بسم الله الرحمان الرحيم
القرآن ذلك الكتاب
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون
الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما
لهم به من علم ولا لآبائهم...
والصلاة وأزكى التسليم على النبي المصطفى
الأمين محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا) سورة الفرقان
وعلى آله وأصحابه
الطيِّبين الطاهرين وعلى مَن تبعهم بِإِحسان إلى يوم الدِّين، أما بعد
فإن الحديثَ عن القرآن هو حديثٌ عن
الرسالة التي خصَّ الله تعالى بها البشرية في عمومها، أبيضَها وأسْودَها، عربيها
وأعْجميَّها، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى والقرب من الله تعالى.
وهذا القرآن كان حِجَّة بالغة تؤكد رسالة النبي صلى الله
عليه وسلم، وتقوِي عزيمته كلما طغت في شخصه بشريته، وغلب ضعفه الإنساني على وظيفته
كنبي مرسل، كما حصل معه عليه السلام في عام الحزن عندما فقد زوجه خديجة بنت خويلد
رضي عنها وعمه أبوطالب، وقد سجل ذلك في قوله تعالى في سورة الضحى : " بسم
الله الرحمان الرحيم والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ولا الآخرة خير لك
من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى..." سورة الضحى
وفي سورة الفرقان
: قال سبحانه: " ... لنثبت به فؤادك وورتلناه ترتيلا ..."
وفي سورة يوسف :
قال تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من
قبله لمن الغافلين...)
وفي في نفس السورة
يقول سبحانه: " ذلك من أنياء
الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا
أمرهم وهم يمكرون..."
وقد كان القرآن الكريم محكما لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يجاريه في إحكامه أي صنف من أصناف كلام البشر
شعرا ولا نثرا، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
فهذا الوليد بن
المغيرة ( أب خالد بن الوليد) يشهد للقرآن الكريم، وكان مشركا لو علم أن شهادته
ستخدم القرآن – والقرآن غني عنها- لضن بها عليه.
قد كان ذلك في دار
الندوة عند ساحة الكعبة عندما انتدبه المشركون بقيادة أبي جهل للذهاب إلى محمد –
وقد كان يصلي عند الكعبة ليكلمه لعله ينتهي عن بث دعوة الإسلام فيهم...
كان الوليد بن
المغيرة سيدا في قريش، مهيب الجانب، إلا أن أبا جهل عمرو بن هشام طلب منه الذهاب
إلى محمد بحكم أنه كذلك، ثم لأن أبا جهل كان غير حصيف ولا خلوق، كان لا يتوانى أن
يطالب من هو أكثر منه قدرا فعل وتنفيذ ما يخطر على باله ويريده بالفعل.
فقال : يا أبا الوليد،
هَلاَّ ذَهَبْتَ إلى محمد، وكَلَّمْتَهِ لعلَّه يُخَلِّي بيننا وبين دينِنا فقد
يستمع إليك. إن كان يريد مُلكا مَلَّكْناه علينا، وإن كان يريد مالا جمعنا له من
أموالنا حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد نساء زوجناه من خِيرَةِ بَناتِنا، وإن كان
مريضا طلبنا له المَشَافِيَ حتى تُشْفى...
ترَدَّد الوليدُ
بنُ المغيرة في القيام إلى محمد، لأنه كان يَشُكُّ في نتيجة ذلك، لكنه قام تحت
إصرار أبي جهل، وحتى لا يُقال عنه جبان يَخشْى مواجهة محمد، أو أن يتهم بأن قلبه
مائل ناحية محمد...
في الأخير لم يجد
الوليد بن المغيرة بُدّا من القيام إلى محمد، فسعى باتجاهه، غير مُتحمِّس لذلك،
وعند مُصلاه عليه السلام وقف بن المغيرة ينتظر حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم
من الصلاة، ولما انتهى قال له متوددا:
" يا ابن
أخي.. هلا خَليتَ بيننا وبين دِيننا.. لقد سَفهتَ أحلامنا.. وعِبتَ آلهتنا، وفرقتَ
بيننا وبين أبنائنا وبيننا وبين عبيدنا .. إن كنت تريد مُلكا ملكناك علينا، وإن
كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد نساء زوجناك من
خيرة بناتنا، وإن كنت مريضا طلبنا لك المشافيَ حتى تُشفى...
قال النبي صلى
الله عليه وسلم وهو واثق من نفسه، واثق من ربه، واثق من دعوته.. فهي ليست قابلة
للتبديل بشهوات الدنيا جميعا.. يا أبا الوليد استمع لقول الله تعالى، فتلى صلى
الله عليه وسلم على مسامعه بداية سورة فصلت وكانت خير جواب على عرضه هذا:
( بسم الله
الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل من الرحمان الرحيم (2) كتاب فُصلت آياته قُرآنا عَربيا
لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأَعرضَ أكثرُهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قُلوبُنا
في أَكِنّة مما تدْعونا إليه وفي آذانِنا وَقْرا ومن بينِنا وبينَك حجابْ فاعمل
إننا عاملون(5) قل إنما أنا بَشَرٌ مِثْلكم يُوحَى إليَّ أنما إِلهكم إله واحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وَوَيْل للمشركين(6) الذين لا يُؤتُون الزكاة وهم
بالآخرة هم كافرون(7) إنَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ لهم أجرٌ غيرُ مَمْنون(8)
قُلْ أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يَوْمَيْن وتجْعلون له أنْدادا ذلك
رَبُّ العالمين(9) وجعل فيها رَوَاسِيَ مِن فَوْقِها وبارك فيها وقَدَّر أَقْواتَها
في أرْبعة أيام سَوَاءٌ للسَّائِلين(10) ثم اسْتوى إلى السَّماءِ وهي دُخَان فقال
لها وللأرض إئْتِيا طَوْعا أو كَرْها قَالَتَا أَتَيْنا طائعين(11) فقضاهُن سبْعَ
سماوات في يوْميْن وأوْحى في كل سَمَاء أَمْرَها وزَيَّنا السماءَ الدُّنْيَا بِمَصابِيحَ
وحِفْظا ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم(12) فإنْ أَعْرَضُوا فقل أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَة
مِثْلَ صاعقةِ عَاد وثَمُود...).
فقال الوليد بن
المغيرة حسبك يا ابن أخي حسبك... كانت الآيات الكريمات جوابا كافيا، وحُجَّة
بالغة، جعلت الوليد بن المغيرة يَيْأس مما جاء من أجله إلى محمد، ويحمل نفسه إلى
حيث يوجد أصحابه في دار الندوة ليزُفَّ إليهم
رأيه في محمد ودعوةِ محمد، ووثوقِ محمد في دعوتِه مهما تَكُنْ المُغْرَيات،
لأن دعوته بكل بساطة ليست رغبةَ قيادة ولا نزوة زعامة، ولا هوى يتبع.. وإنما هي
دعوة ربانية، تُبْذلُ فيها الرُّوح، وتُنْزَعُ في سبيلها دَعَةُ العيْش، وطُمأنينة
الحياة...
كان الوليد بن المغيرة أكثر من يتذوق
العربية ويفهمها، فقد كان فصيحا لا يعجزه شعر، ولا نثر خصوصا إذا سمعَ نظمَ القرآن
الكريم، ولذلك لم ينتظر ردّا أكثر بيانا من الآيات القرآنية التي استمع إليها مِنْ
فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة فصلت والتي فُصِّلت من لدن حكيم عليم،
أفادت أن تلكم دعوة الله تعالى، لا يمكن التراجع عنها أمام المال أو المُلك أو النِّساَءِ.
ذَكَّر هذا الردُّ
الوليدَ بنَ المغيرةِ بردِّه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عندما جاءته قريش
بنفس العرض طالبين منه أن يُكَلِّم ابن أخيه لعله يتوقف عن دعوته إلى الإسلام
بينهم فقال عليه السلام: " والله يَا عَمُّ لو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِيني
والقَمَرَ في يَسَارِي على أنْ أَتْرُكَ هذا الدِّين حتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أوْ أَهْلِكَ
دُونَه."
وكأن الوليد بن المغيرة اقتنع بدعوة محمد صلى
الله عليه وسلم.. هكذا هُوجِم بعد ذلك مِن صَنَادِيدِ قريش، لكنَّه حقيقة كان يعيش
حالة المتعقل الذي يربط بين الأسْبابِ والمُسَبِّبات، ولا يَرُدُّه عنْ قوْلِ الحقِّ
إن كان ذلك القولُ لِعَدُوِّه شَاهِدٌ... كان ذلك الوليد بن
المغيرة.
رجع هذا الأخير
إلى حيث ترك زعماء قريش في دار الندوة ينتظرون منه ردّا، ومن بعيد كان أبو جهل يرى
أنه أي الوليد بن المغيرة يعود بغير الحماس الذي ذهب به، ولم يَصْبِر إلى أن يَعْرِفَ
ذلك منْه حتى قال في الحاضرين: " لقد
رجع أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به".
وقبل أن يستوي
الوليد في مقعده استعجل أبو جهل الخبر فسأله، " ماذا وراءك يا أبا الوليد.
فقال الوليد بن
المغيرة: " يا قَوْمْ.. إنَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ محمد ليسَ بِشِعْر، فأنا
أعْرَفُكُمْ بالشِّعر- وقد سبق أن اتُّهِم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
شاعر- وإنَّ الذِي يقولُه محمد ليْسَ بِسِحْر، فأنا أَعْرَفُكُمْ بِسَجْعِ الكُهَّان- وكان يُتَّهم عليه
السلام بأنه ساحر- وإنَّ الذي يقوله محمد ليس من كلام البشر.. إن الذي يقوله
محمد أَسْفَلُهُ مُغْدِقْ، وأَعْلاهُ مُورِقْ، وإنَّ له لَحَلاوَةٌ، وإنَّ عليه لَطَلاوَةٌ،
وإنَّهُ يَعْلُو و لا يُعْلَى عليه.."
فما كان من أبي
جهل إلا أن اتهَمَهُ بأنه قد صَبَأَ عن دين أجداده إلى دين محمد.. فبادر الوليد بن
المغيرة بنفي ذلك عن نفسه حتى لا يسقط في أعين المشركين الذين جعلوا له مكانة وهو
على شركه...
تلك شهادة الوليد بن المغيرة، يشهد فيها
بعلو مكانة القرآن عن باقي كلام البشر وقد كان ضمن زمرة ألذ أعداء القرآن الكريم،
والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على
الالتزام بالقرآن الكريم لأنه المخرج من الفتن الظاهرة والباطنة، خصوصا عند آخر
الزمان حيث تتوالى الفتن واحدة تلو الأخرى، لا يكاد الناس يستفيقون من هول فتنة
حتى تداهمهم الأخرى، كقطع الليل المظلم..
فعن علي بن أبي
طالب ر ضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سَتَكُونُ
فِتَنٌ قلتُ وما المَخْرجُ مِنْها، قال: كتابُ الله. فيه نَبَأُ مَا قبْلكم، وخبَرُ
ما بَعْدكُم، وحُكْمُ ما بينَكُم، هو الفَصْلُ ليس بالهَزْل، هو الذي مَنْ تَرَكَهُ
مِنْ جَبَّار قَصَمَهُ الله، ومَن ابْتغى الهُدَى في غيْره أَضَلَّهُ الله، فهو حَبْلُ
الله المَتِين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذي لا تَزيغُ
به الأَهْوَاءُ، ولا تَلْتَبِسُ به الألْسِنَةُ، ولا يَشْبَعُ منه العُلَمَاءُ،
ولا يَخْلَقُ عنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وهو الذي لم يَنْتَهِ
الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أنْ قالوا إنَّا سَمِعْنا قُرآنا عَجَبَا، هو الذي مَنْ
قال به صَدَقْ، ومَنْ حَكَمَ به عَدَلْ، ومَنْ عَمِلَ به أُجِرْ، ومَنْ دَعَا إليْهِ
هُدِيَ إلى صِراط مُسْتَقِيمْ..."
وبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع
الوحي من السماء على الأرض، وتوقف توجيه الله تعالى لبني الإنسان.. فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيئين الذين اختارهم الله تعالى لينزل عليهم وحيه.
فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بكاه
الصحابة رضوان الله عليهم كما لم يبكي أحدٌ أحدا، وحزنوا على فِراقِه كما لم يفعلْ
أصحابٌ على صاحِبِهِم، ولكنهم بعد أن مرت ثلاثة أيام على دفنه صلى الله عليه وسلم
عادت الحياة إلى طبيعتها، واسْتِمْرَارِيَتِها وجَرَياَنِها، وقام الصحابةُ إلى
أشغالهم وحياتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى بأن لا يتجاوز الحداد
والحزن أكثر من ثلاث..
وبحثا عن أسباب
الإنشغال عن الحزن وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه
وقد أصبح خليفة للمسلمين: " يا عمر – يقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
– تعال بِنا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنْ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها،
وعندما أقْبَلا على أمِّ أيْمَنْ وَجَدَاها تَبْكي.. ومحاولة مِنْهُم تَسْلِيَتَها
وإسْكَاتَها، قالا : يا أمَّ أَيْمَنْ، كَفَاكِ بُكَاء على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلقد انتقلَ إلى رَبٍّ كريمٍ، وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَمَاوَاتِ والأرْض،
فلقد وَعَدَهُ ربُّه أنْ يَبْعَثَهُ مَقَاما
مَحْمُودا في الجنَّة..
تَوَقَّفَتْ أُمُّ
أَيْمَنْ عنِ البُكاءِ وقالت: أنَا لا أَبْكِي على مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم،
فأنا على يَقِينٍ أنَّه الآن في الجنَّةِ يَرْفُلُ في نَعيِمِهَا، ولكنْ أبْكِي
على انْقِطَاعِ الوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ بِمَوْتِ مُحَمَّدٍ...
فَبَكَى أَبُوبَكْرٍ،
وَبَكَى عُمَرُ، وأصْبَحَتْ أُمُّ أَيْمَنْ تُحَاوِل أنْ تُسْكِتَهُمَا...
كانت أم أيمن تقصد انقطاع نزول القرآن الكريم
بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي عموما لأن النبي صلى الله عليه وسلم
هو آخر نبي يبعثه الله تعالى لهداية البشر، فكانت أم أيمن، قد انتبهت إلى ما لم
يستطع لا أبو بكر ولا عمر الانتباه إليه، ألا وهو الوحي أي القرآن الكريم الذي كان
آخر ما وجه الله تعالى به الإنسان على الأرض...
والقرآن الكريم لا يحتاج في نفسه إلى هذه
الشهادات، وإنما هي تسلية، وبيان لكل من كان على قلبه غشاوة لم يدرك معها علو
القرآن وعظمته، أما المؤمنون حقا فلا حاجة لهم بأية شهادة، فالقرآن بالنسبة لهم
شاهدٌ وليس مشهودا عليه.
وقد سجل التاريخ شهاداتٍ لمستشرقين غَرْبِيِّين في حقِّ
القرآن الكريم، عَدَّهُمْ الناس ضمن الخصوم للقرآن الكريم، وكثيرٌ ما صَرَّحَ بعضُهُم
بذلك، ودلت الإشارات على أنهم ينتمون إلى جهات كَنَّتْ العَدَاءَ للقرآن الكريم،
ولدعوة الإسلام بصفة عامة..
فهذا "فولتير"
يقول في حق القرآن الكريم: " إنُّهُ على يَقِينٍ أنَّهُ لَوْ عُرِضَ
القرآنُ والإنجيلُ على شَخْصٍ غيْرَ مُتَدَيِّنٍ، لَاخْتَارَ الأول. لأن الكتابَ
الذِي أُنْزِل على صَدْرِ مُحمدٍ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُ في ظاهِرِهِ أَفْكَارا
تَنْطَبِقُ بِالْمِقْدَارِ اللاَّزِمِ مَعَ الأُسُسِ العَقْلِيَةِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ
يُوضَعْ قَانُونٌ كَامِلٌ في الطَّلاَقِ مِثْلَ الذِي وَضَعَهُ القرآن".
ويقول الفيلسوف الفرنسي "رِنَانْ": "
كُلَّمَا أُحِسُّ بالإجْهادِ، وَأَرَدْتُ أنْ تُفَتَّحَ لِي أَبْوَابُ المَعَانِي
والْكَمَالاتِ، طَالَعْتُ القرآنَ، حيْثُ لا أُحِسُّ بالتَّعَبِ أَوِ المَلَلِ بِمُطَالَعَتِهِ
بِكَثْرَة. لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَقِدَ بِكِتابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
فَإِنَّ ذلك الكِتابَ هو القرآنُ لاَ غَيْرْ.. إنَّ الكُتُبَ الأُخْرَى لَيْسَتْ لَهَا
خَصَائِصٌ مِثْلَ خَصَائِصِ القرآنِ.."
وقال الطبيبُ الفرنسي "مُورِيسْ بُوكَايْ"
: " قَرَأْتُ القرآنَ بِإِمْعَانٍ وَوَجَدْتُهُ هو الكتابَ الوحيدَ الذِي
يَضْطَرُّ بالمُثَقَّفِ بِالعُلُومِ العَصْرِيَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مِنَ
اللهِ لاَ يَزِيدُ حَرْفا وَلاَ يَنْقُصْ".
ومن ألمانيا تقول المستشرقة " أَنَّا مَرِيَّا شْمِيلْ
: " القرآنُ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ مُوحَاةٌ بِلِسَانٍ عربي مُبينٍ، وتَرْجَمَتُهُ
تتجاوَزُ المُسْتَوى السَّطْحِي، فمَنْ ذَا الذِي يَسْتطِيعُ تَرْجَمَةَ كَلِمَة
اللهِ بِأَيِّ لُغَة".
وقال السياسي الأنجليزي " إدْمُونْد بِيرْك":
" كلما نُدَقِّقُ في القرآنِ نَرَى كَمَالَهُ وَعُلُوَّهُ.. يَجْدبُ المَرْءَ
أوَّلا ثُمَّ يَبْهَرُهُ، ويُحَيِّرُهُ ويَجْعَلُهُ شَغُوفا بِهِ.. يُجْبِرُ المَرْءَ
على احْتِرامِه، وبذلك ترى تأثيره في الأعماق".
ويقول الباحث الأمريكي " مايكل هَارْث" :
" لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بَقِيَ بِحُرُوفِهِ كامِلا دون تَحْوِيرٍ سِوَى
القرآنِ الكريمِ".
وقال الأديب الألماني " جُوهَانْ غُوتَة" :
" كلما قرأتُ القرآنَ شَعَرْتُ أَنَّ رُوحِي تَهْتَزُّ تَحْتَ جَسَدِي".
وقال الروائي والمفكر" ليوتولستوي" :
" سَوْفَ تَسُودُ شَريعةُ القرآنِ العالمَ، لِتَوَافُقِها وانْسِجَامِها مَعَ
العَقْلِ والحِكْمَةِ".
وقال القائد العسكري " نابليون بونابارت" :
" آمُلُ أنَّ الوقتَ ليسَ بَعِيدا عندما سأكون قادِرا على توحيد جميع الحُكماءِ
والمُتعلمينَ مِنْ جميع البُلدانِ وإقامَةِ نظام موحد على أساس مبادئ القرآن
الكريم التي هي حقيقة وحدَها التي تؤدي للسعادة".بسم الله الرحمان الرحيم
القرآن ذلك الكتاب
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون
الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما
لهم به من علم ولا لآبائهم...
والصلاة وأزكى التسليم على النبي المصطفى
الأمين محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا) سورة الفرقان
وعلى آله وأصحابه
الطيِّبين الطاهرين وعلى مَن تبعهم بِإِحسان إلى يوم الدِّين، أما بعد
فإن الحديثَ عن القرآن هو حديثٌ عن
الرسالة التي خصَّ الله تعالى بها البشرية في عمومها، أبيضَها وأسْودَها، عربيها
وأعْجميَّها، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى والقرب من الله تعالى.
وهذا القرآن كان حِجَّة بالغة تؤكد رسالة النبي صلى الله
عليه وسلم، وتقوِي عزيمته كلما طغت في شخصه بشريته، وغلب ضعفه الإنساني على وظيفته
كنبي مرسل، كما حصل معه عليه السلام في عام الحزن عندما فقد زوجه خديجة بنت خويلد
رضي عنها وعمه أبوطالب، وقد سجل ذلك في قوله تعالى في سورة الضحى : " بسم
الله الرحمان الرحيم والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ولا الآخرة خير لك
من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى..." سورة الضحى
وفي سورة الفرقان
: قال سبحانه: " ... لنثبت به فؤادك وورتلناه ترتيلا ..."
وفي سورة يوسف :
قال تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من
قبله لمن الغافلين...)
وفي في نفس السورة
يقول سبحانه: " ذلك من أنياء
الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا
أمرهم وهم يمكرون..."
وقد كان القرآن الكريم محكما لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يجاريه في إحكامه أي صنف من أصناف كلام البشر
شعرا ولا نثرا، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
فهذا الوليد بن
المغيرة ( أب خالد بن الوليد) يشهد للقرآن الكريم، وكان مشركا لو علم أن شهادته
ستخدم القرآن – والقرآن غني عنها- لضن بها عليه.
قد كان ذلك في دار
الندوة عند ساحة الكعبة عندما انتدبه المشركون بقيادة أبي جهل للذهاب إلى محمد –
وقد كان يصلي عند الكعبة ليكلمه لعله ينتهي عن بث دعوة الإسلام فيهم...
كان الوليد بن
المغيرة سيدا في قريش، مهيب الجانب، إلا أن أبا جهل عمرو بن هشام طلب منه الذهاب
إلى محمد بحكم أنه كذلك، ثم لأن أبا جهل كان غير حصيف ولا خلوق، كان لا يتوانى أن
يطالب من هو أكثر منه قدرا فعل وتنفيذ ما يخطر على باله ويريده بالفعل.
فقال : يا أبا الوليد،
هَلاَّ ذَهَبْتَ إلى محمد، وكَلَّمْتَهِ لعلَّه يُخَلِّي بيننا وبين دينِنا فقد
يستمع إليك. إن كان يريد مُلكا مَلَّكْناه علينا، وإن كان يريد مالا جمعنا له من
أموالنا حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد نساء زوجناه من خِيرَةِ بَناتِنا، وإن كان
مريضا طلبنا له المَشَافِيَ حتى تُشْفى...
ترَدَّد الوليدُ
بنُ المغيرة في القيام إلى محمد، لأنه كان يَشُكُّ في نتيجة ذلك، لكنه قام تحت
إصرار أبي جهل، وحتى لا يُقال عنه جبان يَخشْى مواجهة محمد، أو أن يتهم بأن قلبه
مائل ناحية محمد...
في الأخير لم يجد
الوليد بن المغيرة بُدّا من القيام إلى محمد، فسعى باتجاهه، غير مُتحمِّس لذلك،
وعند مُصلاه عليه السلام وقف بن المغيرة ينتظر حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم
من الصلاة، ولما انتهى قال له متوددا:
" يا ابن
أخي.. هلا خَليتَ بيننا وبين دِيننا.. لقد سَفهتَ أحلامنا.. وعِبتَ آلهتنا، وفرقتَ
بيننا وبين أبنائنا وبيننا وبين عبيدنا .. إن كنت تريد مُلكا ملكناك علينا، وإن
كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد نساء زوجناك من
خيرة بناتنا، وإن كنت مريضا طلبنا لك المشافيَ حتى تُشفى...
قال النبي صلى
الله عليه وسلم وهو واثق من نفسه، واثق من ربه، واثق من دعوته.. فهي ليست قابلة
للتبديل بشهوات الدنيا جميعا.. يا أبا الوليد استمع لقول الله تعالى، فتلى صلى
الله عليه وسلم على مسامعه بداية سورة فصلت وكانت خير جواب على عرضه هذا:
( بسم الله
الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل من الرحمان الرحيم (2) كتاب فُصلت آياته قُرآنا عَربيا
لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأَعرضَ أكثرُهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قُلوبُنا
في أَكِنّة مما تدْعونا إليه وفي آذانِنا وَقْرا ومن بينِنا وبينَك حجابْ فاعمل
إننا عاملون(5) قل إنما أنا بَشَرٌ مِثْلكم يُوحَى إليَّ أنما إِلهكم إله واحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وَوَيْل للمشركين(6) الذين لا يُؤتُون الزكاة وهم
بالآخرة هم كافرون(7) إنَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ لهم أجرٌ غيرُ مَمْنون(8)
قُلْ أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يَوْمَيْن وتجْعلون له أنْدادا ذلك
رَبُّ العالمين(9) وجعل فيها رَوَاسِيَ مِن فَوْقِها وبارك فيها وقَدَّر أَقْواتَها
في أرْبعة أيام سَوَاءٌ للسَّائِلين(10) ثم اسْتوى إلى السَّماءِ وهي دُخَان فقال
لها وللأرض إئْتِيا طَوْعا أو كَرْها قَالَتَا أَتَيْنا طائعين(11) فقضاهُن سبْعَ
سماوات في يوْميْن وأوْحى في كل سَمَاء أَمْرَها وزَيَّنا السماءَ الدُّنْيَا بِمَصابِيحَ
وحِفْظا ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم(12) فإنْ أَعْرَضُوا فقل أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَة
مِثْلَ صاعقةِ عَاد وثَمُود...).
فقال الوليد بن
المغيرة حسبك يا ابن أخي حسبك... كانت الآيات الكريمات جوابا كافيا، وحُجَّة
بالغة، جعلت الوليد بن المغيرة يَيْأس مما جاء من أجله إلى محمد، ويحمل نفسه إلى
حيث يوجد أصحابه في دار الندوة ليزُفَّ إليهم
رأيه في محمد ودعوةِ محمد، ووثوقِ محمد في دعوتِه مهما تَكُنْ المُغْرَيات،
لأن دعوته بكل بساطة ليست رغبةَ قيادة ولا نزوة زعامة، ولا هوى يتبع.. وإنما هي
دعوة ربانية، تُبْذلُ فيها الرُّوح، وتُنْزَعُ في سبيلها دَعَةُ العيْش، وطُمأنينة
الحياة...
كان الوليد بن المغيرة أكثر من يتذوق
العربية ويفهمها، فقد كان فصيحا لا يعجزه شعر، ولا نثر خصوصا إذا سمعَ نظمَ القرآن
الكريم، ولذلك لم ينتظر ردّا أكثر بيانا من الآيات القرآنية التي استمع إليها مِنْ
فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة فصلت والتي فُصِّلت من لدن حكيم عليم،
أفادت أن تلكم دعوة الله تعالى، لا يمكن التراجع عنها أمام المال أو المُلك أو النِّساَءِ.
ذَكَّر هذا الردُّ
الوليدَ بنَ المغيرةِ بردِّه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عندما جاءته قريش
بنفس العرض طالبين منه أن يُكَلِّم ابن أخيه لعله يتوقف عن دعوته إلى الإسلام
بينهم فقال عليه السلام: " والله يَا عَمُّ لو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِيني
والقَمَرَ في يَسَارِي على أنْ أَتْرُكَ هذا الدِّين حتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أوْ أَهْلِكَ
دُونَه."
وكأن الوليد بن المغيرة اقتنع بدعوة محمد صلى
الله عليه وسلم.. هكذا هُوجِم بعد ذلك مِن صَنَادِيدِ قريش، لكنَّه حقيقة كان يعيش
حالة المتعقل الذي يربط بين الأسْبابِ والمُسَبِّبات، ولا يَرُدُّه عنْ قوْلِ الحقِّ
إن كان ذلك القولُ لِعَدُوِّه شَاهِدٌ... كان ذلك الوليد بن
المغيرة.
رجع هذا الأخير
إلى حيث ترك زعماء قريش في دار الندوة ينتظرون منه ردّا، ومن بعيد كان أبو جهل يرى
أنه أي الوليد بن المغيرة يعود بغير الحماس الذي ذهب به، ولم يَصْبِر إلى أن يَعْرِفَ
ذلك منْه حتى قال في الحاضرين: " لقد
رجع أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به".
وقبل أن يستوي
الوليد في مقعده استعجل أبو جهل الخبر فسأله، " ماذا وراءك يا أبا الوليد.
فقال الوليد بن
المغيرة: " يا قَوْمْ.. إنَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ محمد ليسَ بِشِعْر، فأنا
أعْرَفُكُمْ بالشِّعر- وقد سبق أن اتُّهِم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
شاعر- وإنَّ الذِي يقولُه محمد ليْسَ بِسِحْر، فأنا أَعْرَفُكُمْ بِسَجْعِ الكُهَّان- وكان يُتَّهم عليه
السلام بأنه ساحر- وإنَّ الذي يقوله محمد ليس من كلام البشر.. إن الذي يقوله
محمد أَسْفَلُهُ مُغْدِقْ، وأَعْلاهُ مُورِقْ، وإنَّ له لَحَلاوَةٌ، وإنَّ عليه لَطَلاوَةٌ،
وإنَّهُ يَعْلُو و لا يُعْلَى عليه.."
فما كان من أبي
جهل إلا أن اتهَمَهُ بأنه قد صَبَأَ عن دين أجداده إلى دين محمد.. فبادر الوليد بن
المغيرة بنفي ذلك عن نفسه حتى لا يسقط في أعين المشركين الذين جعلوا له مكانة وهو
على شركه...
تلك شهادة الوليد بن المغيرة، يشهد فيها
بعلو مكانة القرآن عن باقي كلام البشر وقد كان ضمن زمرة ألذ أعداء القرآن الكريم،
والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على
الالتزام بالقرآن الكريم لأنه المخرج من الفتن الظاهرة والباطنة، خصوصا عند آخر
الزمان حيث تتوالى الفتن واحدة تلو الأخرى، لا يكاد الناس يستفيقون من هول فتنة
حتى تداهمهم الأخرى، كقطع الليل المظلم..
فعن علي بن أبي
طالب ر ضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سَتَكُونُ
فِتَنٌ قلتُ وما المَخْرجُ مِنْها، قال: كتابُ الله. فيه نَبَأُ مَا قبْلكم، وخبَرُ
ما بَعْدكُم، وحُكْمُ ما بينَكُم، هو الفَصْلُ ليس بالهَزْل، هو الذي مَنْ تَرَكَهُ
مِنْ جَبَّار قَصَمَهُ الله، ومَن ابْتغى الهُدَى في غيْره أَضَلَّهُ الله، فهو حَبْلُ
الله المَتِين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذي لا تَزيغُ
به الأَهْوَاءُ، ولا تَلْتَبِسُ به الألْسِنَةُ، ولا يَشْبَعُ منه العُلَمَاءُ،
ولا يَخْلَقُ عنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وهو الذي لم يَنْتَهِ
الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أنْ قالوا إنَّا سَمِعْنا قُرآنا عَجَبَا، هو الذي مَنْ
قال به صَدَقْ، ومَنْ حَكَمَ به عَدَلْ، ومَنْ عَمِلَ به أُجِرْ، ومَنْ دَعَا إليْهِ
هُدِيَ إلى صِراط مُسْتَقِيمْ..."
وبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع
الوحي من السماء على الأرض، وتوقف توجيه الله تعالى لبني الإنسان.. فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيئين الذين اختارهم الله تعالى لينزل عليهم وحيه.
فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بكاه
الصحابة رضوان الله عليهم كما لم يبكي أحدٌ أحدا، وحزنوا على فِراقِه كما لم يفعلْ
أصحابٌ على صاحِبِهِم، ولكنهم بعد أن مرت ثلاثة أيام على دفنه صلى الله عليه وسلم
عادت الحياة إلى طبيعتها، واسْتِمْرَارِيَتِها وجَرَياَنِها، وقام الصحابةُ إلى
أشغالهم وحياتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى بأن لا يتجاوز الحداد
والحزن أكثر من ثلاث..
وبحثا عن أسباب
الإنشغال عن الحزن وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه
وقد أصبح خليفة للمسلمين: " يا عمر – يقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
– تعال بِنا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنْ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها،
وعندما أقْبَلا على أمِّ أيْمَنْ وَجَدَاها تَبْكي.. ومحاولة مِنْهُم تَسْلِيَتَها
وإسْكَاتَها، قالا : يا أمَّ أَيْمَنْ، كَفَاكِ بُكَاء على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلقد انتقلَ إلى رَبٍّ كريمٍ، وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَمَاوَاتِ والأرْض،
فلقد وَعَدَهُ ربُّه أنْ يَبْعَثَهُ مَقَاما
مَحْمُودا في الجنَّة..
تَوَقَّفَتْ أُمُّ
أَيْمَنْ عنِ البُكاءِ وقالت: أنَا لا أَبْكِي على مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم،
فأنا على يَقِينٍ أنَّه الآن في الجنَّةِ يَرْفُلُ في نَعيِمِهَا، ولكنْ أبْكِي
على انْقِطَاعِ الوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ بِمَوْتِ مُحَمَّدٍ...
فَبَكَى أَبُوبَكْرٍ،
وَبَكَى عُمَرُ، وأصْبَحَتْ أُمُّ أَيْمَنْ تُحَاوِل أنْ تُسْكِتَهُمَا...
كانت أم أيمن تقصد انقطاع نزول القرآن الكريم
بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي عموما لأن النبي صلى الله عليه وسلم
هو آخر نبي يبعثه الله تعالى لهداية البشر، فكانت أم أيمن، قد انتبهت إلى ما لم
يستطع لا أبو بكر ولا عمر الانتباه إليه، ألا وهو الوحي أي القرآن الكريم الذي كان
آخر ما وجه الله تعالى به الإنسان على الأرض...
والقرآن الكريم لا يحتاج في نفسه إلى هذه
الشهادات، وإنما هي تسلية، وبيان لكل من كان على قلبه غشاوة لم يدرك معها علو
القرآن وعظمته، أما المؤمنون حقا فلا حاجة لهم بأية شهادة، فالقرآن بالنسبة لهم
شاهدٌ وليس مشهودا عليه.
وقد سجل التاريخ شهاداتٍ لمستشرقين غَرْبِيِّين في حقِّ
القرآن الكريم، عَدَّهُمْ الناس ضمن الخصوم للقرآن الكريم، وكثيرٌ ما صَرَّحَ بعضُهُم
بذلك، ودلت الإشارات على أنهم ينتمون إلى جهات كَنَّتْ العَدَاءَ للقرآن الكريم،
ولدعوة الإسلام بصفة عامة..
فهذا "فولتير"
يقول في حق القرآن الكريم: " إنُّهُ على يَقِينٍ أنَّهُ لَوْ عُرِضَ
القرآنُ والإنجيلُ على شَخْصٍ غيْرَ مُتَدَيِّنٍ، لَاخْتَارَ الأول. لأن الكتابَ
الذِي أُنْزِل على صَدْرِ مُحمدٍ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُ في ظاهِرِهِ أَفْكَارا
تَنْطَبِقُ بِالْمِقْدَارِ اللاَّزِمِ مَعَ الأُسُسِ العَقْلِيَةِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ
يُوضَعْ قَانُونٌ كَامِلٌ في الطَّلاَقِ مِثْلَ الذِي وَضَعَهُ القرآن".
ويقول الفيلسوف الفرنسي "رِنَانْ": "
كُلَّمَا أُحِسُّ بالإجْهادِ، وَأَرَدْتُ أنْ تُفَتَّحَ لِي أَبْوَابُ المَعَانِي
والْكَمَالاتِ، طَالَعْتُ القرآنَ، حيْثُ لا أُحِسُّ بالتَّعَبِ أَوِ المَلَلِ بِمُطَالَعَتِهِ
بِكَثْرَة. لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَقِدَ بِكِتابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
فَإِنَّ ذلك الكِتابَ هو القرآنُ لاَ غَيْرْ.. إنَّ الكُتُبَ الأُخْرَى لَيْسَتْ لَهَا
خَصَائِصٌ مِثْلَ خَصَائِصِ القرآنِ.."
وقال الطبيبُ الفرنسي "مُورِيسْ بُوكَايْ"
: " قَرَأْتُ القرآنَ بِإِمْعَانٍ وَوَجَدْتُهُ هو الكتابَ الوحيدَ الذِي
يَضْطَرُّ بالمُثَقَّفِ بِالعُلُومِ العَصْرِيَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مِنَ
اللهِ لاَ يَزِيدُ حَرْفا وَلاَ يَنْقُصْ".
ومن ألمانيا تقول المستشرقة " أَنَّا مَرِيَّا شْمِيلْ
: " القرآنُ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ مُوحَاةٌ بِلِسَانٍ عربي مُبينٍ، وتَرْجَمَتُهُ
تتجاوَزُ المُسْتَوى السَّطْحِي، فمَنْ ذَا الذِي يَسْتطِيعُ تَرْجَمَةَ كَلِمَة
اللهِ بِأَيِّ لُغَة".
وقال السياسي الأنجليزي " إدْمُونْد بِيرْك":
" كلما نُدَقِّقُ في القرآنِ نَرَى كَمَالَهُ وَعُلُوَّهُ.. يَجْدبُ المَرْءَ
أوَّلا ثُمَّ يَبْهَرُهُ، ويُحَيِّرُهُ ويَجْعَلُهُ شَغُوفا بِهِ.. يُجْبِرُ المَرْءَ
على احْتِرامِه، وبذلك ترى تأثيره في الأعماق".
ويقول الباحث الأمريكي " مايكل هَارْث" :
" لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بَقِيَ بِحُرُوفِهِ كامِلا دون تَحْوِيرٍ سِوَى
القرآنِ الكريمِ".
وقال الأديب الألماني " جُوهَانْ غُوتَة" :
" كلما قرأتُ القرآنَ شَعَرْتُ أَنَّ رُوحِي تَهْتَزُّ تَحْتَ جَسَدِي".
وقال الروائي والمفكر" ليوتولستوي" :
" سَوْفَ تَسُودُ شَريعةُ القرآنِ العالمَ، لِتَوَافُقِها وانْسِجَامِها مَعَ
العَقْلِ والحِكْمَةِ".
وقال القائد العسكري " نابليون بونابارت" :
" آمُلُ أنَّ الوقتَ ليسَ بَعِيدا عندما سأكون قادِرا على توحيد جميع الحُكماءِ
والمُتعلمينَ مِنْ جميع البُلدانِ وإقامَةِ نظام موحد على أساس مبادئ القرآن
الكريم التي هي حقيقة وحدَها التي تؤدي للسعادة".
بسم الله الرحمان الرحيم
القرآن ذلك الكتاب
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب
ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون
الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما
لهم به من علم ولا لآبائهم...
والصلاة وأزكى التسليم على النبي المصطفى
الأمين محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا) سورة الفرقان
وعلى آله وأصحابه
الطيِّبين الطاهرين وعلى مَن تبعهم بِإِحسان إلى يوم الدِّين، أما بعد
فإن الحديثَ عن القرآن هو حديثٌ عن
الرسالة التي خصَّ الله تعالى بها البشرية في عمومها، أبيضَها وأسْودَها، عربيها
وأعْجميَّها، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى والقرب من الله تعالى.
وهذا القرآن كان حِجَّة بالغة تؤكد رسالة النبي صلى الله
عليه وسلم، وتقوِي عزيمته كلما طغت في شخصه بشريته، وغلب ضعفه الإنساني على وظيفته
كنبي مرسل، كما حصل معه عليه السلام في عام الحزن عندما فقد زوجه خديجة بنت خويلد
رضي عنها وعمه أبوطالب، وقد سجل ذلك في قوله تعالى في سورة الضحى : " بسم
الله الرحمان الرحيم والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ولا الآخرة خير لك
من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى..." سورة الضحى
وفي سورة الفرقان
: قال سبحانه: " ... لنثبت به فؤادك وورتلناه ترتيلا ..."
وفي سورة يوسف :
قال تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من
قبله لمن الغافلين...)
وفي في نفس السورة
يقول سبحانه: " ذلك من أنياء
الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا
أمرهم وهم يمكرون..."
وقد كان القرآن الكريم محكما لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يجاريه في إحكامه أي صنف من أصناف كلام البشر
شعرا ولا نثرا، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء.
فهذا الوليد بن
المغيرة ( أب خالد بن الوليد) يشهد للقرآن الكريم، وكان مشركا لو علم أن شهادته
ستخدم القرآن – والقرآن غني عنها- لضن بها عليه.
قد كان ذلك في دار
الندوة عند ساحة الكعبة عندما انتدبه المشركون بقيادة أبي جهل للذهاب إلى محمد –
وقد كان يصلي عند الكعبة ليكلمه لعله ينتهي عن بث دعوة الإسلام فيهم...
كان الوليد بن
المغيرة سيدا في قريش، مهيب الجانب، إلا أن أبا جهل عمرو بن هشام طلب منه الذهاب
إلى محمد بحكم أنه كذلك، ثم لأن أبا جهل كان غير حصيف ولا خلوق، كان لا يتوانى أن
يطالب من هو أكثر منه قدرا فعل وتنفيذ ما يخطر على باله ويريده بالفعل.
فقال : يا أبا الوليد،
هَلاَّ ذَهَبْتَ إلى محمد، وكَلَّمْتَهِ لعلَّه يُخَلِّي بيننا وبين دينِنا فقد
يستمع إليك. إن كان يريد مُلكا مَلَّكْناه علينا، وإن كان يريد مالا جمعنا له من
أموالنا حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد نساء زوجناه من خِيرَةِ بَناتِنا، وإن كان
مريضا طلبنا له المَشَافِيَ حتى تُشْفى...
ترَدَّد الوليدُ
بنُ المغيرة في القيام إلى محمد، لأنه كان يَشُكُّ في نتيجة ذلك، لكنه قام تحت
إصرار أبي جهل، وحتى لا يُقال عنه جبان يَخشْى مواجهة محمد، أو أن يتهم بأن قلبه
مائل ناحية محمد...
في الأخير لم يجد
الوليد بن المغيرة بُدّا من القيام إلى محمد، فسعى باتجاهه، غير مُتحمِّس لذلك،
وعند مُصلاه عليه السلام وقف بن المغيرة ينتظر حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم
من الصلاة، ولما انتهى قال له متوددا:
" يا ابن
أخي.. هلا خَليتَ بيننا وبين دِيننا.. لقد سَفهتَ أحلامنا.. وعِبتَ آلهتنا، وفرقتَ
بيننا وبين أبنائنا وبيننا وبين عبيدنا .. إن كنت تريد مُلكا ملكناك علينا، وإن
كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد نساء زوجناك من
خيرة بناتنا، وإن كنت مريضا طلبنا لك المشافيَ حتى تُشفى...
قال النبي صلى
الله عليه وسلم وهو واثق من نفسه، واثق من ربه، واثق من دعوته.. فهي ليست قابلة
للتبديل بشهوات الدنيا جميعا.. يا أبا الوليد استمع لقول الله تعالى، فتلى صلى
الله عليه وسلم على مسامعه بداية سورة فصلت وكانت خير جواب على عرضه هذا:
( بسم الله
الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل من الرحمان الرحيم (2) كتاب فُصلت آياته قُرآنا عَربيا
لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأَعرضَ أكثرُهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قُلوبُنا
في أَكِنّة مما تدْعونا إليه وفي آذانِنا وَقْرا ومن بينِنا وبينَك حجابْ فاعمل
إننا عاملون(5) قل إنما أنا بَشَرٌ مِثْلكم يُوحَى إليَّ أنما إِلهكم إله واحد
فاستقيموا إليه واستغفروه وَوَيْل للمشركين(6) الذين لا يُؤتُون الزكاة وهم
بالآخرة هم كافرون(7) إنَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ لهم أجرٌ غيرُ مَمْنون(8)
قُلْ أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يَوْمَيْن وتجْعلون له أنْدادا ذلك
رَبُّ العالمين(9) وجعل فيها رَوَاسِيَ مِن فَوْقِها وبارك فيها وقَدَّر أَقْواتَها
في أرْبعة أيام سَوَاءٌ للسَّائِلين(10) ثم اسْتوى إلى السَّماءِ وهي دُخَان فقال
لها وللأرض إئْتِيا طَوْعا أو كَرْها قَالَتَا أَتَيْنا طائعين(11) فقضاهُن سبْعَ
سماوات في يوْميْن وأوْحى في كل سَمَاء أَمْرَها وزَيَّنا السماءَ الدُّنْيَا بِمَصابِيحَ
وحِفْظا ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم(12) فإنْ أَعْرَضُوا فقل أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَة
مِثْلَ صاعقةِ عَاد وثَمُود...).
فقال الوليد بن
المغيرة حسبك يا ابن أخي حسبك... كانت الآيات الكريمات جوابا كافيا، وحُجَّة
بالغة، جعلت الوليد بن المغيرة يَيْأس مما جاء من أجله إلى محمد، ويحمل نفسه إلى
حيث يوجد أصحابه في دار الندوة ليزُفَّ إليهم
رأيه في محمد ودعوةِ محمد، ووثوقِ محمد في دعوتِه مهما تَكُنْ المُغْرَيات،
لأن دعوته بكل بساطة ليست رغبةَ قيادة ولا نزوة زعامة، ولا هوى يتبع.. وإنما هي
دعوة ربانية، تُبْذلُ فيها الرُّوح، وتُنْزَعُ في سبيلها دَعَةُ العيْش، وطُمأنينة
الحياة...
كان الوليد بن المغيرة أكثر من يتذوق
العربية ويفهمها، فقد كان فصيحا لا يعجزه شعر، ولا نثر خصوصا إذا سمعَ نظمَ القرآن
الكريم، ولذلك لم ينتظر ردّا أكثر بيانا من الآيات القرآنية التي استمع إليها مِنْ
فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة فصلت والتي فُصِّلت من لدن حكيم عليم،
أفادت أن تلكم دعوة الله تعالى، لا يمكن التراجع عنها أمام المال أو المُلك أو النِّساَءِ.
ذَكَّر هذا الردُّ
الوليدَ بنَ المغيرةِ بردِّه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب عندما جاءته قريش
بنفس العرض طالبين منه أن يُكَلِّم ابن أخيه لعله يتوقف عن دعوته إلى الإسلام
بينهم فقال عليه السلام: " والله يَا عَمُّ لو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِيني
والقَمَرَ في يَسَارِي على أنْ أَتْرُكَ هذا الدِّين حتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أوْ أَهْلِكَ
دُونَه."
وكأن الوليد بن المغيرة اقتنع بدعوة محمد صلى
الله عليه وسلم.. هكذا هُوجِم بعد ذلك مِن صَنَادِيدِ قريش، لكنَّه حقيقة كان يعيش
حالة المتعقل الذي يربط بين الأسْبابِ والمُسَبِّبات، ولا يَرُدُّه عنْ قوْلِ الحقِّ
إن كان ذلك القولُ لِعَدُوِّه شَاهِدٌ... كان ذلك الوليد بن
المغيرة.
رجع هذا الأخير
إلى حيث ترك زعماء قريش في دار الندوة ينتظرون منه ردّا، ومن بعيد كان أبو جهل يرى
أنه أي الوليد بن المغيرة يعود بغير الحماس الذي ذهب به، ولم يَصْبِر إلى أن يَعْرِفَ
ذلك منْه حتى قال في الحاضرين: " لقد
رجع أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به".
وقبل أن يستوي
الوليد في مقعده استعجل أبو جهل الخبر فسأله، " ماذا وراءك يا أبا الوليد.
فقال الوليد بن
المغيرة: " يا قَوْمْ.. إنَّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ محمد ليسَ بِشِعْر، فأنا
أعْرَفُكُمْ بالشِّعر- وقد سبق أن اتُّهِم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه
شاعر- وإنَّ الذِي يقولُه محمد ليْسَ بِسِحْر، فأنا أَعْرَفُكُمْ بِسَجْعِ الكُهَّان- وكان يُتَّهم عليه
السلام بأنه ساحر- وإنَّ الذي يقوله محمد ليس من كلام البشر.. إن الذي يقوله
محمد أَسْفَلُهُ مُغْدِقْ، وأَعْلاهُ مُورِقْ، وإنَّ له لَحَلاوَةٌ، وإنَّ عليه لَطَلاوَةٌ،
وإنَّهُ يَعْلُو و لا يُعْلَى عليه.."
فما كان من أبي
جهل إلا أن اتهَمَهُ بأنه قد صَبَأَ عن دين أجداده إلى دين محمد.. فبادر الوليد بن
المغيرة بنفي ذلك عن نفسه حتى لا يسقط في أعين المشركين الذين جعلوا له مكانة وهو
على شركه...
تلك شهادة الوليد بن المغيرة، يشهد فيها
بعلو مكانة القرآن عن باقي كلام البشر وقد كان ضمن زمرة ألذ أعداء القرآن الكريم،
والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على
الالتزام بالقرآن الكريم لأنه المخرج من الفتن الظاهرة والباطنة، خصوصا عند آخر
الزمان حيث تتوالى الفتن واحدة تلو الأخرى، لا يكاد الناس يستفيقون من هول فتنة
حتى تداهمهم الأخرى، كقطع الليل المظلم..
فعن علي بن أبي
طالب ر ضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سَتَكُونُ
فِتَنٌ قلتُ وما المَخْرجُ مِنْها، قال: كتابُ الله. فيه نَبَأُ مَا قبْلكم، وخبَرُ
ما بَعْدكُم، وحُكْمُ ما بينَكُم، هو الفَصْلُ ليس بالهَزْل، هو الذي مَنْ تَرَكَهُ
مِنْ جَبَّار قَصَمَهُ الله، ومَن ابْتغى الهُدَى في غيْره أَضَلَّهُ الله، فهو حَبْلُ
الله المَتِين، وهو الذِّكْر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذي لا تَزيغُ
به الأَهْوَاءُ، ولا تَلْتَبِسُ به الألْسِنَةُ، ولا يَشْبَعُ منه العُلَمَاءُ،
ولا يَخْلَقُ عنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وهو الذي لم يَنْتَهِ
الجِنُّ إذْ سَمِعَتْهُ أنْ قالوا إنَّا سَمِعْنا قُرآنا عَجَبَا، هو الذي مَنْ
قال به صَدَقْ، ومَنْ حَكَمَ به عَدَلْ، ومَنْ عَمِلَ به أُجِرْ، ومَنْ دَعَا إليْهِ
هُدِيَ إلى صِراط مُسْتَقِيمْ..."
وبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع
الوحي من السماء على الأرض، وتوقف توجيه الله تعالى لبني الإنسان.. فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيئين الذين اختارهم الله تعالى لينزل عليهم وحيه.
فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بكاه
الصحابة رضوان الله عليهم كما لم يبكي أحدٌ أحدا، وحزنوا على فِراقِه كما لم يفعلْ
أصحابٌ على صاحِبِهِم، ولكنهم بعد أن مرت ثلاثة أيام على دفنه صلى الله عليه وسلم
عادت الحياة إلى طبيعتها، واسْتِمْرَارِيَتِها وجَرَياَنِها، وقام الصحابةُ إلى
أشغالهم وحياتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى بأن لا يتجاوز الحداد
والحزن أكثر من ثلاث..
وبحثا عن أسباب
الإنشغال عن الحزن وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه
وقد أصبح خليفة للمسلمين: " يا عمر – يقصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
– تعال بِنا نَزُورُ أُمَّ أَيْمَنْ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها،
وعندما أقْبَلا على أمِّ أيْمَنْ وَجَدَاها تَبْكي.. ومحاولة مِنْهُم تَسْلِيَتَها
وإسْكَاتَها، قالا : يا أمَّ أَيْمَنْ، كَفَاكِ بُكَاء على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلقد انتقلَ إلى رَبٍّ كريمٍ، وجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَمَاوَاتِ والأرْض،
فلقد وَعَدَهُ ربُّه أنْ يَبْعَثَهُ مَقَاما
مَحْمُودا في الجنَّة..
تَوَقَّفَتْ أُمُّ
أَيْمَنْ عنِ البُكاءِ وقالت: أنَا لا أَبْكِي على مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم،
فأنا على يَقِينٍ أنَّه الآن في الجنَّةِ يَرْفُلُ في نَعيِمِهَا، ولكنْ أبْكِي
على انْقِطَاعِ الوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ بِمَوْتِ مُحَمَّدٍ...
فَبَكَى أَبُوبَكْرٍ،
وَبَكَى عُمَرُ، وأصْبَحَتْ أُمُّ أَيْمَنْ تُحَاوِل أنْ تُسْكِتَهُمَا...
كانت أم أيمن تقصد انقطاع نزول القرآن الكريم
بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي عموما لأن النبي صلى الله عليه وسلم
هو آخر نبي يبعثه الله تعالى لهداية البشر، فكانت أم أيمن، قد انتبهت إلى ما لم
يستطع لا أبو بكر ولا عمر الانتباه إليه، ألا وهو الوحي أي القرآن الكريم الذي كان
آخر ما وجه الله تعالى به الإنسان على الأرض...
والقرآن الكريم لا يحتاج في نفسه إلى هذه
الشهادات، وإنما هي تسلية، وبيان لكل من كان على قلبه غشاوة لم يدرك معها علو
القرآن وعظمته، أما المؤمنون حقا فلا حاجة لهم بأية شهادة، فالقرآن بالنسبة لهم
شاهدٌ وليس مشهودا عليه.
وقد سجل التاريخ شهاداتٍ لمستشرقين غَرْبِيِّين في حقِّ
القرآن الكريم، عَدَّهُمْ الناس ضمن الخصوم للقرآن الكريم، وكثيرٌ ما صَرَّحَ بعضُهُم
بذلك، ودلت الإشارات على أنهم ينتمون إلى جهات كَنَّتْ العَدَاءَ للقرآن الكريم،
ولدعوة الإسلام بصفة عامة..
فهذا "فولتير"
يقول في حق القرآن الكريم: " إنُّهُ على يَقِينٍ أنَّهُ لَوْ عُرِضَ
القرآنُ والإنجيلُ على شَخْصٍ غيْرَ مُتَدَيِّنٍ، لَاخْتَارَ الأول. لأن الكتابَ
الذِي أُنْزِل على صَدْرِ مُحمدٍ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُ في ظاهِرِهِ أَفْكَارا
تَنْطَبِقُ بِالْمِقْدَارِ اللاَّزِمِ مَعَ الأُسُسِ العَقْلِيَةِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ
يُوضَعْ قَانُونٌ كَامِلٌ في الطَّلاَقِ مِثْلَ الذِي وَضَعَهُ القرآن".
ويقول الفيلسوف الفرنسي "رِنَانْ": "
كُلَّمَا أُحِسُّ بالإجْهادِ، وَأَرَدْتُ أنْ تُفَتَّحَ لِي أَبْوَابُ المَعَانِي
والْكَمَالاتِ، طَالَعْتُ القرآنَ، حيْثُ لا أُحِسُّ بالتَّعَبِ أَوِ المَلَلِ بِمُطَالَعَتِهِ
بِكَثْرَة. لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَقِدَ بِكِتابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
فَإِنَّ ذلك الكِتابَ هو القرآنُ لاَ غَيْرْ.. إنَّ الكُتُبَ الأُخْرَى لَيْسَتْ لَهَا
خَصَائِصٌ مِثْلَ خَصَائِصِ القرآنِ.."
وقال الطبيبُ الفرنسي "مُورِيسْ بُوكَايْ"
: " قَرَأْتُ القرآنَ بِإِمْعَانٍ وَوَجَدْتُهُ هو الكتابَ الوحيدَ الذِي
يَضْطَرُّ بالمُثَقَّفِ بِالعُلُومِ العَصْرِيَّةِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مِنَ
اللهِ لاَ يَزِيدُ حَرْفا وَلاَ يَنْقُصْ".
ومن ألمانيا تقول المستشرقة " أَنَّا مَرِيَّا شْمِيلْ
: " القرآنُ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ مُوحَاةٌ بِلِسَانٍ عربي مُبينٍ، وتَرْجَمَتُهُ
تتجاوَزُ المُسْتَوى السَّطْحِي، فمَنْ ذَا الذِي يَسْتطِيعُ تَرْجَمَةَ كَلِمَة
اللهِ بِأَيِّ لُغَة".
وقال السياسي الأنجليزي " إدْمُونْد بِيرْك":
" كلما نُدَقِّقُ في القرآنِ نَرَى كَمَالَهُ وَعُلُوَّهُ.. يَجْدبُ المَرْءَ
أوَّلا ثُمَّ يَبْهَرُهُ، ويُحَيِّرُهُ ويَجْعَلُهُ شَغُوفا بِهِ.. يُجْبِرُ المَرْءَ
على احْتِرامِه، وبذلك ترى تأثيره في الأعماق".
ويقول الباحث الأمريكي " مايكل هَارْث" :
" لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بَقِيَ بِحُرُوفِهِ كامِلا دون تَحْوِيرٍ سِوَى
القرآنِ الكريمِ".
وقال الأديب الألماني " جُوهَانْ غُوتَة" :
" كلما قرأتُ القرآنَ شَعَرْتُ أَنَّ رُوحِي تَهْتَزُّ تَحْتَ جَسَدِي".
وقال الروائي والمفكر" ليوتولستوي" :
" سَوْفَ تَسُودُ شَريعةُ القرآنِ العالمَ، لِتَوَافُقِها وانْسِجَامِها مَعَ
العَقْلِ والحِكْمَةِ".
وقال القائد العسكري " نابليون بونابارت" :
" آمُلُ أنَّ الوقتَ ليسَ بَعِيدا عندما سأكون قادِرا على توحيد جميع الحُكماءِ
والمُتعلمينَ مِنْ جميع البُلدانِ وإقامَةِ نظام موحد على أساس مبادئ القرآن
الكريم التي هي حقيقة وحدَها التي تؤدي للسعادة".