قصة تقوم على حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسميه العلماء والمصنفون حيث برصيص، والذي يحذر من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك بالله تعالى لأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من الذنوب والمعاصي ، والشيطان عدو الإنسان المبين يسعى جاهدا أن يصل به إلى اقتراف ما لا يغفره ربه فيدخله النار...
والشيطان
حريص على أن يشرك العبد من بني آدم بربه، ولا يكفيه أن يصل به إلى اقتراف ما دون
الشرك من المعاصي والذنوب لأنه يعلم حب الله لعباده وعفوه عنهم .. وهو يعلم كذلك
أن من أشرك منهم ليحبطن عمله وليكونن من الحاسرين. قال تعالى: " ... ولئن
أشركت ليحبطن عملك..."
الشيطان
المتكبر ينطلق في أوهامه وأفعاله من مبدئه المكذوب: " أنا خير منه خلقتني
من نار وخلقته من طين..." سورة الأعراف الآية: 12
انطلاقا من كبريائه يعمل بكل قوة وجهد لكسب التحدي الذي
أعلن عنه في البداية عند غضب الله عليه: "أرايت هذا الذي فضلته علي
لأحتنكن ذريته..."
وقد حذر الله تعالى
الإنسان من الشيطان عدة مرات في القرآن الكريم، من مثل قوله تعالى: " يا
بني آدم لا تعبدوا الشيطان..."
وقوله: " إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا إنما
يدعو حزبه ليكون حزبه ليكون من أصحابه ليكونوا من أصحاب السعير..."سورة فاطر
الآية:6
وقوله : " إن الشيطان للإنسان عدو مبين..."
سورة يوسف.
وقوله: " وكان الشيطان للإنسان خذولا..." سورة الفرقان.
وقوله: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر
قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين..." سورة الحشر الآية:
16
ومثل هذه الآيات كثير.
حلاوة العبادة في الكوخ
في قرية - قديما- ضجر شيخ بقومه يدعوهم
لعبادة الله، فلم يستجب له منهم أحد، و كان فيهم أهله.. لكن الجميع اتفق على عدم
إتباع قول الرجل الصالح.. فاضطر إلى ترك القرية، هربا بدينه، و عبادته، وحتى لا
يصبح مثلهم.
خرج الرجل بعيدا عن القرية و جعل لنفسه
كوخا يعبد فيه الل،ه منقطعا عن الدنيا، زاهدا فيها، يصوم النهار و يقوم اللي ..
أحس العابد بالطمأنينة والراحة في كوخه، واطمأن على عبادة ربه
إذ ابتعد عن الفتن و المشاغل الدنيوية في القرية، من حطام الدنيا و شهواتها و
زينتها.
رغم كل ما يحس به من
الوحدة، والبعد عن الناس، فحسبه ربه، الذي
يؤنس وحدته، و يفرج كربته، و يُذهب همَّه..
في القرية كان الناس غارقين في شهواتهم، معيارهم
الذي يقدرون به النجاح و الفشل بين الناس،
هو الفتن، و الاستمتاع، و الشطارة في الوصول إلى المال، سواء
أكان بطرق مشروعة أو بغيرها.
و كان الشيطان بينهم،
سعيدا بهم، مرتاحا معهم، إذ ترك أهلُ القرية طريق ربهم و اتبعوا طريقه، إلا أنه لا
تكتمل فرحته بهم، ورضاه عنهم، لأن أحدهم لا زال متفلتا من قبضته، وليس على
شاكلتهم. لا تشغله الشهوات، و لا يلتهي بالدنيا و زينتها، و لا بالنساء وفتنتهم ،
يعبد ربه، فيصوم النهار ويقوم الليل.. يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه...
شغل العابد تفكير الشيطان، و قرر ألا يتركه في حاله يعبد ربه،
يصوم النهار و يقوم الليل. لابد من شغله هو الآخر بما شغل به أهل قريته..
في الكوخ كان العابد سعيدا بعبادة ربه، قانعا بدنياه التي إنما
جعلها مطية لآخرته، يطمع في جزاء ربه بالجنة، حيث يدخر له ربه كل ما يفتقده في
الدنيا، من أكل و شرب و لباس و مسكن و نساء و و ...
و كلما كان يشتهى شيئا منها،
منى نفسه بالجنة و شغلها بعبادة الله و طاعته إلى أن يلقاه فتنال نفسه مطالبها..
كان الشيطان قريبا من العابد.. يراه من حيث لا يراه .. و كان يُمنيه
و يَعده و يُسَوّل له، و يبطئه، و يمدحه..
فمرة يعمل على الوقوف في وجه صيامه، و يحبب إليه
الطعام .. و مرة يُكرّه إليه القيام، ويُحَبّب إليه النوم إذا هم بقيام الليل..
و يشغل فكره بالسفا سف، كلما شرع في ذكر ربه.. و يخوفه من الضيف و عابر السبيل..
و كان الشيطان مع كل هذا يفشل في أن يثني العابد عن عبادته ..
فإذا وجد من نفسه حاجة إلى الطعام صام.. و إذا وجدها كسولة عن القيام في الليل
قام.. و إذا شغل لسانه
بذكر غير الله، ذكر الله وحده.. و
إذا مرّ به سائل أو محتاج قاوم نفسه.. و قَهَرَ شُحَّه.. و أعطاه ما بحوزته..
مرسوم ملكي..
احتار الشيطان في أمر
العابد.. و انشغل بقضيته.. فما سبق له أن صادف مثله..
لكن الشيطان كعادته يُصرّ إصرارا كبيرا على
الوصول إلى هدفه، الذي هو صدّ ذرية آدم عن عبادة ربهم .. فهو لا يعرف اليأس أبدا..
يقول: "لعل ابن ادم هذا يصلح لغوايته شيء
آخر غير الذي جربته معه".
لم ينس الشيطان أمر العابد.. و لكنه التهى مع أهل القرية و
غوايتهم و وعدهم، والتزيين لهم.. و
إبعادهم عن ذكر ربهم ..
صادَف انشغال الشيطان بأمر العابد الذي استعصى عليه أمر
غوايته، و صده عن عبادة ربه، أن نشبت حرب بين الملك الذي تتبع القرية مملكته، وحاكم
آخر.. فأصدر على إثرها الملك مرسوما مَفَادُه :
أنه على كل قادر على حمل السلاح، من سكان القرية
أن يخرج إلى المعركة التي ستدور بين جيشهم و جيش عدُوِّهم ...
كان في القرية شابان يتيمان قادران على حمل السلاح.. يجيدان القتال.. ولا يخشيان المعارك.. فكانا
معنيان بالمرسوم الملكي..
و كان يعيشان مع أخت لهما في بيت واحد في هذه
القرية.. كانت بالنسبة لهما الأم الحنونة التي حرما من حنانها منذ أن كانا
صغيرين.. فهي التي تطبخ طعامهما، وتغسل ثيابهما.. وتسهر على راحتهما في البيت...
وكانت جميلة كأجمل ما خلق
الله تعالى من النساء.. كما كانا أخواها يمثلان بالنسبة لها الأب والأم في آن
واحد.. يخافان عليها كثيرا، حتى أنهما مستعدان للتضحية بكل شيء في سبيل الدفاع
عنها...
انشغلا الأخوان كثيرا بأمر بقائها بعد خروجهما
للحرب : مع من ستبقى؟
و مَنْ
سيحميها من ذئاب القرية الذين افلتوا من أن يشملهم المرسوم الملكي، ومن الذين لن
يخرجوا للحرب لسبب أو لآخر؟
فلم يكن من الحكمة أن يخرج كل الرجال القادرين على القتال و
تترك القرية للنساء فقط..
وجد الأخوان نفسيهما في همّ
كبير، وقلق مزمن.. من جراء حيرتهما على أختهما، و عدم قدرتهما على تركها
لوحدها في البيت.. كما لم يطمئنا لتركها عند أحد من أهل القرية ممن جوّز لهم
الحاكم البقاء في القرية..
استمرت حيرة الأخوان وقلقهما.. ووقت خروجهما للحرب يقترب، و
كان الشيطان على علم بما يحدث في القرية، و لا يشغله أمر قدر ما يشغله أمر العابد
الذي انتصر عليه.. وتَمنّع من غوايته...
وجد الشيطان في أمر الأخوين وأختهما سبيلا لبلوغ هدفه.. لأنه قد يصلح لغواية
العابد، خصوصا و أن هذا الأخير لم يجرب معه أمر النساء، و ليس هناك فتنة أشدّ على
الرجال من النساء...
رأى الشيطان أن أخت الشابين جميلة بما يكفي لتصلح شبكة يصطاد بها الشيخ العابد.
بدأ الشيطان يوسوس للأخوين، ويوهمها أنه ليس بإمكانهما أن يتركا أختهما في غيبتهما في
القرية.. وأين سيتركانها ؟ ومع من ؟
لأن أهل القرية.. شبابهم و شيوخهم، من سيبقى
منهم في القرية خلال الحرب أو من سيخرج، كلهم ذئاب لا يُؤْمَنون و لا يُستأمنون..
حتى إذا ما أقنع الأخوين
بالبحث عن مكان آخر غير القرية يتركان فيه أختهما. بدأ يزين لهما أن يتركاها عند
العابد في الكوخ الذي لا يبعد عن القرية كثيرا..
كان
الشابان يعرفان العابد، و يثقان فيه، لأنه إنما هو واحد منهم وابن قريتهم.. انقطع للعبادة، و الزهد في الدنيا، و الترفع عن
إغراءاتها.. و لم يعد ينشغل بشهواتها..
فلن يأمنا على أختهما كما يأمنان عليها معه ... فالرجل بعيد عن كل شبهة..
لم تعد تهمه الدنيا بكل مفاتنها...
معه.. تبقى بأمان
أقنع الشيطان الشابين -
موسوسا- بأمر تركها في كوخ العابد.. ففرحا بذلك كثيرا، و انبسطا له كثيرا.. و
اعتقدا أن أختهما مع الشيخ العابد ستكون بأمان.. و لن يلحقها أي مكروه.
انتهى قلق الأخوين، و ذهبا بها إليه، موقنان بالقبول.. لكنهما
عنده في الكوخ، فوجئا برفض طلبهما رفضا باتا.. لأن هذا العابد كان على علم
بحبلات، و مصائد الشيطان، و كان على علم بأن أشد مصائده على الرجال هي النساء..
لم يطل الكلام بين الشيخ العابد و الشابين، و
خرجا من عنده يجران أذيال الخَيْبة ، لقد انكسر الأمل الوحيد بالنسبة لهما.. فماذا
يفعلان ووقت السفر قد حان.. فازدادت حَيْرَتهما و قلقهما على أختهما.
خرجا من كوخ العابد وهما يتحاوران بصوت عال :
الأول: "إذا كان العابد
هو الأمل الأخير الذي كنا نأمل أن نترك أختنا عنده، فما العمل الآن؟
الثاني: "أين سنتركها؟"
أوَ نأخذها مَعَنا إلى الحرب؟
غير ممكن. أو نتركها لوحدها ؟
و يعلم الله بمصيرها. ما العَمَل..؟"
الأول يقول بنوع من الحزم: "أنا
لن أغادر القرية، و لن أشارك في الحرب و لْيكن ما يكون.. '
الثاني: " و لكن المرسوم الملكي إجباري..
لا يعفي أحدنا.. و من تخلف عن الجيش يوم المعركة، أنت تعرف مصيره..."
قال الأول : " و ما
مصيره ؟"
الثاني: " مَصِيرُه
الموت.. لا لا لا.. هذا أمر لا تَعُد إلى التفكير فيه.."
الأول : ' فَما العمَل
إذن؟'
كان الشيطان يتابع حيرة الأخَوَين، و يستمع إلى حوارهما، فدخل
بينهما موسوسا:
" ارجعا إلى الشيخ فتوسلا إليه أن يقبل
أختكما، لأنه فعلا ليس لكما أي مكان آخر..'
" فعلا ليس لنا مكان
آخر نُبقي فيه أختَنا، وليس لنا إلا أن نستعطف الشيخ .. ونتوسلا إليه بكل ما يمكن
أن يؤثر فيه..."
رجع الأخَوَان إلى كوخ الشيخ، و لم يكونا قد ابتعدا عنه كثيرا،
و قبل دخولهما على الشيخ في الكوخ كان الشيطان يراوده و يخوفه موسوسا:
" أيها العابد، لقد عبدت ربّك أزيد من أربعين سنة.. تصوم
النهار و تقوم الليل، ترجو رحمته، و تخشى عذابه.. و تقوم بكل ما تراه يرضيه عنك،
وتتجنب كل ما يَغضب من جراءه عليك...
أيها العابد، أَوَ لم تخش من ربك يوم القيامة أن
يحاسبك و يغضب عليك بسبب رفضك فتاة مسكينة...
أصبحت و حيدة بعد أن أُجبر أخواها على الخروج
إلى الحرب؟
ماذا ستقول له إن حصل للبنت مكروه و هي بعيدة
عنك؟
و من سيحميها من ذئاب الإنس إن لم تفعل أنت؟
أيها العابد بقيت تعبد ربك أربعين
سنة.. لكنك في أمر الفتاة عصيت ربك..
ما الذي سيضيقك بوجودها؟
أو أنت بخيل تخشى أن تقاسمك طعامك فتاة مسكينة..
بل يمكن أن تستفيد من وجودها.. تصنع طعامك، و تغسل ثيابك..."
كانت
وسوسة الشيطان على العابد جد مؤثرة.. لأن الشيطان هذه المرَّة اهتدى إلى
"مفتاح" فعال للوصول إلى غوايته.. لقد اعتمد أسلوب مماشاته، و مجاراته بما
يُحِبّ...
أحَسَّ
العابد بالندم على رفضه إيواء الفتاة في غياب أخويها، و لامَ نفسه على ذلك.. و خَشِي
من أن يُصيبها مكروه عندما يرفض هو ضيافتها، فيُسأل على ذلك يوم القيامة.. ويدخل
النار..
بَيْنَما
كان يفكر في أمر الفتاة.. ويعاتب نفسه على التعنت في رفض استقبالها... عاد إليه الشابان
وأختهما، فتوسلاه أن يقبل طلبهما و لا
يرفضه.. لأنه ليس لهما الآن إلا هو بعد الله..
كان
العابد قد لان جَانِبُه.. و تغيَّر رأيُه .. فلم يَجِد الأخَوَان عَناءا كبيرا في
إقناعه بالقبول..
الفتاة في الكوخ..
بقيت
الفتاة مع العابد في الكوخ... و انصرف أخواها إلى حيث ألزِموا بالانصراف إليه... إلى
الحرب...
و بقي الشيطان معهما... فلم يكن يُفوّت فرصة إلا
استثمرها في غوايتهما... فمرة يزين الفتاة للعابد.. و أخرى يزين العابد للفتاة...
فيوسوس للعابد قائلا:
"أيها الرجل.. لطالما
بقيت وحيدا.. و قد بعث الله لك امرأة جميلة تؤنس وحدتك.. لكنك تزيد من وحدتها..
ولا تكلمها.. وهي في عمر ابنتك، تحتاج منك إلى تسليتها، وتفريج كربتها..
إنها فعلا مثل ابنتك، قَربْها
منك، لقد مات والداها، و ذهب أخواها إلى الحرب، و يعلم الله هل يموتا في الحرب أو
يعودا.. إنها فرصتك أيها الرجل.. متع نفسك..
خذ بيدها، علمها، كلمها، لاعبها..."
و
بدأ العابد يراجع مواقفه فيما يخص تعامله مع الفتاة، رُفِعت بينهما التكاليف، و ضاقت
المسافات.. فكَلَّمَها، و آكَلَها، و لاعَبَها.. إلى أن اشتهاها و اشتهته، فهَمَّ
بها وهَمَّت به.. و بارك الشيطان فعلهما.. فزنا بها، وكان من أمرهما ما كان...
ظهر حمل الفتاة... وبدت الحيرة والقلق على
العابد... لأن الحمل من الفتاة سيبدي للناس غير ما كانوا يعتقدون فيه.. يا للعار..
ما الذي سأفعله، ماذا يقولون عني؟؟؟
كيف سأبدو في نظر الناس بعد اليوم؟؟؟
كان
الشيطان يرى العابد من حيث لا يراه.. و يستمتع لحديثه مع نفسه.. و يعرف معاناته، و
همَّه، فدخل عليه موسوسا:
"ما الذي فعَلتَه؟
لقد خنتَ الثقة التي جعلها
فيك الأخوان... و خنتَ ثقةَ أهل القرية جميعا... لطالما احترموك على استقامتك و
تدينك... أما الآن.. و بعد ما حدث منك ما حدث لن يحترمك أحد... بل أكثر من هذا ،
ما الذي سيقوله الأخوان، أو يفعلانه إذا عادا..؟
الشيطان: "أقتلها و
تخلص منها و من حملها.."
الشيخ: " وماذا أقول
لأخواها إن عادا ؟"
الشيطان موسوسا دائما:
" فإذا عاد أخواها قل لهم كنتُ حفيظا عليها
عندما كانت معي في الكوخ.. و لما خرجت.. لم أعد أعلم عنها أي شيء.."
الشيخ مستبعدا ما يدعوه إليه الشيطان:
"لا لا لا.. لن يَصِل
بيَ الأمر إلى القتل... ما الذي أصابك أيها العابد الزاهد... وصلت إلى حد الزنا...
و بعده القتل... ما كل هذا الذي يحصل لك ؟"
الشيطان موسوسا:
" يبدو أنك لم تفهم الوضع بعد... لقد زَنَيْتَ...
وهذا جرم يكفي لجعل الأخوين لا يترددان في قتلك...
إن عادا... فاقتلها، و تخلص منها، و ادَّعِ
أنها خرجت وأنت لا تعلم شيئا عن كل ذلك.. و هكذا تخرج من ورطتك..
قتل
العابد الفتاة المسكينة... قرَّر بعد قتلها أن يذهب بها إلى الغابة ليدفنها هناك و
ذلك بعد أن يسدل الظلام ستاره، خشية أن يراه أحد.
استثمر
الشيطان هذه الخشية، و زكَّاها... و ز يّن له دفنَها في كوخه... و حذَّره من
الخروج بها من الكوخ للسبب نفسه...
حفر
العابد قبر الفتاة في كوخه.. و دفنها هناك.. وكان الشيطان يصر على دفنها في الكوخ
حتى تثبت تهمة قتلها عليه بكل تأكيد، دون أن يبقى للشك أي احتمال.. وهكذا لن
يستطيع الشيخ أن يتنصل منها كما لو دفنها في الغابة...
لأنه لو دفنها خارج كوخه كان
بإمكانه ادعاء أن أحدا غيره هو الذي فعل فعله...
لكن الشيطان يريده هو أن يكون بطل هذه الأحداث..
ليصل هو إلى هدفه في جعل الشيخ يخضع أمامه لكل مطالبه خضوع اضطرار...
وقع الصيد في الشراك
انقضت
مراسيم الدفن، و اختلى العابد بنفسه يقلب النظر فيما حدث و يستعد لما سيأتي...
اطمأن
الشيطان على أن صيده وقع في شباك لا يستطيع الخروج منها، فذهب يهتم بأمور أخرى في
القرية ينتظر انتهاء الحرب ومجيء الأخوين للبحث عن اختهما، فوقتئذ ستكتمل فصول
المشهد ليسقط لعابد السقطة النهائية...
كان
الشيخ العابد يحاول العودة إلى ما كان عليه من عبادة ربه، وطاعته، والتقرب منه
بالذكر والدعاء.. لكنه لا يستطيع...
فكلما همَّ بذكر أو استغفار.. شغله الشيطان
بالتفكير في مصيبته و مصيره مع إخوة الفتاة إذا عادا.
فيحل
محل تفكيره في ربه، واستحضار عظمته، واستمطار رحماته وفضله.. تفكيره في زلاته،
ونظرة سكان القرية له، وبعد كل ذلك، وموقف الأخوين، وتصرفهما معه...
مرت
الأيام، و تتابعت الأسابيع و الشهور، و العابد يريد لها أن تتوقف، ولا تسرع، لأن
سرعتها ستعجل بمجيء الأخوين، و محاسبته على ما اقترفته يداه...
فكثيرا
ما يغير العابد من حاله.. فكلما شرع في التفكير فيما صار مضطرا... أصيب بالقلق
والاضطراب...
فإذا كان جالسا وقف.. وإذا كان واقفا جلس.. محاولة
منه للخروج من تفكيره و استبداله بغيره...
لم يعد ذلك العابد الهادئ
غير العجول و لا المتسرع.. انقلب حاله رأسا على عقب.
انتهت الحرب
أُعْلِمَ
الناسُ في القرية بأن الحرب قد توقفت.. و استبشر المحاربون بالعودة إلى ديارهم...
و استبشر الأهالي بعودة أهاليهم و كان
من بين العائدين من الحرب أخوا الفتاة... فكانت
فرحتهما كبيرة بالعودة...
لقد
اشتاقا إلى أختهما كثيرا...
فكانت
لهما بمثابة الأخت، و الأم، و الصديقة..
و كانا لها أخوين و أبوين و صديقين.. و يعتقدان
أن فرحتها بعودتهما ستكون كبيرة، هكذا كانا يعتقدان...
و لم يخطر ببال أحدهما أنه يمكن أن يحصل لها أي
مكروه فهي في ضيافة العابد الذي عرف لدى كل سكان القرية بالأمانة و الاستقامة و
الاعتدال...
عاد
الأخوان.. فكان أول مكان يعودان اليه بعد
الحرب هو كوخ العابد لرؤية أختهما والعودة بها إلى البيت في القرية...
لكنهما لم يجدانها عند العابد، " لقد حصل
ما لم نكن نتوقعه..." قال أحدهما.
فلما سألاه عنها، أخبرهما أنها كانت معه و في
حمايته لكنها فضلت الخروج من كوخه.. فلما خرجت لم يعد له علم بأمرها و لا
بمكانها..
كان
الأخوان في حالة اضطرار لتصديق كلام العابد... فقد عُرِف عند كل أهل القرية بالصدق...
و لم يُعْرَفْ عنه عندهم إلاه .
خرج
الأخوان من كوخ العابد حائرين، متسائلين عن المكان الذي قد تكون أختهما قد ذهبت
إليه...
و
أي الأسباب قد تكون دفعتها الى مغادرة كوخ العابد؟
وسوسة.. واحتمال..
و في غمرة الحيرة، و القلق، يوسوس الشيطان لهم
بكل الاحتمالات الممكنة، التي يمكن أن تكون الأخت قد عاشتها...
حتى إذا بلغ بهم الأمر إلى
تصديق كل الاحتمالات الشيطانية، اختار لهم الحقيقة التي ساهم في صنعها..
و اجتهد في حثِّ العابد على
الوصول إليها: ألا و هي قتل أختهما على يد العابد الزاهد، غير مُقَصِّر في إيغار صدريهما
عليه، ليعاقباه أقصى العقوبة... القتل شنقا، لا... بل صلبا أو بالخازوق...
انتبه
الأخوان إلى هذا الأمر، و تلاوما على عدم التفكير فيه... فقال أحدهما للآخر:
"
ألا يكون العابد هو سبب اختفاء أختنا؟"
الثاني: "كيف
ذلك؟"
الأول: " يمكن أن يكون
قد فعل بها ما يخشى أن يُكشف، فتخلَّصَ منها
هو الآخر بشر و قد يحصل منه
ما لا يتصور.."
الثاني: "لا..لا.. الرجل
بعيد كل البعد عن أي شبهة... فلقد خبرناه زمنا طويلا.."
الأول: "إذن أين اختفت
أختنا ؟ "
الثاني: " فعلا لقد
بحثنا عنها في كل مكان.. و لم يبق إلا أن نشك به"
الأول: " فلنذهب إليه و
لنغلظ له القول، و نهدده إن لم يخبرنا بمكان أختنا.."
الثاني: "نعم، نفعل..
هيا بنا، فان كان بريئا ظهر عليه ذلك، و إن كان مذنبا اعترف بما فعل".
الأول: " فلنذهب
إذن".
على
جناح السرعة، وصلا إلى كوخ العابد، فقابلهما مُكْرَها .. و قد لاحظ الشرّ على وجهيهما،
فكلماه بغلظة، و شدة سقط منها ما كان عليه من الاحترام و التبجيل و التقدير، و
هدداه بالقتل إن لم يخبرهما بالحقيقة...
لم
يكن العابد مجرما محترفا حتى يفعل فعله و ينكر علاقته به، فاعترف سريعا أنه قاتِلُها
و لم يسبق له أن وقف موقفا كهذا..
لم يصدق
الأخوان ما سمعاه من العابد، و لم يمسكا نفسيهما، و انهالا عليه بالضرب، و الشتم،
و الإهانة..
و
جرَّاه جرّا ليقتلاه، لكن قبل ذلك لابد أن يعرف المخدوعون فيه من سكان القرية
حقيقته، ثم يقتلانه أمام الجميع..
حقيقة الغواية
في
هذه اللحظة الحاسمة، و بكل سرعة، ظهر الشيطان للعابد معرفا بنفسه:
"أنا
الشيطان.. أنا الذي زينت لك الاحتفاظ بالفتاة معك في الكوخ حتى يرجع أخواها..
و
أنا الذي دفعتك، و حرضتك على الزنا بها..
و
أنا الذي خوفتك من عاقبة افتضاح أمرك، بعد أن حملت الفتاة منك. فنصحتك بقتلها، و
ستر فضيحتك عن الناس بدفنها معها...
و
أنا الآن أستطيع أن أخرجك مما أنت فيه.."
العابد: " فلتفعل.. أرجوك..
أسرع إنهم يريدون قتلي.."
الشيطان: "
بشرط.."
العابد: " ما
شرطك؟"
الشيطان : " أن تسجد لي
.."
العابد: " لا..لا..لا..
السجود لا.."
الشيطان: " إذن.. تحمل
عاقبة ما فعلت.."
اختفى الشيطان من أمام الشيخ، وعاد موسوسا :
" اسجُد له.. حتى إذا
أخرجك مما أنت فيه... عُد إلى ربك.. واعبُده كما شِئْتَ، فإنك سَتَجِدُه غَفَّارا..."
العابد: " انتظِرْ.."
و فكر في نفسه:" أَسْجُدُ
له، فيُخْرِجَني من ورْطتي، ثم أعود إلى عبادة ربي.._أصوم النهار، و أقوم الليل، و
اجتهد في العبادة و الطاعة، فيغفر لله لي..."
ثم يعود و يقول: " لا
لا.. إن الله يغفر الذنوب جميعا، و لكنه سبحانه لا يغفر أن يُشْرَكَ به، و لن أُشْرِك
به سبحانه، فإن السجود لغيره شِرْك به.
"لا..لا.. لن
أفعل.."
ثم
يتحرك جانب الضعف فيه فيقول: "إنهم سيقتلونني الآن.. و بعده يفضحون أمري لأهل
القرية، فأسقط في أعينهم جميعا، و قد كانوا يُكِنُّون لي الاحترام، و التقدير، و
لا أريد أن أكون على هذا الحال.."
الشيطان يرى العابد من حيث
لا يراه ، و يعرف ما وصل إليه من التفكير..
الشيطان لا يريد أن يفوت الفرصة:
" اسجد.. قل نعم لأخرجك مما أنت فيه و أريحك من تعبك.."
العابد: " قبلت أن أسجد...
و لكن خلصني مما أنا فيه.. و كذلك اجعل أهل القرية لا يصدقون شيئا مما قيل
عني."
الشيطان: " نعم سأخلصك
من كل مشاكلك بعدها عد إلى ربك و أعبده
كما شئت.. صم، وقم، وتبتل إليه تبتيلا..."
سجد
العابد للشيطان... و لم يُطِل السجود.. متعجلا نتيجة ما اتفق عليه مع الشيطان..
ألا و هو خلاصه مما هو فيه مقابل هذا السجود...
لكنه
حينما رفع رأسه من السجود طالبا الخلاص من الموت.. ومما سيلحق بسمعته مع أهل
القرية، تبرأ الشيطان منه كعادته ("كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر
فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ")
الشيطان : " أنا بريء
منك.. لا أستطيع لك شيئا.. إني أخاف الله ربَّ العالمين..."
العابد: " ألم تعدني إن
سجدت لك أن تخلصني من القتل و و و و..."
الشيطان: " والله إنك أحمق.. ما عرفت مثلك أبدا...
أتفعل كل الموبقات، و تريدني أن أخلصك من مصيرك
المحتوم... زنيت، و قتلت، ثم تريد الخلاص...
إن مثلك لا يكفي فيه القتل... ينبغي أن يشوى
جسده بالنار.. بل يلزمه أكثر من ذلك...
إنني بريء منك... إني أخاف الله ري العالمين..
إنني بريء منك.."
لم
يتحمل العابد حصرته على تخلي الشيطان عن ما وعده به: (... يعدكم ويمنيكم وما
يعدكم الشيطان إلا غرورا)
" ضاعت الدنيا و الآخرة ..." يقول في
نفسه..
فسقط ميتا.
انتصار غير عادي
و
راح الشيطان يضحك بملء فيه.. مُسَجِّلا فرحته بالانتصار الذي حققه على أعبد أهل
القرية... ليس فقط في معصية أو اثنتان، بل في جرم لا يُغْفَرُ في الإسلام أبدا...
اطمأن الشيطان أنَّ الرجل مُخَلَّدٌ معه في نار
جهنم.. وذلك بسبب سجوده له.. ولا يجوز السجود لغير الله تعالى...
والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء...
قال تعالى: ( إن الله لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...)
وقال: ( إن الشرك لظلم
عظيم...)
وقال: ( و لئن أشركت ليحبطن عملك..)
وقال: ( ولا تجعلوا مع الله
إلها آخر إني لكم منه نذير مبين...) سورة
الذاريات
إي: لا تعبدوا إلها آخر غير الله، وتسجدوا لأحد إلا لله الذي
يستحق وحده ذلك...
ويقول
النبي صلى الله عليه و سلم في حديث قدسي : " يا عبادي لو أنكم جئتموني
بمثل قراب الأرض ذنوبا لا تشركون بي شيئا لجئتكم بمثل قرابها مغفرة... "
وقوله: " يا عبادي لو أنكم جئتموني بمثل زبد البحر
ذنوبا لا تشركون بي شيئا لغفرت لكم..."
قصة رائعة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
RépondreSupprimerوجزاك الله كل خير على الأسلوب الجميل الذي تم التعبير به على مضمون هذه القصة...
ولكن من أنت
وأنتم أهل الجزاء هذا توسيع لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بتخيل مراحل القصة وبعض مشاهدها
Supprimerأما عن سؤال من أنا فأنا الأستاذ أحمد بوشلطة أستاذ التعليم الثانوي حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية وأستاذ زائر سابق في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط