لقد وجدوا الحياة في ظل هذا الدين تحفظ
الحقوق، وترفع الكرامات، فلا يجوز للمسلم أن يقتل أحدا ولو كان مخالفا له في
الدين.. كما لا يجوز الانتقاص من كرامته بشكل من الأشكال.. حتى أنه لا يجوز للمسلم
أن يتكلم في غيبة الآخر بما يكره، أو يمس عِرضه بسوء.. واعتبر كل ذلك من الكبائر
التي تدخل النار...
كما يحرم على
المسلم أن يحقر أخاه أو يظلمه أو يُسْلِمَه إلى عدُوِّه... فأعجب هؤلاء بالقيم
الجديدة عليهم، كإغاثة اللهفان، وتستر المسلم على أخيه، وعدم السعي في إفشاء
خطاياه بين الناس.. فدخلوا في دين الله أفواجا... والذين بقوا على دينهم، حفظت
حقوقهم، ولم تدنس كراماتهم، وعاشوا مع المسلمين وتحت حكمهم في تعايش وسلام...
فتحت عمورية بفضل امرأة مؤمنة، عزيزة
عِزَّة المؤمنات الصادقات، وبفضل رجل فَذّ استرخص كل شيء ، أهله وماله ونفسه في
سبيل الانتصار لهويته وعقيدته ودينه في شخص امرأةليس بينهما سابق معرفة فضلا عن
القرابة والنسب. وبفضل حاكم مسلم يستحضر موقفه أمام الله يوم القيامة،وسؤاله عمن
استرعاهم في فترة حكمه.. يستلهم قراراته من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه
الراشدين..
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire