dimanche 20 janvier 2019

أمي




الحرج الذي أفاض الكأس

             كان في إحدى البلدان العربية طفل يتابع دراسته في مؤسسة كانت أمه تشتغل طباخة في مطعمها.

             كان الطفل يعيش، مزهوا بنفسه بين زملائه، قويا، يسبق من سابقه، وذكيا يفحم من ناضَره أو تطاول عليه . لا ينقصه شيء، ولا يشكو من شيء، إلا أنه كان يحس بالخجل، والضيق من أن أمَّه كانت بعين واحدة.

وكان يخشى أن يطَّلع زملاؤه على الذي كان يعمل جاهدا على إخفائه عليهم، ألا وهو عدم معرفتهم بأمه، وبحال أمه، وعين أمه...
 فإذا ما انشغل باللعب  في ساحة المدرسة يَبقى حذِرا، مترقبا، خشية أن تفاجِئه أمُّهُ بين أصحابه، فيعرفوا أن صاحبة العين الواحدة طباخة مطعم المدرسة هي أم زعيمهم أحمد.
        
         مرَّتْ الأيام، وتتابعت الشهور، وأحمد سيِّد بين أصحابه، رئيس لهم إذا تعلق الأمر بالدراسة والتحصيل، ورائد لهم في ميدان اللعب، والجَري، والكرة، وسَيِّدُهم في المجالس والحديث.. مسموع الكلام في اتخاد القرار في بدء اللعب أو الانتهاء منه، وفي الضحك أو الإحجام عنه..
 إلا أن هاجس أحمد الذي لا يفارقه، ويؤرقه، ويقضُّ مَضْجَعَه، ويُحسِّسه بنقصه أمام أصحابه.. هو أنَّ أمَّه بعين واحدة...

         ذات يوم، انتهت الأم من عملها في مطبخ المدرسة مبكرا على غير عادتها، وأرادت أن تغادر إلى البيت، فأحبت قبل ذلك أن تَطْمَئن على ابنها وتُعْلمَه بمغادرتها.

في الساحة كان أحمد منشغلا باللعب مع أقرانه، وأقرانه منشغلون معه، يستمتعون بوقت الاستراحة، فلم ينتبه أحد منهم إلى المرأة التي تخترق صفوفهم، متوجهة صوب أحمد، حتى فوجئوا بصوتها وهي تنادي:
" أحمد . أحْمدُ يا بني ..."
وهي تحاول أن تأخذ بدراعه، وبعد أن تمكنت منه  أبلغته بما كانت في حاجة إلى إبلاغه إياه.
انتبه كل الأطفال مع أحمد إلى المرأة، ولم يَخْفَ عليهم  أن المرأة ليست غريبة على أحمد.. وأصبح لديهم اليقين أنها من أقاربه.. لأن هذه الأخيرة تُكَلِّم أحمد بصيغة تُفْهِم أنها تعرفه، بل إن بينهما أكثر من المعرفة.. لكنَّهم استبعدوا أن تكون أمه.. إنها بعين واحدة.
واصلت الأم مخابرة ابنها.. وهي تشْعُر بالاعتزاز.. أنَّ لها ابنا يدرس مع زملاء من أبناء الأعيان...
 وهو يتمنى رحيلها بسرعة قبل أن ينتبه الأطفال إلى ما يحرجه فيها.
أصبح الأطفال على يقين أن المرأة هي أم أحمد.. ودون تفكير، ولا تقدير، صاح أغلبهم بسخرية واستهزاء: " يا.. أمُّه بعين واحدة.. يا أم أحمد بعين واحدة.."
وكأن بعضَهم كان ينتظر فرصةَ ينال فيها منه، وينزله من مكانة الريادة والزعامة بينهم، والتي ضَلَّ يتربَّع عليها...

                   حَصَل ما كان يخشاه أحمد، وعَرَف أصحابه شكل أمه، وتأكدوا أن طباخة مطعم المدرسة ذات العين الواحدة هي أمه...

                   غضب أحمد غضبا شديدا، وصاح في وجه أمه:
" ماذا تريدين ؟
اتركيني وشأني..
ابتعدي عني..
لا أريدك...
وصاح في أصحابه:
" أوغاد .. اسكتوا.. اللعنة..
وانطلق يجري مبتعدا عن أمه وعن أصحابه، والخجل منهم يقتله.. والحسرة تمزق قلبه.. ويقول في نفسه:
"عُرِف سرِّي.. يا للخجل.. لمْ يَعُد لي مكان بينهم ..." واستمرَّ في ترديد مثل هذا الكلام إلى أن توارى عن أنظار أصحابه، فانزوى في مكان من المدرسة لا يراه فيه أحد...

لا بد من المغادرة

                   كان أحمد عندئذ يحمل في قلبه حزنا كبيرا، وكمدا موجعا، الشيء الذي جعله يفكر في ترك المدرسة في أقرب الآجال، مقدمة للتفكير في البعد عن مصدر خجله بالمرة: ألا وهي أمه التي يخجل من كونها بعين واحدة، فلا يقبل أمام أصدقائه ومعارفه أن تكون أمه على ذلك الحال.

                   لَمْ يكن لأحمد بد من أن يبقى في المدرسة – على الأقل- إلى آخر السنة الدراسية، وعليه أن يصبر ويتحمل سخرية أصحابه منه ومن أمه.
لم يكن له في ذلك خيار، لكن عينه قرت نوعا من القرار بتقليد كانت المدرسة تتبعه تشجيعا للمتفوقين، فالكل في المدرسة وخارجها يعرف أن إدارة المدرسة تعطي في آخر السنة منحة لمتابعة الدراسة في بلد آخر من اختيار المرشح، وكان ذلك لمن توفرت فيه الشروط.

                   ركز أحمد نظره وتفكيره على المنحة، ورأى أن فيها خَلاصَهُ مما يجد من معاناة أصلها أمه ذات العين الواحدة..
وظل يشتغل في صمت، يجتهد، ويثابر، ولم يكن مستعدا أن يخسر هذا الرهان.. الذي يرى فيه سبيل الخلاص الوحيد من معاناته، وحرجه من معارفه الذين أصبحوا على علم به وبأمه..
                  
                   انطلقت أسارير أحمد، وانفرجت أزمته،  فهو الآن يحلم بالانتقال إلى بلد آخر بعيدا عن أمه وبعيدا عن أصحابه الذين عرفوا أمه بعين واحدة.

                   كان على أحمد- ليحصل على مبتغاه - أن يكون متفوقا على الجميع في المدرسة.. فانقطع للدراسة، وقاطع اللعب مع أصحابه، وأصبح شغله الشاغل هو أن يفوز بالمنحة للخلاص من همه الذي يؤرقه.

                   بدا أحمد من يومها جادا، لا يهتم بغير الدراسة والتحصيل، حتى أن مدرِّسيه لاحظوا ذلك عليه، كما أحس أصحابه بتغيُّره كذلك.. فأصبح جادا، ومتابعا لدروسه، مواظبا عليها.. يستميت في إنجاز ما طلبه منه مدرسوه...

                   نجح أحمد في آخر السنة بمجموع جيد كان هو الأعلى في المدرسة على الإطلاق، وقررت المدرسة إعطاءه منحة التفوق التي تؤهله إلى السفر إلى الخارج بعيدا عن بلد مَتاعِبه.

                   فرح أحمد بما وصل إليه فرحا كبيرا لأنه –أخيرا- سيتخلص من عقدته مع أصحابه.. وهناك لن يعرف أحد أنه ابن المرأة ذات العين الواحدة. وأخيرا تحرر مِما يقُضُّ مَضْجَعَه.

                   وبالمقابل فرحت أم أحمد بنجاح ابنها كثيرا، وبشكل لا يوصف وقالت:
" حمدا لله تعالى الذي سيعوضني بابني الوحيد الذي أكرمني به.. فنعم المولى الكريم المتعال.."
وضلت تردد دعوات مصحوبة بالدموع، وتشكر الله تعالى على توفيقه، وتحمده على امتنانه وعطائه.. فأخيرا سيعوضها بابنها الوحيد.. الذي ليس لها أحدا من دونه...

لكنها وبقدر ما فرحت ورفعت رأسها بحصوله على منحة المدرسة دون زملائه، بقدر ما حزنت.. لأن هذه المنحة ستفرق بينها وبين ابنها زمنا لا تدري متى ينتهي...
 ولم يبدد حزنها إلا أن سنوات الفرقة ستنتهي بانتهاء الدراسة ويتم اللقاء بينهما من جديد، وعندها لا يفرق بينهما إلا الموت.

هكذا كانت تعتقد.. ولم تتصور أن ابْنَها الوحيد هذا يستعرُّ منها.. ويحاول البعد عنها، مدعيا أنها سبب شقائه وسط معارفه...

مِحْنَةُ البعد

         حان وَقْتُ سفر أحمد إلى البلد الذي سيتابع فيه دراسته.. وكان فرَحُه  يزداد كلما اقترب وقت الرحيل.. وبالمقابل كانت أمه تزداد لقُربه ألَما، وحُرقَة..
 وخصوصا كلما قَلَّب الإبن يديه مستثقلا حركة عقارب الساعة.

         ذهب أحمد إلى البلد الذي يكون فيه بعيدا عن أمه، وبقيت هي وحيدة في بيتها القديم، فلم يكن لها في هذه الدنيا بعد الله إلا أحمد، فكانت تستأنس بالأطفال في المدرسة، وكان ذلك يسليها عن شوقها اللامحدود لوَحِيدِهَا في هذه الذُّنْيا...
لكنها سرعان ما تقاعدت عن العمل في المدرسة، ولم يكن قد مرَّ وقت طويل على سفر ابنها فازدادت وحدتها، وطال يومها، وتوحش ليلها، ولم تعد تفرق بينهما... فكبر همُّها، وتَسَعَّرَ كَمَدُها...
فهي في البيت طول الوقت، لا يزورها أحد، ولا تزور أحدا، إلا من خروجها بين الفينة والأخرى إلى حديقة بالقرب من منزلها.. لكنها سئمت من الجلوس فيها طول الوقت.. فلما كانت تعمل في المدرسة كانت تستأنس بالأطفال وتحاول أن تجد لها بينهم من يذكرها به، وبشقاوته، ومرحه، وصورته...
 أما أحمد.. ما إن سافر حتى  انقطعت أخباره، واشتاقت الأم إليه، لأن غيابه عنها يكون للمرة الأولى .. ولم تصبر على غيابه..

أَصْبَحَت السآمةُ تلازم ليلَها ونهارَها، ولم يعد يَشُدُّها إلى الحياة إلا ابنُها الوحيد أحمد، فكلما ذهب تفكيرها إلى عودته من هذا البلد.. كلما تصورت أن فرحتها بعودته، وبهجتها بلقائه لن يكون لها حدود.. حينما يعود بالشهادة العلمية التي سترفع رأسها عاليا بين الناس...

قرار مكرهة...

                   انقطعت أخبار أحمد عن أمه، كما انقطعت أخبار أمه عنه، ودام ذلك سنينا لم تقْوَ المرأة عليه...
 لكن أحمد استمر في غربته على الاجتهاد، وواصل التحدي الذي قطعه على نفسه، وظل مثابرا، متفوقا بين أقرانه.. وفي الأخير نجح ، وتخرج مهندسا كبيرا..

فرح المهندس بنفسه كثيرا وتمنى لو أن أصحابه القدامى يعلمون بما وصل إليه.. وكأنه بالفعل في حاجة إلى أن ينتقم لنفسه منهم.. فهم في نظره كانوا يستصغرونه بسبب ما عرفوه من أن أمه كانت بعين واحدة..
ولم يجد صعوبة في أن يرتبط بفتاة تزوج بها بعد ذلك، لقد أصبح مهندسا..
ولم يمر وقت طويل على زواجه حتى رزق بالولد.. وكل هذا والأم الحنون تنتظر في البلد الأم...

تذكر أحمد أمه، وتخيل أنها ستفرح كثيرا بأمر تخرجه.. لكن سرعان ما تراجع عن التفكير في ذلك، وتذكر الحرج والضيق الذي كان يجده من الناس بسببها.. فكف عن التفكير في أمرها..

 فضل أحمد البقاء في البلد الذي درس فيه حينما خُيِّر بين الرجوع إلى بلده، أو البقاء هناك، وتخيَّل أن حَرَجَهُ بأمه ذات العين الواحدة - وهو مهندس- سيكون أشدَّ من ذلك الحرج الذي أحسَّ به في السابق وهو طفل بين الأطفال في المدرسة، ففضَّل المُكوث في بلد غريب، بدل أن يعود إلى حيث يَعرف الناس أن أم المهندس هي صاحبة العين الواحدة..

                   اشتغل المهندس هناك، وجعل لنفسه أهلا وأحبابا وأصدقاء، لايعرفون أمه.. ولا حتى أصله.. وبنى معهم علاقات جديدة أغنته عن حياته السابقة... فلم يعد يفكر في  بلده.. ولو حتى في رؤية أمه.. التي تنتظر عودته على أحر من الجمر.

                   بدأت أم أحمد تطعن في السن، وتخشى أن يسابقها الموت قبل أن ترى ابنها وحيدها في هذه الدنيا.
قلقت كثيرا بسبب تأخره في العودة إليها.. وكلما ساورتها أفكار من قبيل أن ابنها قد نسيها، أو التهى بزوجة ودنيا.. كانت تطردها مرددة:
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ومستبعدة ذلك، لا تريد الخوض فيه مخافة من أن تقتنع به..

ولما طال انتظار الأم، وأصبحت ظنونها تطاردها، وتسيطر على تفكيرها، قرَّرَت ألا تبقى مكتوفة الأرجل، وتسافر إليه هي، لترى ما الذي أخَّره عنها.
ورغم أنها لم تكن تعرف، لا عنوانه، ولا مقر عمله.. ورغما عن عجزها، وكبر سنها..

المفاجأة الكبرى

 قررت الأم أن تسافر للبحث عن ولدها في البلد الذي سبق وأن سافر إليه للدراسة.. تقودها الأمومة التي لا تعرف المستحيل، حينما يتعلق الأمر بفلذات الأكباد، ويدفعها الشوق الذي لا تعرف له حدودا لابنها الذي لا تملك في الدنيا سواه.

                   أغلقت العجوز باب بيتها، وجمعت ما بقي من قوتها، وقصدت البلد الذي يحجب عنها ابنها، فلم تعرف له طريقا، لأنها لم تكن تملك شيئا يدل عليه.. لا هاتفه، ولا عنوانه، ولا مَقَرَّ عمله..
لكنها لم تيأس من العثور عليه، وضلت تكابد وتبحث، وتسأل حتى اهتدت إلى بيته، وعرفت عنوانه..
 وأمام باب بيته.. وقفت تلتقط أنفاسها، ولم تستطع أن تطرق الباب، خوفا من المجهول.. الذي يمكن أن يكون وراء غيابه عن أمه من مثل: مات..- لاقدر الله.. أو مرض مرضا أقعده عن السفر إليها.. أو سجن...
في الأخير طرقت الباب.. وهي لا تقوى على انتظار فتحه.. وتستثقل لحظة أهل البيت...
وتستعد للقاء ابنها، وحيدها، الذي تكاد تموت من الشوق إليه...
كانت الأم مرتبكة لا تعرف ما الذي ستعرفه بعد فتح الباب... واستعدادا لمقابلة ابنها وحبيبها الذي غاب عنها سنوات.. كانت تهتز من ذلك الشعور الغريب الذي كان ينتابها في تلك اللحظة...
كان أحمد في البيت.. مع زوجته وأولاده.. لم يكن قد مر وقت طويل على دخوله من عمله...
تساءل أحمد:
" من يكون الطارق يا ترى؟"
توجه إلى الباب ليفتحه، وتوجه معه صغاره كذلك، وفتح الباب، فانفلت الصغار من بين رجلي أبيهم لمعرفة من يطرق الباب..
نظر أحمد.. ونظر الصغار إلى المرأة بالباب... وساد الصمت بينهما.. وأحمد يتفحَّص وجه المرأة التي لم تُذَكِّره إلا بحرجه من أصحابه...
المرأة الأم من جهتها يكاد يتوقف قلبها عن النبض، تقلب النظر في ابنها، وتوشك أن تضمه إليها وتبكي كما كانت تفعل من قبل، وكأنها تقول بلسان حالها:
" ما أسعدني بك يا حبيبي يا أحمد.. صِرْتَ رَجُلا.. و و.."
اخترقت صمت الأم وصمت ابنها كلمات صغيرة تفوَّه بها أطفال أحمد ساخرين من المرأة التي لا يدرون أنها جدتهم أم أبيهم:
"يا.. امرأة بعين واحدة.. امرأة بعين واحدة ...هيء هيء هيء." وتتابعت ضحكاتهم...
أحس أحمد بالخجل الذي كان قد فارقه مند سنوات يعود إليه، وذكرته كلمات أبنائه بما كان قد تفوَّه به أصحابه في المدرسة حين قرر الرحيل هروبا من الخجل الذي يَلحقه من أمه ذات العين الواحدة.

أسرع أحمد في إدخال صغاره بشيء من العنف جراء ما أصابه من الغضب.. وأغلق الباب عليهم حتى لا يعلموا من أمر المرأة شيئأ. وتوجه إلى أمه بغضب خافتا صوته حتى لا تسمع زوجته وأولاده ما يدور بينه وبينها..  وخشية أن يعرفوا أن العجوز هي أمه، فيحرجوه بالسؤال عن أمرها...قائلا:
" لماذا جئت ؟
ماذا تريدين ؟
أو تريدين تحطيم حياتي هنا أيضا ؟
اذهبي عني.. لا أريدك.. كفا ما لحقني منك في البلد... زوجتي لا تعرفك، أبنائي لا يعرفونك..."

تلقت الأم كلام ابنها وكأنها خناجر تطعن قلبها واحدة تِلْوَ الأخرى، بشكل متسارع لم يترك لها الوقت للكلام والتساؤل.. والتذكير، واللوم، و و و.

"يا للفاجعة.. ما الذي أصاب أحمد؟؟
وما الذي حدث في الدنيا؟؟"
أحست الأم الحنونة على ابنها  مهما يكن..- من خلال كلامه الخافت رغم غضبه - أنه يخشى من أن تسمع زوجته كلامه إلى أمه ففضلت الانسحاب دون أن تتسبب له في الحرج معها.. وقالت بصوت مسموع:
" سامحني يا ولدي لقد أخطأت العنوان"
لم تكن لتسمح لنفسها أن تسبب لولدها حرجا مع زوجته، ولا مع أولاده، ولا مع الناس...

زهدت الأم في الحياة

                   انصرفت الأم بخطوات بطيئة متثاقلة، وكأن المرأة أحست بدنو أجلها، لقد زهدت في الحياة، بعد أن سمعت ما سمعت من ابنها الذي من أجله - من قبل - تمسكت بالدنيا.
لكنها تجد نفسها الآن غير راغبة فيها.. وكادت تنهار أمام بيته.. لولا أنها استماتت وقاومت حتى لا ينفضح أمره أمام زوجته..
فالأم تفكر في صالح ابنها حتى في مثل هذه الأوقات... يا لرحمة الله التي بثها في قلوب الأمهات تجاه فلذات أكبادهم..

                   عادت الأم المكلومة إلى بلدها وبيتها، وحزن الدنيا يملأ قلبها..
 فاسودت الحياة في عينها، وقلت رغبتها في الطعام،   وغاب عن جفونها المنام.. وكأنها اصبحت أقرب إلى الموت منه إلى الحياة...
انقطعت أخبارها عن ابنها، كما انقطعت أخباره عنها. وبعد مرور الوقت، وصلت إلى أحمد برقية عمل تقتضي أن يسافر إلى بلده الأم.. وذلك لغرض استثماري يخص الشركة التي كان يشتغل لحسابها...

كره أحمد العودة إلى حيث تسكن أمه، ويعرف الناس من يكون.. لكنه لم يجد بدا من الامتثال لرؤسائه فيها حيث وجدوا أنه الرجل المناسب للمهمة المطلوبة..

سافر أحمد ممتثلا لأوامر رؤسائه في العمل رغم ما يجد في نفسه من كراهية لذلك، وهناك دفعه الفضول إلى المرور بالبيت القديم حيث كان يسكن مع أمه ليعرف ما الذي حلَّ بالعجوز..

                   وقف أحمد أمام باب البيت مترددا: أيطرق الباب أم لا؟
خشية أن يفاجأ بشيء..
يحس بمشاعر مختلطة، جمعت بين الشوق لأمه، وكراهية ما يجده منها من حرج أمام الناس بسبب انطفاء إحدى عينيها..

وفي الأخير قرر أحمد أن يطرق الباب مهما تكن النتيجة.. فطرق الباب، ثم طرق مرة أخرى بشكل أشدّ قليلا، لكن لا أحد يجيب، واصل الطرق.. حتى أن أمر طرقه الباب وصل إلى الجيران، فخرجت إحداهن تسأل عن الطارق، وقالت له:
" أو تريد صاحبة البيت ؟
 قال: " نعم .. إنها لا تجيب."
قالت : " لعلك ابنها أحمد ؟"
 قال: "نعم."
قالت متأسفة: " لقد ماتت."
أحمد: " ماتت.."
 " وقد تركت لك رسالة... سأخرجها لك."

الرسالة

لم تتأخر الجارة في إحضار الرسالة، في ظرف بدا عليه التقادم...

أخد الظرف من الجارة، منتزعا إياه، وبدأ في فتحه متلهفا لمعرفة ما فيه.. وعند فتحه، وجد بداخله ورقة بيضاء مكتوبة بخط رديء .. فلم تكن الظروف قد اسعفت أم أحمد لتتعلم في المدرسة إلا مما أخذته وهي تشتغل طباخة في مطعمها...
 لكن أحمد لما قرأ ما في الورقة وجد أمه قد ضمنتها عبارات مشبعة بالحب والشوق والمشاعر الرفيعة التي ما كان ليكتبها إلا متعلم حاصل على أعلى الشهادات..
إنها مشاعر أم بلغ بها الشوق إلى ولدها مبلغه، فحمَّلت الورقة من ذلك ما تنوء بحمله الجبال الرواسي..
لأنها وصلت إلى درجة اليقين أنها لن ترى ولدها في حياتها، لذا كانت تريد من الورقة أن تنوب عنها في نقل ما تُكِنُّه له من حب، وشوق، ووَجْد، وووو من مثل:

" يا بني.. لقد اشتقت إليك كثيرا، بل أكاد أموت من شوقي إليك، لأنه ليس لي بعد الله إلا أنت.

يا بني.. لقد انتظرت رؤيتك طويلا.. وكنت أُمَنِّي نفسي بِطلَّتِك علي كل يوم.. لكن دون نتيجة.
يا بني إنك لا تعلم أنه كَبُر سني، وضَعُف بصري، وقَلَّ سمعي، ولم يعد يشدني إلى هذه الحياة إلا أنت، استمتع بطلعتك علي، وأكحل عيني برؤيتك، ولا أقطع الأمل في أن أراك،
كانت نفسي تحدثني كل لحظة بأن مجيئك إلي قريب...
ولما أحسست بدنو أجلي.. سارعت.. فكتبت لك هذه الكلمات..
يا بني.. إني أحبك كما لم تُحِبَّ أم ولدها...
 فأنت وحيدي في هذه الدنيا، وأنت صغيري، وأنت أملي بعد الله..
يا بني.. لقد حان الوقت كي أخبرك بشيء كنت قد كتمته عنك من قبل.. وقد آن الأوان لأخبرك به.

لقد تعرضت في صغرك لحادث أليم، فقدت على إثره عينك...
 فطار عقلي.. وفقدت صوابي، لما علمت من طرف الطبيب بذلك..
وما حفف ألمي إلا لما أخبرني الطبيب أنه بالإمكان أن تزرع له عين أخرى إن توفر المتبرع بها...
 فلم أتردد في قلع عيني وإعطائك إياها.. وكم كنت فخورة بك بعد ذلك، وأنت ترى الدنيا بعيني، وأرى أنا الدنيا بك..."

                   لم يكمل أحمد قراءة الورقة حتى تهاوى مغشيا عليه لما عرف فداحة الجرم الذي ارتكبه في حق أمه وفي حق نفسه..
بادرت المرأة التي سلمته الظرف بالدخول إلى بيتها وأخرجت إنائا من الماء وأفرغته على وجه وجهه وهو ملقى على الأرض.
ولما استعاد وعيه وفتح عينيه وصرخ صرخة مدوية جمعت عليه الناس                                         : أميييييييييييييييييييييييييييييييييييييييي ي ي ي ه ه ههههه. واستمر في بكاء لا يستطيع به أن يرد الزمن إلى الوراء لكي يُعوِّض أمه عما سببه لها من آهات... لكن هيهات... قد ماتت.. وانقضى أجلها...
فلم يعد له سبيل إلى بِرِّها، والتقرب إلى الله تعالى بذلك.. لقد ماتت التي كان يُرحم بسببها...

قال تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا...)

وقال: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة: " من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
قال أمك.
قال ثم مَن ؟
قال أمك.
قال ثم مَن ؟
قال أمك.
قال ثم مَن ؟
قال أبوك.

    












طوبى للتائبين


تتحدث القصة عن أحد علماء الأمة الإسلامية من تابعي التابعين، تدور أحداثها في شبابه وبداية حياته.. وكان اسمه مالك بن دينار...

         كان شابا ضخما، زاده الله بسطة في الجسم.. و كان يشتغل كصاحب الشرطة في السوق، يسهر على أن تمُرَّ العمليات بين التجار بأمان، يحارب الظلم و ينصر المظلومين..

في السوق

 كان شديدا على الناس، بالشكل الذي يفرضه عمله... فهو صاحب الشرطة، المستأمن على العدل وتكافئ الفرص بين الأطراف في السوق، بل كان يزيد على ذلك، حتى عُرف بين الناس بقسوته، وغلظته...
فكان الناس يخشونه...  فكلما بدا لهم يسعى باتجاههم.. عملوا على توسعة الطريق له، تجنبا لشره، وتوقيا لبطشه.. و كلما تباطؤوا في ذلك، أبْدا لهم غِلظته، و فظاظته، و ربما أوسع بعضهم ضربا ...

         و فوق هذا و ذاك... كان أعزبا غير متزوج.. يعيش لوحده.. ويتكفل بنفسه فيمتعها كما شاء.. ولذلك كان يشرب الخمر كشرب البعير للماء.. وكان يعقد لذلك جلسات بين الفينة والأخرى، كانت تعد من أمتع جلساته التي التي كان يُرْضي فيها نفْسَه ويُسَلِّيها...

         و ذات يوم وهو في السوق على حاله ككل يوم، يراقب التجار وهم يمارسون أنشطتهم التجارية.. حيص على السير العادي للسوق..
إذا به يرمق رجلين، يتناوشان، و يهدد أحدهم الأخر.. ففهم بحكم تجربته و تخصصه، أنهما يتنازعان حول شيء ما يتعلق بالبيوع، والمعاملات داخل السوق...

         تقدم نحوهما بِتأنِّ، وذلك ليعرف السبب الذي جعلها في تلك الحالة.. حيث يتحدى أحدهما الآخر.. ويغلظ له الكلام.. فما الذي يدفعهما إلى النزاع...

قبل أن يستجوبهما، فهم أن أحدهما يريد أن يغمط الأخر في حقه. وبحكم مهنته التي قضى فيها زمنا.. قرر أن ينصر المظلوم و يأخذ حقه من الظالم.. لأن هذا هو عمله.

كان أحد الرجلين بَدِينا تبدو عليه النعمة.. وكان الآخر نحيفا.. ضعيفا يبدو عليه الفقر، وتفوح من مظهره رائحة الفاقة...

لما أحس الرجلان بوجود مالك.. خفضا من رفع صوتهما.. و التزما الهدوء تجاه بعضهما، خوفا منه، ومراعات لوجوده.. و بدءا يشرحان.. كل منها يسابق خصمه في ذلك ...

 لكن مالك أسكت من ظن أنه المظلوم منهما، و أعطى خصمه الفرصة للدفاع عن نفسه..  
لكنه حين تكلم لم يكن مقنعا لمالك.. فتأكد له أن الضعيف الهزيل هو صاحب الحق ، فلم يتردد في نهر الذي ظن أنه معتد منهما وتبدو عليه النعمة، و توبيخه، و تهديده بالعقاب إن هو عاد إلى ذلك مرة أخرى ...

 و توجه إلى الرجل الضعيف صاحب الحق، و حاول أن يُهَدِّئه و يؤمن حقه..

فرح الرجل كثيرا بحقه الذي أُرْجِع إليه.. و رفع يديه إلى السماء يشكر الله تعالى، و يدعو و يقول:
"اللهم إنك تعلم أنني لا أدخل إلى هذا السوق.. إلا لأحصل منه على ما أفرح به بنياتي...
اللهم لك الحمد على نعمك.. ولك الشكر على توفيقك .."
الهم جازي هذا الرجل (يقصد مالكا ) عني خير الجزاء.. فقد رد حقي، وساعدني على رزق بناتي.. اللهم بارك له أولاده...

كان مالك يريد أن يرد على الرجل ويقول له بأنه غير متزوج، وليس له أولاد.. لكنه وجد أن الأمر لا يستحق.. قاطعه مالك و قال له :
أيها الرجل.. أو يستحق هذا الذي ذكرت أن تخوض من أجله عراكا مع مثل خصمك هذا..

أجاب الرجل بصمت مسموع.. ونظرات معبرات.. كادت دموعه تسبقه، وتدرف من عينيه...
فهم مالك من كل ذلك مدى تعلق الرجل ببناته.. واستماتته في إرضائهن، وسعادته الكبيرة بفرحهن...

"يا هذا.. إذا ذهبت، وفرَّحت بنياتك.. قل لهن يدعون لي دعاء يخلصن فيه " ثم  انصرف مالك .. و انصرف الرجل إلى بيته.. مسرورا بما تحقق له من السوق ...

أفرح بنياتي..

ذهب مالك إلى حال سبيله، و في أذنيه تترد عبارة الرجل:
"..أفرح بنياتي .." و يتعجب : كيف أفرح بنياتي .. أو يستحق تفريح البنيات أن يتعب الرجل من أجله ؟

في الحقيقة أُعْجِب مالك بهذا الرجل.. و اهتم بأمره.. و ضل يفكر فيه.. وفي حبه لبناته.. وسعادته بهن.. الشيء الذي كان يفتقده مالك رغم أنه يملك من أسبابها ما لا يملكه هذا الرجل الضعيف، من قوة، ومال، وما يدور بينهما...
كان مالك أعزبا.. لم يتزوج بعد... لا يعود إلى بيته إلا في آخر النهار...
 فلما دخل البيت يتفقد مأكله، ومشربه، ومجلسه.. كانت عبارة الرجل:
"أفرح بنياتي" لا تفارق أذنيه.. وتتردد فيها...

  أعدَّ جلسته.. التي يجلسها كل ليلة ليشرب الخمر شرب البعير للماء.. وكان تفكيره منشغل بأمر الرجل و بُنيَّاته..

ظلَّ مالك على هذا الحال مدة من الزمن، حتى حُبِّب إليه أمر البنات، و تمنى لو كانت له بنات يفرحهن.. و يفرح بهن، و حاول أن يتصور الوضع مع وجودهن..  سيفرحه وجودهن لا محالة..

قرَّر مالك أن يتزوج،  طمعا في أن يرزق بالذرية.. تملأ عليه دنياه التي أصبحت رتيبة.. يستوي ليلها و نهارها، و لا يميزهما إلا جلسته ليشرب الخمر يَشْرَبُها شرب البعير للماء.

تزوج مالك، و قرَّت عينه بزوجته، و لكنه بقي على حاله، يشرب الخمر كالعادة كما يشرب البعير..
فلما اقترب وقت وضعها.. كان متوترا.. يعود إلى البيت مبكرا على غير عادته.. يتوقع كل يوم أن يعود إلى البيت فيجد عنصرا جديدا قد حل بالبيت...
وظل يراقب.. و عينه على حمل زوجته ينتظر ولادتها...
و هو يهفو إلى ذلك اليوم الذي يصبح فيه أبا.. يزدان بيته بصغير او صغيرة يَفرح بها، و يفرِّحها.. وذلك بإحضاره كل ما تشتهيه مما يحبه الصغار من حلوى و غيرها.

تغير مالك في كثير من سلوكاته بعد زواجه، وقربه من أن يصبح أبا... لكنه ظل يشرب الخمر شرب البعير للماء...



مولودة مباركة

 لم يطل انتظار مالك للمولود الذي سيغير من حياته.. ولدت زوجته طفلة جميلة فرح بها مالك فرحا كبيرا و سماها "فاطمة".
تغير مالك بوجود فاطمة.. على الأقل، أصبح يعود إلى البيت كلما سمح له العمل بذلك.. على عكس ما كان غليه من قبل..
 أصبح يشتاق للعودة إلى البيت لرؤية فاطمة، و اللعب معها، و الاستمتاع بوجودها.

 ظل مالك على حاله مع الخمر، يشربها شرب البعير.. ويأنس بشربها، وينتشي بالجلوس إليها..
 بلغت فاطمة السعي.. و أصبحت تستطيع أن تقف، و تتقدم بعض الخطوات فتسقط ثم تقوم.. فتخطو مرة أخرى.. و ظلت كذلك حتى خطت دون أن تسقط، فأصبح بإمكان فاطمة أن تتحرك في البيت باحثة عن أبيها. لقد كانت تحبه كثيرا... وكان هو يحبها كثيرا.. فيسعد بضحكتها الصغيرة، ويعجب لنطقها المتعثر...

         كانت فاطمة كلما عاد أبوها من عمله تلقته بالباب، فتفرح بعودته لأنه عودها أن يعود لها بما يُفرحها .. و كان يفرح لفرحها كثيرا... و كان كلما فرح لفرح ابنته.. تذكر الرجل.. الذي كان سببا في معرفته حلاوة و طعم الفرح بالبنات...

 وإذا عاد إلى البيت استعد لجلسته.. التي ضل وفيا لها حتى بعد زواجه وإنجابه.. كلما فرغ مما يمكن أن يحول بينه و بينها، جلسة قلنا أنه يشرب فيها الخمر شرب البعير.

كانت فاطمة تبحث عنه في البيت، وتأتيه في مجلسه المعهود... و قد اعتادت على ذلن مند بدأت تستطيع المشي لوحدها.
و كانت كلما لاعبته، وهو على ذلك الحال، تعمدت إسقاط كأس الخمر من يده..
و كانت كلما فعلت ذلك به، غضب، و ثار ثورانا يخرجه عما عهدته فاطمة من حنان و حب لها.
فكانت لا تجد بدا من الهرب إلى أمها باكية، خائفة من عقابه.. و يظل مالك في غرفته يزبد و يرغي مخمورا.. إلى أن ينام .
عاودت فاطمة هذا الفعل مرات.. و كأنها كانت تتعمد ذلك رافضة لأبيها أن يكون على ذلك الحال.. من شرب الخمر، و ترك الصلاة...

 و كلما عادت لفعلها، كان مالك يغضب، و يشتم، و ربما تطاول عليها بالضرب، أو محاولة ذلك، مهددا إياها لكي لا تعود إلى مثلها .

فاطمة تغادر..

و ذات مساء كعادته، جلس مالك مجلسه يحتسي الكؤوس تِلْوَ الأخرى.. وقد اشتاق إلى ابنته فاطمة.. ينتظر أن تأتي إليه كعادتها.. لكنها لم تأتي... ولا يعرف ما الذي يحبسها ؟
ويتردد في القيام إليها من مجلسه، إلا الخمر لا يقوى على مفارقتها...
 و ظل يترقب مجيئها.. و يتحسب أن تُسقط كأسه كما تفعل دائما.. فلم تأت.. حتى قلق عليها.. لكنه لم يقم من مقامه لرؤيتها بل ظل في مكانه يبدل الكأس بالكأس..

أخيرا جاءت فاطمة تخطو ببطء، تتوجه إلى حيث يجلس أبوها، بعينين ناعستين، ووجه ذابل.. كأن بها مرضا، فوقفت بباب الغرفة و لم تتقدم..  و نظرت إلى أبيها بنظرات حادة، معاتبة وغاضبة..
اندهش مالك، واستغرب لنظرتها و كأنها تكلمه و تعاتبه على ما يفعله من شرب الخمر... لم تكلمه.. كما أنه لم يكلمها.. أول مرة يحس مالك أنه يخاف منها ومن عتابها.. فقد كان هو الآخر يحس بسوء ما يقوم به.. فكم من مرة تمنى لو أنه استقام إلى ربه، يعبده ويتقرب إليه.. لكنه وجد نفسه ضعيفا أمام حبه للخمر.. لا يستطيع الستغناء عنها...

         ظلت فاطمة البريئة تنظر إليه بنظرات.. زرعت الخوف في أبيها... كانت بالنسبة إليه نظراتٌ مقروءة .. مليئة بالعتاب و المؤاخذة على دوام هذا الحال، و استمرار هذا الوبال...  و كأنها تقول بلسان حالها:
"يا أبي.. يا حبيبي.. يا أغلى ما عندي.. أَوَلم تتعب من عادتك؟؟
 أَوَلم تَخَفْ مِن ربِّك ؟؟
أولم تتذكر مَنِيَّتك ؟؟"
ثم تراجعت فاطمة إلى الوراء منصرفة إلى حيث أمُّها...

بقي مالك على حاله يشرب الخمر شرب البعير.. و كأنه لم يَأْبَهْ إلى رسالة فاطمة الصامتة، التي كانت تحثه على التغيير من حاله قبل فوات الأوان .

في هذه الليلة، التي لا ندري إن كانت مشؤومة على مالك أم كانت مباركة عليه، توفيت فاطمة...
 استيقظ مالك على بكاء زوجته، و نحيبها، و تعبيراتها الصارخة و المعبرة على لوعة فراق فلذة كبدها...
لم يصدق مالك ما سمعه وهولا يفارق مكانه الذي كان ينام فيه و يتساءل : " أهو حلم أم حقيقة ؟؟''

ماتت فاطمة.. يا للمصيبة .. ماتت حبيبتي .. ماتت فاطمتي .. وامصيبتاه .. وبقي يبكي كما لم يسبق له أن كان من قبل...
عاد إلى نفسه قائلا: " حقيقة البقاء لله وحده.. و كل نفس ذائقة الموت''.. حقيقةٌ لطالما غفل عنها مالك.

حزن مالك على فاطمة كما لم يحزن على  أحد من قبلها.. و بَكَاهَا بكاء لم يسبق أن بكى به أحدا...
 و لما انتهى من مراسيم دفنها.. و توديعها إلى الأبد، قرر أن يَسْكركما لم يَسْكر من قبل، فحشد نفسه لذلك، ووَظَّبَ جلسته.. و ظل يشرب الخمر كما لم يشربها من قبل.. بسبب حزنه على ابنته التي كانت تملأ عليه دنياه، و التي أحس معها بسعادة لم يكن يشعر بها من دونها...

بقي مالك  يشرب الخمر، و يرثي  فاطمة.. مرة بالبكاء و النحيب... و أخرى بضَحِكات السَّكارى... إلى أن نام في مجلسه.. فلم يستطع أن يقوم من مكانه، ولم تَقْوَ رِجْلاه أن تحمله...

رؤيا غريبة

 نام مالك و بين يديه زجاجات الخمر الفارغة..  فرأى في المنام رؤيا مفزعة.. كابوس...
رأى أنَّ خلفه ثعبانا  كبيرا فارعا فاه.. يريد أن يبتلعه.. فلم يجد بدا من الهرب منه.. فقام يجري هاربا من الثعبان، و هو يلاحقه.. ولا يتوجه إلى غيره  فيستقصده هو بالذات.. و لا يتحول عن ملاحقته إلى غيره ...

 فظل يجري و يجري.. و يراوغ الثعبان، فيجري يمنة ثم يجري يسرة لعله يثني الثعبان عن ملاحقته، لكن هذا الأخير يريده هو بالذات.. فيتبعه الثعبان إلى اليمين..  و ينعطف مالك يسرة، فيتبعه إلى اليسار...

انقطعت أنفاس مالك و الثعبان يقترب منه.. يكاد يلامسه.. و مالك يجري بأقصى ما فيه من قوة... 
يتصبب عرقا ...
يكاد يموت من الخوف...  
كل مرة يُسَلم بأنه سيكون في فم الثعبان لا محالة...
فالثعبان قوي بالقدر الذي يجعل لمالك أي فرصة في النجاة... سيبتلعه من دون شك...
لكنه يضاعف الجهد.. و يستميت في محاولة النجاة من الثعبان.. لا يريد أن تنتهي حياته بهذا الشكل...
و أثناء ذلك تراءى له شيخ طاعن في السن، يحمل في يده عصا لكن يبدو عليه العجز، و قلة الحيلة.. لكن مالك المتشبث بالحياة استبشر به خيرا و قصده راجيا أن يخلصه من الثعبان الذي يلاحقه بعصاه تلك، التي لم يكن يقدر إلا على الاتكاء عليها.. كان العجوز غير خائف من الثعبان، وكأنه كان يعلم أنه يريد مالكا بالنفس، ولا يريد غيره..
توسل إليه مالك كي ينقده من الثعبان.. لكن العجوز أظهر أنه لا يستطيع ذلك.. وأشار له إلى الجهة التي يستحسن الهروب إليها قائلا:
" لا أستطيع أن أنفعك بشيء.. اجري في هذا الاتجاه.. لعلك تجد من يستطيع إنقاذك ... "
 أبدا الرجل عجزه، و اعتذر للمستغيث اللهفان، و نصحه بالهروب و التوجه ناحية الجبل لعله يجد مكانا يختبئ فيه...
 يئس مالك من الرجل.. و توجه يجري صوب الجبل، و الثعبان يلاحقه، و كل السبل ميسرة له في اللحاق بمالك فالثعبان قوي و كبير الحجم.. ومالك قد كلَّ وتَعِب من شدة الجري لكن حبه للحياة يجعله يقاوم.

فكلما كاد التوقف، والاستسلام من العياء، و انقطاع النفس التفت وراءه ليجد الثعبان قريبا منه يريد التقامه...  جدد مالك قوته وجهده، و أسرع في الجري محاولا الاختباء.. إلا أنه كلما قصد مكانا ما ليحتمي فيه بدا   هذا الأخير أنه لا يصلح مخبئا، و ليس له إلا الهرب إلى اليمين و إلى اليسار و الثعبان يلاحقه، ولا يبدو عليه التعب ..

بدت لمالك و هو يجري غارقا في عرقه و قد انقطعت أنفاسه بعض المساكن في سفح الجبل، فتجدد الأمل في نفسه في النجاة من الثعبان، فقصدها يجري باتجاهها، و الثعبان يلاحقه.. و هو ينظر أمامه مستبينا الطريق، و يقطع نظراته إلى الأمام بالتفاتات متتابعة خوفا من وصول الثعبان إليه..

بدأ مالك يقترب من المساكن ، و ظهر من نوافذ المساكن.. أشخاص من يشاهدون مأساة مالك وهو ملاحق من هذا الثعبان الكبير..
أخذ مالك يستغيث بمن في النوافذ..  لكنه حينما اقترب أكثر ووضحت له الصورة وجد أن اللذين ينظرون من النوافذ إنما هن بنيات صغيرات لا يستطعن له شيئا..
 فخاب أمله في النجاة .. لكن البنيات الصغيرات، نادين بصوت عال وصل إلى سمع مالك:
"يا فاطمة.. يا فاطمة.. أدركي أباك.. أدركي أباك.."

أخرجت فاطمة رأسها من النافذة، و أشارت إلى الثعبان أن توقف. فتوقف الثعبان، و خرجت فاطمة إلى أبيها وهو لا يكاد يقوى على الكلام من انقطاع النفس، و سيلان عرقه... فبدأ يشكو لابنته التي خلصته من الثعبان ما لقي في محنته و يقول:
" يا ابنتي.. كاد أن يبتلعني.. كاد أن يبتلعني.."و كلامه يتقطع بين الفينة و الأخرى من شدة ما يجد و هو يلتقط أنفاسه:
 "يا ابنتي كلما جريت يمينا أجد الثعبان يلاحقني، و كلما ذهبت يسارا تبعني.. حتى أنني وجدت شيخا يحمل عصا.. ظننت أنه سيحميني منه بعصاه.. إلا انه خذلني..
بورك فيك يا ابنتي.. بورك فيك.. أنت التي خلصتني منه، بورك فيك..."
قالت فاطمة بكلام الموقن الواثق من نفسه :
" يا أبتي إن الرجل لشيخ الضعيف الذي لم يستطع حمايتك هو عملك الصالح، و هو ضعيف كما رأيت، لم يستطع لك شيئا...
  و الثعبان الكبير الذي كان يلاحقك، ويريد بك سوءا هو عملك السيئ ، و هو قوي.. يكاد يهلكك...
 يا أبتي.. ألَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ..."
و ظلت فاطمة تكرر هذه الآية على أسماع أبيها حتى استيقظ من نومه و هو يقول :
" لقد آن يا ابنتي.. لقد أن... لقد آن يا ابنتي.. لقد آن."

رجوع مالك ويقظته

وجد مالك نفسه و قد تبللت ثيابه بالعرق كأنه كان يجري حقيقة ...
قام مالك من مكان نومه.. و كان الوقت هو ما قبيل الفجر، فاغتسل و توجه إلى المسجد لصلاة الصبح مع المصلين، فوجد الإمام و قد تقدم المصلين..  
أقيمت له الصلاة.. فدخل مالك مع المصلين في الصف.. فلما قرأ الإمام بعد التكبير.. قرأ نفس الآية التي كانت تتردد في سمع مالك من قراءة ابنته في الرؤيا :
"أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ..."
كان مالك يردد في صلاته وراء الإمام:
" لقد آن يا ربِّ آن... آن يا رب... أستغفرك يا غفار.. تب علي، وارض عني، فإني خائف من عذابك.. "
بكى مالك في صلاته على ما فاته، و استغفر ربه، و خرج منها شخصا أخر غير الذي كان من قبل.. عازم على الاستقامة والتوبة من شرب الخمر، واقتراف المنكرات..

ترك مالك المسجد إلى بيته، و ترك الماضي إلى الأبد، فتوقف عن شرب الخمر، و ندم على عَثَرَاته، وَفجَرَاتِه، وقَرَّر أستبدال ما ضَيَّعه مِن وقت في المعصية بطلب العلم و قراءة القرآن، حتى أصبح شخصا آخر لو كتب لفاطمة أن تراه لما عرفته .
لقد انتهت حياة مالك بن دينار وهو عالم كبير، يعقد مجالس العلم، يعض فيها الناس، ويسعى في توجيههم إلى الخيرات.. مستفيدا من شبابه الذي ضيعه بعيدا عن ربه، قريبا من الشيطان.. تاركا للصلاة، ومقترفا للمنكرات، معرضا عن ربه.. ومقبلا على شيطانه...
قالتعالى:  
" قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ..."
وقال سبحانه:
" و لو أنهم استغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله ثوابا رحيما."        

2 commentaires:

  1. قصة حزينة والله القصة الأولى "أمي" أبكتني والله الله يسامحنا في حق والدينا ولا يآخذنا في التقصير في حقهم ولا ينكر حقهم عليه إلا جاحد وقليل العقل
    أما القصة الثانية قصة "طوبى للتائبين" فهي قصة واقعية أعجبتني لأنها تبين كيف يفتح الله تعالى باب التوبة للجميع حتى أصبح مدمن الخمر من أكبر علماء الأمة في زمانه...
    تبارك الله عليك

    RépondreSupprimer
    Réponses
    1. شكرا حبيبي هذا من فضل الله علينا وعلى الناس

      Supprimer