dimanche 23 janvier 2022

الإلحاد وأوهام الملحدين - د أحمد بوشلطة

  

إهداء

إلى كل متمرِّد على ما حوله من عفن فكري،

 وفساد أخلاقي، وانحراف عقائدي..

أهدي هذه المحاولة المتواضعة، تنبيها وتحذيرا

من الضياع، ودعوة إلى الصواب،  والاستقامة،

وليس تكريسا للتمرّد...

 

 

 

 

 

 

تقديم

 

        إن ظواهر التحول عن العقيدة الصحيحة، إلى غيرها، بما في ذلك الإلحاد، بين الشباب، لتمثل صورة من صور ضعف المجتمعات الإسلامية، وانشغالها، وانصرافها عن تربية النشء على العقيدة التي تؤمن بها، شأنها في ذلك شأن كل المجتمعات.. هذا الضعف الناتج عن فشل الآباء والأولياء، والدعاة والواعظين، والأساتذة والمربين، في دورهم المنوط بهم .. ألا هو تنشئة الأجيال الصاعدة، والقادمة على ما يؤمن به الكبار فيها صوابا، وتلك هي المحجة البيضاء، التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

        هذا الفشل التربوي الذي تظهر نتائجه على الشباب في أمتنا، إنما هو انعكاس للفشل في كل المجالات.. الشيء الذي جعل الصغار فينا غير مُقتنعين، بما نحن عليه.. لأنه يبدو لهم، قاصرا منقوصا، غير كامل.. لا يُلبي طموحاتهم، ولا يُشعرهم بالفخر، أمام غيرهم من أبناء المجتمعات الأخرى، الذين يتشاركون معهم التواصل بمختلف أشكاله...

        فمجتمعاتهم لا تغريهم بالسير على نهجها، ولا الإبقاء على طريقتها، فهم يعيشون وسط بحر من الازدواجية، والنفاق.. في التعليم، والصحة، والوظيفة وغيرها.. تاركين عقيدتهم  ناصعة.. تُغري غيرهم باتباعها، والالتزام بها، وهم غافلون راغبون عنها، مُنْهَمِكُونَ ومنشغلون بالعمل على تحقيق مصالح ضيقة، وشهوات زائلة.

        فالعلم والإتقان، والصدق والأمانة، والريادة، والنجاح أصبح سلعا مستوردة لا ننتجها.. والبطولات، والانتصارات، والنجاح... أصبحنا نسمع عنهم مع غيرنا، وفي غير بيئتنا...

 النتيجة المؤلمة أن شبابنا لم يَجد له فينا ما يفتخر به، ويعتز بالانتماء إليه، وبدأ يبحث لنفسه عن هوية أخرى غير ما عَرَف عليه آباءه وأجداده.. سواء بمحاولة تغيير وطنه، هروبا بركوب البحر، ومعانقة المجهول بشخصه، إلى عالم آخر، أو هروبا بفكره وعقيدته، وتغيير جلده في مكانه...

يبحث لنفسه عن كل غريب عن أمته، وكل جديد في عالمه.. ولأن الشيطان يقتنص الفرص، ويتربص بذرية آدم.. لإيذائهم، والإضرار بهم، لا يُفوِّت الفرصة.. فيعمل على تزيين الإلحاد، وتلوين الكفر، وتسهيل تغيير الدين، للأَغْرَار من الشباب، بشتى الطرق..

فمثلا يزين لهم الإلحاد على أنه شيء جديد، لا يؤمن به إلا مفكر يُحترم بين أقرانه.. ليس إمّعة، ولا سهل المِراس.. شخصية فذة يُحسب لها ألف حساب... تعظيما له، وإغراء بنهجه...

 إضافة إلى أنه يوفر صداقات قوية مع آخرين يشتركون جميعا في القصد، ذكورا وإناثا.. الشيء الذي يُغري المنبوذين منهم، والمتعطشين للشهوات.. فإنهم يرون في الالتحاق بصفوف المنحرفين إشباعا لنزَواتِهم المكبوتة والمحصورة.. خصوصا إذا علمنا أن الملحدين ينشرون بين الأغرار منهم، أنه لا ضير عندهم من زنى المحارم، وشرب الخمور، وفعل المنكرات.

وقد تجد بين الملحدين، من يُصاحبهم، ويتبع نهجهم، لا لأنه مُقتنع بمذهبهم الفكري وعقيدتهم، ولكنه ملازم لهم لأنه يجد معهم مبتغاه، وشهواته التي يتعذر عليه إشباعها والوصول إليها بعيدا عنهم.

        وإن كل ذلك لم يكن ليحصل لأمتنا قبل ابتلائها بالاستعمار المقيت.. فقد كانت ضعيفة ومتخلفة.. سهّلت بضعفها، وصول المستعمرين إلى أهدافهم فيها ... لكنها رغم كل ذلك كانت تمشي في الاتجاه الصحيح، تقدس عقيدتها، وتحرص على أخلاقها وتقاليدها.. رغم بُطء حركتها، وفقرها..

وقد عرَفت في السابق- حين كانت منظومة التربية فيها مُحكمة- عُلوّ همّة الشباب فيها.. وشموخ غاياتهم، وتطلعاتهم.. الشيء الذي جعلنا نطالع في التاريخ ارتباط إنجازات ضخمة بشبابها، كالفتوحات العسكرية، والاكتشافات العلمية، والسمو الأخلاقي، والنبوغ الفكري...

 ثم جاء الاستعمار.. بدعوى الحماية.. وبدعوى التطوير.. وبدعاوى كثيرة، وحجج مختلفة، كمحاربة الإرهاب، وتطوير التعليم، والصحة، والبحث العلمي... فغير اتجاهها إلى عكس ما كانت عليه.. وتمكن من مقدّراتها.. وقاد تعليمها، وتربية أجيالها.. وغَيَّرَ اتجاهها وتوجّهها.. إلى الاتجاه المعاكس لِما كانت تمشي عليه...

فاستهزأ بعقيدتها، وهمّش رجال دينها، وفقهائها، وسخر من أخلاقها .. وقدّم مثقّفِيه وأخّر عُلماءَها، حتى أصبح الناس، يُلحقون أبناءهم بمدارس الاستعمار، ويزهدون في مدارس التعليم الأصيل، عندما رأوا أن الاستعمار يُعلي من شأن المتخرجين من مدارسه، في اللحظة التي يسعى جاهدا لإبقاء المتخرجين من المدارس الدينية الإسلامية مُهَمَّشِين فقراء.. أقصى ما يمكن الوصول إليه والظفر به عندهم، هو وظيفة إمام في المسجد، براتب زهيد.. كرَّس الفقر بينهم، وشغلهم بلقمة عيشهم عن الهمة العالية التي كان عليها أجدادهم.. حتى أن الاستعمار صنع الظروف التي ساعدت على تسمية هذا النمط من التعليم بالتعليم العتيق.. أي التعليم القديم.. الشيء الذي يوحي إلى الناس بقدمه، وتجاوزه.. إلى ما هو حديث، إشارة إلى المدارس الإستعمارية.

  وإن كل غيور على أمته وشبابها.. أبا كان أو وليا، أو أستاذا، أو داعية .. ليحس بالخجل على ما وصل إليه سقف شبابنا من الانحدار، والتراجع، والإحساس باللامسؤولية..

ومن حسن حظ هذه الأمة أنه لا تزال فيها فئة قابضة على الهوية، متمسكة بالعقيدة، صابرة على البقاء في الوطن..  لا يضرهم من خالفهم.. رغم قلة عددهم، وانسداد الفرص أمامهم.. إلا أن الأمل في الله كبير.. والأمل في عقب هذه الأمة كثير...

        إن مهمة التصدي لهذا الميلان الذي يعرفه الشباب، والمسندة لكل المذكورين سابقا أباء وأولياء، ودعاة ووعاظ، ومدرسين وأساتذة... وغيرهم ممن كان بيده القدرة على التدخل في الموضوع.. لهي أم الوظائف التي يمكن للمرء الانشغال بها في حياته.. لأن شبابنا أمانة في أعناقنا جميعا.. نُسأل عن ضياعهم يوم القيامة.. ولعمري إن ضياعهم لمفسدة للأمة كلها.

         فما حقيقة الإلحاد.. وما حقيقة الملحدين ؟

وهذا الكتاب المتواضع، هو نقطة في دائرة هذا الهمّ، ومحاولة للتخلص من هذا الشرّ المستطير.. وهو عبارة عن دفع بعض الشبهات التي انطلت على بعض شبابنا، وجعلتهم يصدقون ما يروجه المُغرِضون، الذين يريدون بهذه الأمة سوءا من خلال شبابها.. لأنهم عمدة مستقبلها، وضمان استمرارها لأداء رسالتها للعالمين.

وهذه الشبهات من مثل، أين الله ؟ وما الدليل على وجوده ؟ وما هي الجهة التي يوجد فيها ؟ وما هي المادة التي هو منها ؟ ومن خلق الله ؟ وغيرها كثير... وهل الساعة آتية لا مَفَرَّ منها، أم أن الدنيا هي كل ما في الحياة ؟

وهل محمد " صلى الله عليه وسلم" هو من افترى القرآن ؟

ولماذا تزوج بأكثر من أربعة، كما حدد ذلك لأمته ؟

وكيف يتزوج بصغيرة في سن حفيدته ؟ يقصدون أم المؤمنين عائشة.

كل هذه الشبهات ، وهذه المزاعم إنما تنمّ على عدم تقديس للمقدسات، وعم استحضار لعظمة من يتحدثون عنه.. سواء تعلق الأمر بالله تعالى في علياءه، أو تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن الكريم، حينما يتوهمون أنه من افتراء بشر...

ولو علموا عمن يتحدثون، لضحكوا قليلا وبكوا كثيرا، ولتبرّأوا مما قالوا.. ولطلبوا مهلة يصلحون فيها ما أفسدوه... ولقالوا: " ... رب ارجعون لعي أعمل صالح فيما تركت..."

"... كلا..."

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإلحاد وأوهام الملحدين

 

الإلحاد في اللغة الميل عن القصد.. وفي الاصطلاح، يطلق ويراد به مذهب اعتقادي، ينبني على فكرة أساسها إنكار وجود الله تعالى، الخالق، والمدبِّر سبحانه .. والكون إنما أَوْجَدَ نفسَهُ بنفسه، على اعتبار أن المادة أزلية، عمياء.. هي في نفس الوقت الخالق والمخلوق، وإنكار الحقيقة الدينية التي تقول عكس ذلك...

        والإلحاد في حقيقته، إنما هو صورة من صور فوز الشيطان على ذرية آدم ، في المعركة الأزلية الناشبة بين الطرفين، منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى أن يرث الله كل شيء، وهي قد نشبت قديما بين إبليس وآدم عليه السلام في الجنة، وانتهت بإخراجهما منها.

         ولقد توعد الشيطان عندئذ بإكمال المعركة مع ذريته عليه السلام، حتى يثبت لله تعالى أنه أفضل من آدم، وفي الأخير يثبت عدم عدل الله سبحانه، لمّا رأى أنه فَضَّلَه عليه، عندما سواه سبحانه، ونفخ فيه من روحه، وقال للملائكة اسجدوا له.. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس كان من بينهم من عنصر الجان، أبى أن يسجد استكبارا وعصيانا.

قال تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بيس للظالمين بدلا..."

                                                                            سورة الكهف الآية:49

        والله سبحانه وتعالى حينما قصّ قصة عصيان إبليس وكبرياءه، حذر من اتباعه، واتخاذه مثالا في العصيان، وتمثُّلِ كبريائه، واتخاذه وليا من دون الله، وهو عدو لذود. والعدو إن تمكن من خِداع عدوِّه، فأصبح يرى فيه صديقا، وولِيّا، يحرص على مصلحته.. عندها يفعل به ما يشاء.. مما يُضِرّ به، مُدّعيا أنه يُحسن إليه، حتى إذا وصل به إلى ما يرجوه فيه، أَرْداه، وقضى عليه...

        فلما أخبر الله تعالى أنه جاعل في الأرض خليفة، من مواصفاته أنه يُفسد في الأرض ويسفك الدماء.. اعترض الملائكة بلطف سائلين الله تعالى:

" أتجعل فيها مَن يُفسِد فيها ويَسفِك الدماء ونحن نُسبِّح بحمدك ونقدِّس لك قال إنيَ أعلم ما لا تعلمون..."                                                                 سورة البقرة الآية 29

        أي أعلم هذا وأكثر منه، لكن الذي يصلح لأن يكون خليفة في الأرض هو هذا الإنسان..  رغم ما بدا لكم فيه من عيوب .. فإنه فاز بهذه الخلافة، عندما تَفَوَّق على الملائكة في المباراة العلمية، التي تعلقت بعلم أسماء الأشياء المخلوقة.. والتي مكنته أن يحظى بشرف السجود له منهم جميعا...

        وقد أعدّ الله تعالى الإنسان في شخص آدم عليه السلام لهذه المهمة، التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. بأن ألهمه الخير والشرّ، وزوده بآلية الإرادة والاعتماد على قدراته الشخصية، وتحديد المواقف، والتمييز بين الخير والشرّ، وما زَلَّتُه في الأكل من الشجرة التي نُهي عن الاقتراب منها، إلا صورة من صور قدرته على المبادرة الذاتية، واتخاذ القرار من عند نفسه، دون الرجوع إلى ربه، وخالقه..

 وليست خطيئة وجودية كما يراها المسيحيون، وإنما هي مجرّد زَلّة.. كما ورد ذكرها في الآية من سورة البقرة.

قال تعالى:  " ... فأزلهما الشيطان عنها..."                    سورة البقرة الآية: 35

ويَظهر ذلك جليا في موقف الله تعالى من هذا الزلل، حيث لم يكن غضبه سبحانه كبيرا، ترتب عليه عقاب ماحق، ولا إبعاد مُخزي.. وإنما ترتب على ذلك إخراجه من الجنة.. هو وزوجه معه، إلى الأرض، التي هي المكان الذي جُعِل من أجل أن يكون فيه خليفة، أو خُلِق ليكون خليفة فيها.. وذلك قبل خلقه وإيجاده.

 قال تعالى: " ... إني جاعل في الأرض خليفة..."          سورة البقرة من الآية 29

        فإن استطاع تغليب الخير على الشرّ فاز في الامتحان، ونال الجائزة التي أعدها سبحانه للفائزين، وإن غَلَبَ شرُّه على ما أُلْهِمَهُ من خير، واتبع هواه كما زيَّن له الشيطان، خَسِرَ الخسران المبين، واستحق العقاب الذي أعده سبحانه للخاسرين الذين خسروا بخسرانهم أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

قال تعالى: " الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون..."         سورة الأنعام الآية: 21

        ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه أكثر من التذكير بقصة الشيطان، وعداوته لآدم وذريته في القرآن الكريم، مرات عديدة، حتى يأخُذَ الآدميون حِذرهم ، واحتياطهم ، وينتبهوا لخداع عدوِّهم، ومكره بهم.. فإنه لا يريد إلا هلاكهم وتصفيتهم..

 قال سبحانه:  " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون(28) فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون(30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين(31) قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين(32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون(33) قال فاخرج منها فإنك رجيم(34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين(35) قال ربّ فأنظرني إلى يوم يُبعثون(36) قال فإنك من المنظرين(37) إلى يوم الوقت المعلوم(38) قال ربّ بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين(39) إلا عبادك منهم المخلصين(40) قال إن هذا علي صراط مستقيم(41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين(42) وإن جهنم لموعدهم أجمعين(43)..."           سورة الحجر الآيات: 28-43

        فالكبر، والحسد هما اللذان كانا من وراء عصيان إبليس لربِّه، فهو يعتقد أنه الأفضل، وعنصر النار الذي هو منه خَيْرٌ من عنصر الطين الذي خُلق منه آدم ..

قال تعالى: " ...قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين..."

                                                                       سورة ص الآية: 75

        قال تعالى: " ...قل أأنتم أعلم أم الله ..."                   سورة البقرة من الآية: 129 وهذا خطاب من الله تعالى لكل خلقه، كلما زلّ أحدهم ...

        وقد علم الشيطان كلّ هذا من الله تعالى حين قال: " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم..."            سورة الحجر الآية: 26

        كان الشيطان أقدم في الوجود من آدم.. فقد كان مع الملائكة في الملأ الأعلى ، حيث كان يحظى بشرف الانتماء إليه، وذلك جعله يكون حريصا أكثر من المطلوب، على أن تبقى تلك الحظوة له وحده بينهم، ويخشى من أن يشاركه غيره فيها..

وحتى لا يجد نفسه مُلزما بمشاركتها مع المخلوق الجديد آدم، رفضه ككائن.. ثم رفض كل ما يتعلق به، ومن ذلك الاحتفاء به.. بالسجود له، تقديرا واحتراما.. وفي الأخير قبولا به، منافسا له في ذلك.

        ثم إن الاستغراب يتمكن من المرء عندما ينظر إلى الجرأة التي واجه بها إبليس أمر الله تعالى بالسجود للمخلوق الجديد، عِصيانا وتمرّدا.. وهو يعلم تمام العلم، قدر الله تعالى وعظمتَه، وقدرتَه عليه، وشدّة انتقامه وبطشه...

فهو كان عالما بعظمته، واثقا من علمه بكلّ شيء متأكدا من عدله.. ولم يكن يشك في وجوده، أو يرتاب في ألوهيته وربوبيته.. لكنه في معركته مع ذرية آدم،  لم يتردد في تشكيكهم في وجوده، ولم يتوان في أن يُلبِس عليهم حقيقته سبحانه، على أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، خالق كل شيء ومدبر أمره، والآخذ بنواصي العباد، المحيي والمميت... الموجود.. بل ، واجب الوجود. ففي نظره، ونزولا عند غروره معركته مع مُخالفيه تبيح له كلّ شيء، وتسمح له بكل شيء حتى الكذب على الله تعالى وهو يعلم حقّ العلم أنه سبحانه يسمعه ويراه، ويراقب قوله وفعله.. لكن حبّ التفوّق على المخلوق المنافس وذريته أعمى بصيرته، وأبطل عِلمَه بربه.. وهو أعلم أهل الأرض، لكن، لم يُغني عنه علمه شيئا إذ عصا ربه، وكفر بآياته.

كان من المفروض، والمقبول عقلا، أن يكون قد تشرب، وأخذ من الملائكة الذين كان بينهم، طاعتهم لله تعالى الغير محدودة، وانقيادهم لإرادته، فهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون.. لكن كبرياءه وإعجابه بنفسه، وأنانيته، منعته من أن يظلّ يحظى بشرف الانتماء إلى الملأ الأعلى في الجنة.. فأبى الإذعان لربه، وعصا  أمره، مدعيا أنه خير من هذا الذي هو مأمور بالسجود له، ومتوعدا ذريته بالحرب والغواية والصدّ عن ذكر الله وعبادته...

        قال تعالى على لسان إبليس: "أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ..."                                   سورة الإسراء الآية: 62

 " ... ولأضلنهم ولأمنينهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ... "              سورة النساء الآية: 119

وإن أي تقصير في المهمّة التي أنيطت بأحدهم، سواء تعلق الأمر بالآباء والأمهات والأولياء، أو تعلق الأمر بالمعلمين والمدرسين والعاملين في حقل التعليم والتربية عموما، أو تعلق الأمر برجال الإعلام والصحافة، وكل من كان قريبا لهذا المجال، ومن كان يمت إليه بصلة..إنما هو إعانة للشيطان على أولادنا، ليجتليهم كما توعد بذلك من قبل...

وإن ضياع أولادنا ضياع لنا، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يُحذِّر فيه بقوة من ذلك، في قوله: " كفى بالمرء  إثما أن يُضيع مَن يَقُوت " وفي رواية:  " مَن يعول "   رواه وأبوداود.

 ورواه مسلم في صحيحه بألفاظ: " كفى بالمرء إثما أن يَحبِس عَمَّن يملك قُوتَه". يعني: أن يحبس القوت عمن استرعاه. وليس هناك أكثر من أن يُضيعه في دينه الذي فيه عصمة أمره في الدنيا والآخرة.

فيقول عليه السلام تشديدا على الاعتناء بتنشئة الصغار: " لأن يُؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق كل يوم بصاع".           أخرجه الترمذي عن جابر بن سمرة مرفوعا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: " ما نحل رجل ولده خير من أدب حسن "

                                                        رواه الترمذي عن جابر بن سمرة

وإن أعلى ما في الأدب، الوفاء، وحفظ الأمانة.. ألا وإن أعظم أمانة يتوجب على المرء حفظها هي حفظ دينه، وصيانة عقيدته...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حقيقة الإلحاد والملحدين

 

وحقيقة المُلحدين، أن أكثر من يدعي منهم الانتماء إلى دائرة التمرد على الله تعالى بإنكار وجوده، وإنكار الحقائق الدينية عموما، واعتبار العالم وُجِد من غير موجد، وأن المادة أزلية.. هي في آن واحد، الخالق والمخلوق... ينقسمون إلى أصناف عديدة بحسب الداعي الذي دعاهم إلى اختيار الإلحاد عقيدة وميولا.

 فمنهم من وصل إلى الاعتقاد بأن الكون ليس له خالق، وأنه وجد صدفة... انطلاقا من تفكيره وخضوعا لمكتسباته، وانقيادا لبيئته، وتربيته وتعليمه، وطمسا لفطرته، التي لم تجد لها مُذكِّرا، ولا وَاعِظا، ولا ناصِحا أمينا، فانحرفت به، مُتّبِعَة هواها، ومُطيعة للشيطان.

        ومنهم من لجأ إلى الإلحاد، رياءا لغيره من الناس، باعتبار أن الانتماء إلى دائرة الملحدين، يجعله مميزا في نظر أقرانه، ويُكسبه التقدير والاحترام منهم، على أساس أنه من الذين تمردوا على كل قديم، وتمسكوا بالجديد، وامتلكوا الشجاعة لمواجهة كل تقليدي قديم، أو بالأحرى رجعي متخلف...

 وبِغَضِّ النظر عن رأينا في حقيقة الأمر، فإن هؤلاء مُقتنعون بتوجهاتهم، كنوع من أنواع الانتصارات الوهمية.. التي تخدع الشباب في أغلب الأحيان، وتحولهم عن المعارك الحقيقية، التي يتحتم عليهم خوضها، للفوز بمعركة الحياة...

        ومنهم من يجد في التدثر بأفكار الإلحاد، وإنكار الحقائق الدينية، هروبا، واختباء من الالتزام بالتكاليف الدينية سواء منها المتعلقة بالعبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق.. وهروبا، من مَشاقّ التكاليف الأخلاقية والاجتماعية، سواء تعلق الأمر بمشقة الإتيان بالمأمورات، أو الحرمان من لذة المنهيات.. والاستمتاع المزيف براحة، وإباحية التمرد على آيات الله والانصياع لأمره...

        ومنهم من يجد في الإلحاد ما تشتهيه نفسه، وتَلذُّه عينُه، دون مانع، ولا حسيب ولا رقيب.. باعتبار أن الملحدين، جعلوا لأنفسهم تَلْمُودا يقوم على إباحة الشهوات، وإطلاق  عنان الملحدين فيها.. فهم يُبيحون.. بل ويَدْعُون إلى زِنَى المحارم حتى.. الشيء الذي يجعل منه أداة استقطاب قوية، يستجيب لها كل من انحرفت فطرته، وساء خلقه، وانعدمت آثار التربية فيه، من الشباب المتعطش للشهوات.. لاعتبارات كثيرة ومختلفة، منها وسائل الإعلام المُغرضة، التي ما عُرفت لها من غاية، إلا تأجيج شهوات الشباب وإثارتها.. وغياب سبل الإشباع المشروع لهذه الشهوات بالزواج، والتي منها التعرض اللا محدود له.. وبكل الوسائل...

         الملحدون ينكرون وجود الله تعالى.. الخالق لكل شيء.. فلنفترض أنه سبحانه غير موجود.. فمن أوجد الموجودات  ؟؟ ومن أحدث المحدثات  ؟؟ ومن خلق المخلوقات التي لا نعلم عن كيفية خلقها إلا بما أخبرنا به الله تعالى في القرآن الكريم.

قال تعالى: "... إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ..."                                           سورة يس الآيتان: 82- 83

وقال سبحانه : " ... ويخلق ما لا تعلمون..."                            سورة النحل الآية: 8

        ومن أوجد السماوات التي رفعت بغير عمد ترونها ؟

        ومن أوجد الأرض والجبال الرواسي ؟

قال تعالى: " ... أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ..."                                                                       سورة ق الآية: 6

وقوله تعالى: " ... أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سُطحت..."          سورة الغاشية: الآيات: 17-20  

فالنظر سواء أكان بالعين المجردة، أو كان بالتأمل والتفكير يؤدي بالعقلاء إلى تقدير الصانع، وإكبار المبدع، والانحناء أمامه طاعة وتسليما، وذُلاّ وانقيادا، لأن النظر إلى الصنعة تُعرِّف بالصانع.. إلا إذا كانت معايير الناظر مختلّة غير عادية، عند ذاك لا يُقَدَّر الصانعُ حقّ قدره..

فهذه المخلوقات العظيمة، المُحكمة، لا تدل إلا على صانع عظيم، وعليم حكيم، وقادر جبار، وخبير مبدع...

فالنظر إلى الإبل - بحكم أن الخطاب القرآني كان في بدايته موجها إلى العرب في صحراء الجزيرة العربية، حيث كانت الإبل هي خير أموالهم، وخير مطاياهم وركوبهم - تنبيه لهم إلى دقة صنعه، في ما هو أقرب إلى معاشهم وحاجاتهم في حياتهم ...

والنظر إلى السماء يشعر بجلال خالقه، وعظمته وكبره، واتساع سُلطانه، وقوته وجبروته، ومهارة صنعه... ولا يسع المرء إلا التسبيح بحمده، والسجود لعظمته...

وإن الغفلة عن النظر والتأمل في هذا الخلق العجيب، وخاصة السماوات التي رفعت بغير عمد لمؤشر كبير، ودليل خطير على اختلال وفساد كبيرين في عقل وتفكير المرء ذكرا كان أو أنثى...

        ومن أوجد الإنسان العجيب في تكوينه، الغريب في أطواره، المكون من ترليونات الخلايا، وكل خلية هي عبارة عن جسور، ومصانع، ونظام تشفير مُعقد وراثيا، بقوامه المعتدل الذي يُدار بواسطة مئات العضلات.. وقلبه الذي يعمل ليل نهار.. في النوم واليقظة بلا توقف ولا صيانة..

وعينه التي تحوي نظام تصوير مميز للألوان، وبدقة مذهلة تصل إلى ما يفوق 580 "ميغابكسل"، مع آلية خيالية لتخزين الصورة المتحركة والساكنة، بل وتفسيرها بواسطة الدماغ وتحليلها في أقل من ثانية.

ولو أردنا إحصاء الأجهزة العجيبة التي تعمل داخل جسده لما وصلنا إلى شيء، ولما استطعنا الإحاطة بها..

فجهاز سمعه الذي يلتقط الأصوات ويصنفها تصنيفا دقيقا، ويتذكر بعضها ولو بعد زمن.

وجهازه العصبي الذي هو عبارة عن شبكة اتصالات معقدة، مركزها الدماغ، وترتبط بكل أعضاء الجسم.. أمرا ونهيا...

وجهازه الهضمي، وجهازه البولي، والتنفسي، وحاسة الشمِّ والذوق... وغيرها كثير.

        ولسانه المرتبط بفكه بسبعة عشر عضلة .. ويسأل بذكاء خارق للعادة، وهو مُعجب بنفسه، مُرتاح لاختياره.. مزهو بتفكيره المميز عن غيره:

 

أين الدليل على وجود الخالق ؟

في الوقت الذي كانت نفسه عبارة عن دليل قوي يشهد للخالق بالوجود، ويُقِرّ له بالعظمة.. فيخشع له، ويُصدِّق أنبياءه.. ويُعلن ولاءه إليه...

 قال تعالى: " ... وفي أنفسكم أفلا تبصرون ..."           سورة الذاريات الآية: 21

وقال سبحانه: " ... سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم الحق من ربهم أو لم يكف بربك أنه على كل شيء وكيل ..."                  سورة فصلت الآية: 53

        فبالإضافة إلى التنبيه على عظمة الله تعالى الظاهرة في خلق الإنسان، تشير الآية الكريمة إلى ما يَعِدُ الله تعالى به، من إظهار آياته وعلاماته في الآفاق على مرِّ العصور والأزمان، بغاية أن يعلم الناس أنه الحقّ.. الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، خالق كل شيء، ومدبر أمره، ومُبَدِّل حاله، وحافظه، ورازقه، ومصوره.. والرقيب عليه إلى يوم الدين.

        وآياته في الآفاق كثيرة  لا تُعَدّ ولا تُحصى.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يحب الله تعالى من وراء إظهارها رجوع عباده إليه، وطاعتهم له، واتخاذه وليا من دون الشركاء، واللجوء إليه عند الحاجة، لأنه الصمد المصمود لتلبية الحاجات، والاستجابة للدعوات.

ومن هذه الآيات، الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، والسحاب والريح، والماء المنزّل من السماء لإحياء الأرض بعد موتها.. والظواهر الملفتة، ككسوف الشمس، وخسوف القمر، وانقطاع القطر من السماء، والزلازل، والبراكين وغيرها كثير.

ومَنْ خَلَقَ الأنعامَ، والخيلَ والبغالَ والحميرَ وغيرَ ها من كل دابة ؟

قال تعالى: " ... ولكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ..."                                              سورة النحل الآية: 66

وفي الأنعام كذلك عبرة وتنبيه على عظمة الله تعالى في خلقها.. باختلاف ألوانها وأشكالها، وأحجامها، ووظائفها، وحاجة الإنسان لها، طعاما وركوبا وزينة.. في كل الأوطان، والأجواء، والبيئات، الباردة والحارة، وفي السهل والجبل، وفي الصحراء والخصب.. وتسويتها كيف يشاء.. إنَّ في ذلك لآيات للعالمين.

قال تعالى: " ... أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَت ..."     الغاشية الأيات: 17

 

ومن ينبت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل التمرات...

ومن ينزل من السماء الماء فيُحيي به الأرض بعد موتها.

 قال تعالى: " ... وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج..."                                                        سورة الحج الآية:6

ينزِّل من السماء الماء لينبت به الزرع والزيتون والنخيل ومن كل الثمرات، والآية الكريمة تذكر من الثمرات ما كان به يتعيش الإنسان العربي آنذاك، وإلا ليست هذه النباتات المذكورة هي وحدها التي تنبت بماء السماء.. وإنما مالا تحصيه العين، ويَكَلُّ في عَدِّه القلم من المزروعات التي يَمُنُّ الله بها على عباده...

 وكل ذلك تقريب وإخبار لهم بقدرة الله سبحانه وتعالى على إيجاد، وخلق ما يتعيشون به من الأطعمة.. وبيده أن يمنعها عنهم، لعلهم يدركون حاجتهم إليه، وذُلَّهُم أمام عظمته، وطاعتهم له، وعبادته كما أمر.

هل هناك عبر التاريخ من ادعى خلق السماوات والأرض والجبال، ممن ادعوا الألوهية "كفرعون" و"النمرود" وغيرهم.. إن هؤلاء قد تجرّؤا على ادعاء الألوهية، قهرا للبشر، وعلوا في الأرض، كما سوّلت لهم أنفسهم، لكنهم.. لم يجرؤ أحد منهم أن يدعي أنه خالق السماوات والأرض والجبال...  

فلقد سبق في التاريخ، ن ادعى أحدهم قديما أنه يُحيي الموتى، التفافا على هذا الفعل العظيم، الذي هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، الذي يُحيي ويُميت حقيقة، ولا أحد غيره يفعل مثل فعله.. فهو واحد أحد في ذاته وفي صفاته، وفي أفعاله.

قال تعالى : " ...إذ قال إبراهيم  ربي الذي  يُحيي ويُميت  قال أنا  أحيي  وأميت فقال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب فبُهِت الذي كفر  ..."                                                              

                                                                  سورة البقرة الآية: 258

إن هذا الأخير، الذي كفر بادعائه الإحياء والإماتة – وقد يدخل معه كل كافر كان يظنّ بالله الظنون – بُهِتَ .. أي عجز عن أن يأتي بالشمس – التي هي خلق من خلقه سبحانه - على غير الشكل الذي جعلها الله تعالى في شروقها وغروبها.

وهكذا ظهر عجز هذا المُدّعي في تحويل جريان الشمس عن مسارها الذي قدّره الله تعالى لها.. فكيف له بخلقها، وإحداثها من عدم.

        وفي استقرائنا لتاريخ من عظموا أنفسهم، وأجبروا الناس على طاعتهم، وعبادتهم، طغيانا منهم، وكبرياء وتجبرا، لا نجد أحدا منهم ينسب لنفسه خلق السماوات ولا الأرض ولا حتى شيئا منها...

والعقل والمنطق والفطرة السليمة تقضي أن يُصَدَّقَ مَن أعْلَنَ خلق هذه المخلوقات كلها، بما فيها العظيمة منها والدقيقة، كالسماوات والأرض والجبال، ما دام لا أحد من الجبابرة ولا من غيرهم، قد ادعى خَلْقها ...

فالله تعالى أثْبَتَ أنه خالقُها، ومُنشئُها في أكثر من كتاب سماوي، ودلّل على عظيم قدرته بالدليل العقلي، الذي لا يجد المرءُ معه، بُدّا من التسليم له، والإيمان به.

 

إيمان العجائز:

        حَدَثَ في بغداد قديما، أن كانت عجوزٌ تجلس في باب بيتها، فرأت الناس يهرولون في اتجاه واحد، وبأعداد كبيرة تثير الدهشة والاستغراب، فأرادت أن تعرف ما الذي يدعو الناس إلى ذلك، فأخذت تحاول أن تسأل أحدهم عن سبب ذلك، فأخبرها أحدهم أنهم خارجون لاستقبال عالم كبير.

قالت: ومن هو هذا العالم ؟

قال: فلان.

قالت: لا أعرفه.

قال: إنه هو الذي أوجد أكثر من مائة دليل على وجود الله.

فالتفتت إلى الجهة الأخرى، مُبدية عدم الاهتمام، وقالت: " وهل يحتاج الله إلى دليل..."

ففي نظرها الكون كله دليل على وجوده.. ولا حاجة للمخلوق في أن يُخبرَه غيرُه بالدليل على وجوده.. ما لم يصل إليه بنفسه من الكون المشهود ، ومن نفسه التي بين جنبيه، وهو يرى فيها العجب، في الحياة وفي الممات، وفي النوم وفي اليقظة، وفي الأحلام والرؤى، في الفرح والحزن، وفي المرض والصحة، في الهمِّ والفرج، في اليُسر والعسر... وغير ذلك مما يشهده في حياته.

 

لا أحد خلق نفسه:

        أما خلق أنفسهم، فالعقل السليم، والمنطق الحكيم، يُحتِّم علينا، - ونحن نبحث في سرِّ وجودها- أن نعلم علم اليقين أن لا أحد خَلَقَ نفسه، ولا أحد شارك حتى في خلقها.. لأنه من  المستحيل أن يكون الشيء عدما قبل خلقه، ثم يخلق نفسه.. لأن العدم لا يمكن أن يخلق.. وهو محتاج إلى من يوجده حتى يكون له أثر محدود في الواقع.

قال تعال: " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون..."                                                            سورة الطور الآية: 35

كل ما في الأمر أنهم لا يعلمون.. فلا علم لهم بما يدّعون، ولا يعرفون قواعد الخلق والإيجاد...

فلا هُمْ يمكن أن يُوجَدُوا من عدم، وبغير خالق ولا موجد، ولا هم يستطيعون خلق أنفسهم، ولا هم يستطيعون خلق السماوات والأرض، ولا حتى أدنى من ذلك.. فسبحان الخالق الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم...

قال تعالى: " ... والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يُخلقون أمواتا غير أحياء وما يشعرون أيّان يُبعثون..."                                            سورة النحل الآية: 20

        ولا سبيل للمخلوق أن يعرف العدم حتى، فهو لم يسبق له أن عرف العدم، ولا حدد ماهيته، ولا اطلع على خصائصه.. فكيف له أن يتحدث عنه.. ثم يحدث بعد ذلك ما يتوهمه الغافلون من إنكار الخالق.. وادعاء خلق أنفسهم أو خلق السماوات والأرض...

 

البعرة تدل على البعير وأثر السير يدل على المسير:

                 في زمن البعثة، كان أعرابي من قبيلة في ضواحي مكة قد زارها لقضاء بعض الأغراض فيها، فسمع بانشغال الناس بالنبي الجديد، فدفعه الفضول إلى الاطلاع على ما يحدث هناك.. فسعى إلى لقاء النبي الجديد، صلى الله عليه وسلم، فدلُّوه عليه، وكان في دار الأرقم بن أبي الأرقم.. فلما جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، صدَّقه فيما يقول، وآمن بدعوته، وبربِّه بكل سهولة.

ولما رجع إلى قبيلته - وكانوا عُبّاد أصنام، على عادة العرب في الجاهلية - استنكروا عليه خروجه عن دين أجداده، واتباع دين آخر.. وجادلوه في ذلك كثيرا، طمعا منهم في أن يردُّوه عما اقترفه.. وكان من بين ما استهجنوه في دين محمد، أنه يدعو إلى إله لا يُرى، ولا يُعرف مكانه.. وقد اعتادوا أن يُقدِّسوا آلهة يروها، ويُلامسونها.. فقيل له: كيف عرفت إله محمد ؟

قال مجيبا إياهم، ببديهة الصحراء، وبساطتها: " إذا كانت البَعْرَةُ تدلّ على البعير، وأَثَرُ السَّيْر يدل على المَسِير، أَفَلا تدلّ هذه السماوات، والأبراج، على الله العلي القدير".

فعاد الناس من قومه إلى أنفسهم، ووجدوا أن كلامه الصادق والبسيط، لا يقبل أن يصرف إلى غير تصديق محمد، واتباع دعوته، فأسلمت كل القبيلة آنذاك.

 

بُعدا لربّ تبول على رأسه الثعالب:

        ولما اشتدّ الحديث عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح همّ الناس هو القضاء عليه وعلى دعوته، انتصارا لآلهتهم، واستعصى عليهم الوصول إلى ذلك، أصبح هؤلاء يتحسسون هزيمتهم، وهزيمة آلهتهم.. وحدث أن خرج سيد قبيلة، كان يَحْرِصُ على أن لا يصل أمر محمد ودينه الجديد إليهم، ويبقى أهل قبيلته على دين أجدادهم، يعبدون الأصنام، ويتمسحون بها...

خرج في دلجة الصبح يتفقد الإله "الحجر"، ويطمئن عليه، وكان ينتصب خارج مساكن القبيلة.. فلما اقترب منه كانت الرؤيا لم تصبح واضحة بعد، رأى شيئا يتحرك حوله، فلما اقترب أكثر رأى بوضوح أن الأمر يتعلق بثعلب يستكشف المكان حتى يطمئن.. ليختار له زاوية يبول فيها.

بقي الرجل يُراقب من بعيد حتى لا يزعج الثعلب.. ولِيَرى ما الذي سيحدث... وأثناء ذلك كان يتوجس خيفة من ردة فعل الإله، الحجر..

لم يرتح الثعلب في أي مكان استقصاه على الأرض، فصعد فوق رأس التمثال الذي هو في نظر الرجل الإله المعبود.. والمبجل، والذي يخشى عقابه، ثم رفع رجله يبول فوق رأسه..

فجن جنون الرجل، واشتدّ خوفه من ردّة فعل الإله، التي قد تلحقه وتَلحق قبيلته بالضرر والسوء، وسوء العاقبة...

لكن الذي حصل، هو أن الثعلب لما أكمل بوله على رأس الإله الصنم، غادره في نشاط، يهتزّ في مشيته.. غير خائف، ولا مُتوجِّس من شيء...

فتقدم الرجل إلى الإله يكلمه:

أيها الإله المعظم، ألم ترى ما فعل الثعلب بك؟

 لِمَ لَمْ تمنعه؟

ولما لا تعاقبه ؟

فقد تجرأ على هيبتك.. وفعل ما لا أستطيع ذكره...

لمَ لا تتحرك ؟ ولمَ لا تنطق؟ انْتَصِرْ لنفسك، واحمي هَيْبتَكَ...

لكن الصنم لا يُجيب.. ولا يسمع.. ولا ينطق.. ولا ينفع ولا يضرّ. ومن حُرقة الرجل على إلهه الذي يضل عليه عاكفا.. يقول في نفسه:

" كيف تكون إلها وأنت لا تستطيع أن تَرُدَّ على نفسك قذارة الثعلب.. وتدفع عنك السوء... أوَ يُعقل أن تنفع وتضرّ غيرك ؟

وأنشد يقول:

                أربّ يبول الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ           ألا بُعْدا لِرَبٍّ تَبُولُ على رَأْسِهِ الثَّعَالِبُ

وانطلق إلى مكة يطلب محمدا ليؤمن بربِّه، ويتبع دعْوتَه.. فلما دلّوه عليه، شهد أمامه أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القرآن الكريم دليل مادي على وجود الله

 

        ثم إن الأدلة على وجود الله تعالى كثيرة لا تُحصى، فكل الكون صارخ بوجوده، ووجودُه واجب، لا مناص منه، لأن افتراض عدم وجوده عَدَمٌ لكل شيء.. وما دام هذا الكون موجودا بكل ما فيه .. فوُجودُه واجب، لأنه هو من أوجد هذا الكون .. وإلا فمن أوجده ؟

ولذلك كان علماء الكلام يُطلقون على الله سبحانه واجب الوجود، ويُطلقون على غيره من الموجودات ممكن الوجود، لأنها يمكن أن تكون، ويمكن ألا تكون، ولا يتأثر الكون والوجود بوجودها أو عدمه، بينما ينبني على وجوده سبحانه كل شيء، وعلى عدمه عدم كل شيء ولذلك كان وجوده واجب...

        ثم إن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنزل من قبله التوراة والنجيل وغيرهما على إخوانه من الأنبياء والمرسلين، لهو دليل عقلي يشهد شهادة قوية بوجوده تعالى.. موصوفا بما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيّه عليه السلام.

        فقد توجه بالخطاب إلى المنكرين والجاحدين و" الملحدين" يتحداهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم إن كانوا في ريب وشك من أن القرآن كلام الله، يدل على وجوده، وتدبيره وحكمه... فإن عجزوا عن ذلك، وقد عجزوا، فإن ذلك يشهد بقوة على وجوده سبحانه، وأنه كما أخبر عن نفسه في كتابه هذا.

        فمع نزول القرآن الكريم افترق الناس فريقين، فمنهم من صدّق أنه كلام الله، ولا يشبه كلام البشر... لا هو شعر.. يشبه الشعر عندهم.. ولا هو بسحر.. يشبه سجع الكهان.. ولا هو بصنف من أصناف كلام البشر. فقد قال عنه الوليد بن المغيرة، زمن البعثة في شأن القرآن الكريم، ما يشهد له بالتفوق على كلام البشر.. لما كانت قريش محتارة في أمره، تبحث له عن لون من ألوان كلامهم، تنقيصا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وصدّا عن دعوته:

" إنَّ ما يقوله محمد ليس بشعر، فأنا أعرفكم بالشعر.. وإن الذي يقوله محمد ليس بسحر، فأنا أعرفكم بسَجْعِ الكُهّان، إنَّ الذي يقوله محمد ليس من كلام البشر.. إن أسفَلَهُ لَمُغْدِق، وإن أعلاه لمُورِق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه..."

       

أم يقولون افتراه:

ومنهم من لم يصدق محمدا عليه السلام، واتهمه بأنه إنما افتراه، وأعانه عليه غيره... ثم إن هؤلاء الجاهلين الذين لا يوقنون، الذين يتهمون النبي الأمي عليه السلام بأنه إنما افترى القرآن الكريم، وألفه، وأعدّه ورتّب سوره، وحدد آياته، إنما يَنْعِقُون بِالهُرَاءِ الذي لا يقبله العقل والمنطق.. لأن الإتيان بمثل القرآن كاملا عَجَزَ عنه الإنسُ والجنُّ مجتمعين.. حتى لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومُعينا.. ومنهم العلماء، وأصحاب الفصاحة، وأرباب البلاغة، ومُختلف العلوم.. ولديهم العدد والعدة والمال والوقت، وكل ما يلزم لذلك...

فكيف كان لمحمد الأمي "صلى الله عليه وسلم" الذي لم يكن يملك مِمّا تَوَفَّر لمكذبيه شيئا، أن يؤلف القرآن، وقد احتوى علوما لم يكن لها وجود في بيئته، كعلم الفلك، والطبّ، والفيزياء، واللغة وعلومها، وعلم الحياة، وعلوم البحار، والأرصاد الجوية، والعلاقات الإنسانية، والمبادئ السياسية والتربوية والفنية، وقوانين ما يجوز وما لا يجوز في المأكل والمشرب والمَنْكَحِ، والإرث بعد الموت، والوصية، والهبة، والزكاة في مختلف الأموال ذهبا كان وفضّة، أومزروعات، وبهائم، ومعادن وغيرها.

        إن الذين يدّعون افتراء محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن إنما يبحثون لأنفسهم عن مبرر يختبئون وراءه، وساتر يستر جحودهم وتكذيبهم لنبيِّه ورسوله عليه السلام، وهم في قرار أنفسهم غير مقتنعين به، كشُبهة يرتكزون عليها في كفرهم، وإنكارهم للحقيقة الكبرى التي تُجهر أعينهم.. لكن نفوسهم المريضة، وقلوبهم الخاوية، إنما امتلأت بالمصالح الدنيوية، والشهوات الآنية.. فانشغلوا بالجمع والتكاثر في الأموال والأولاد حتى بادرهم الموت،

فقالوا: " ... ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُرَدّ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ..."                                                سورة الأنعام الآية: 27

وقوله : " ... أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المُحسنين..."

                                                                            سورة الزمر الآية: 55

فيقول سبحانه: " ... بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين..."                                                              سورة الزمر الآية: 56

وقال لهم رب العِزّة : " ... ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما يعملون..."                                                             سورة المنافقون الآية: 11 

هؤلاء الذين خاطبهم الله تعالى بخطاب هو في حقيقته أقرب إلى العقل منه إلى غيره، فقال سبحانه ما يفيد، أنكم أيها المكذبون الذين تتهمون محمدا بالكذب، والافتراء، إيتوا بمثله إن استطعتم، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله.. وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين في ادعائكم ... فإن لم تفعلوا.. ولن تفعلوا.. فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.  

فإن تمّ لكم ذلك، واستطعتم أن تأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو حتى بسورة من مثله.. فهو إذا ليس من عند الله، وليس كلام الله، ويستطيع أي أحد أن يأتي بمثله، وذلك دليل على افتراء محمد له.. واحتمال أن الله غير موجود...

وإن حصل العكس.. ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا حتى بسورة من مثله.. فذلك يُظهِر عَجْزَهُم عن أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، وبالتالي يسقط اتهامهم لمحمد عليه السلام، بافترائه، وتأليفه وهو بشر.. وذلك ينسحب على كل بشر.. وفي الأخير يكون دلالة قوية على أنه من عند الله.. ودلالة قوية على وجوده سبحانه..

وليعلم الجميع أنه بعجزهم عن الإتيان بمثله يكون قد أُنْزِلَ بعلم الله.. وأنه كلام الله، وأن لا إله إلا الله.. فهل أنتم مسلمون ؟

وهذا العرض، هو مطروح منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، ولا يزال، وسيبقى مطروحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...

 ولم يستطع أحد، ولا جهة، ولا قوة أن تأتي بمثله، ولا حتى ببعض من مثله.. والمنكرون الحاقدون، والمعادون المنافسون كثيرون.. وسبل الوصول إلى ذلك كثير.. والفرصة الزمنية قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

        لكن النتيجة الملحوظة، والحقيقة المحسوسة، أن لا أحد استطاع الإتيان بشيء من مثل القرآن.. والاحتكامُ إلى العقل والمنطق يقولان بأن على العاجزين على خوض التحدي،  أن يُصدِّقوا ويُقِرّوا بفوز وتفوق الخصم الذي تحداهم..

وبالتالي يكون القرآن الكريم قد أثبت عجزهم على أن يأتوا بمثله.. وبالتالي يكون القرآن الكريم من عند الله تعالى.. وليس للبشر القدرة على يأتي به أو بمثله، ويكون القرآنَ الكريم هو أول دليل على وجود الله.. الخالق لكل شيء، وهو صاحب الكلام المسمى بالقرآن.. ويحمل توقيعه، والذي يَذْكُرُ فيه أنه هو خالق كل شيء، والساهر والمدبر لأمره، والرقيب على أفعال وأقوال المخلوقين.

قال تعالى: " قل لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا..."                         سورة الإسراء الآية: 88

حتى ولو اجتمعت الإنس والجن، وأعان بعضهم بعضا... فالأمر إذا فوق طاقة المخلوق.. الإنس والجنّ، وهو من فعل الخالق، الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم...

لكن المانع الذي يمنع الناس من الاعتراف له بالخلق، والإذعان له في الأمر، وأن يُحمد على كل حال، هو الاستكبار، واتباع الهوى.. الذي يقودهم إلى الضلال المبين.

قال تعالى: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور من مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتهم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون..."                                                                 سورة هود الآية:41

وقال تعالى: " ... فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين... "    سورة القصص الآية: 50

أنزل الله تعالى مستوى التحدي من الإتيان بمثل القرآن كله، إلى الإتيان بعشر سور من مثله.. ولا يفعل مثل ذلك إلا واثق من نفسه، مطلع على عجز خصمه، عالم بعلو ما يطلبه منه، فكلامه سبحانه لا يستطيع أحد الإتيان بمثله، ولا الإتيان بجزء منه، لأنه كلام ليس من قبيل كلام البشر في المبنى، وفي المعنى، والفصاحة، والبلاغة، والمقامات، وغيرها ...

        فهو سبحانه واثق من عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله.. لأنه خالقهم، وعالم بأحوالهم، ومُطلع على قُدراتهم، ومُحيط بضعفهم وحاجاتهم.

        ثم إنه سبحانه ينزل بالتحدي إلى الإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن الكريم، لما ظهر عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن كاملا، ثم عجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل سور القرآن الكريم.

قال تعالى: " ... وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدَّت للكافرين ..."                       سورة البقرة الآية:22-23

        ولما وصل الأمر إلى تحدي المشركين والجاحدين المنكرين لوجود الله، والمدّعين أن القرآن إنما افتراه محمد صلى الله عليه وسلم وأعانه على ذلك غيره من البشر، ولم يستطع أحد، ولا جهة، ولا قوة أن ترفع التحدي، وتأتي بمثل القرآن أو بمثل بعضه، ثبت بالدليل القاطع أن البشر المتعلم، الذي يملك كل آليات رفع التحدي لم يفعل.. عجزا منه، يُطرح السؤال التالي:

 

كيف كان لمحمد الأمي أن يفتري القرآن الكريم:

كيف كان لمحمد الأمي.. أن يفتري القرآن الكريم كله، كما زعموا من قبل ؟

إذا، فالقرآن كلام الله.. وهو دليل عقلي على وجوده، ما دام قد انقطع الاحتمال في أن يكون وراء الإتيان به غيره سبحانه من البشر.

قال تعالى: " ... قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به مَن أضلّ ممن هو في شقاق بعيد... "                                                            سورة فصلت الآية:51

كان على الملحد، إن كان يحترم عقله، أن يترك لنفسه هامشا، واحتمالا ولو بسيطا يكذب فيه نفسه، ويعطي فيه لمخالفيه نصيبا من الصواب.. لعلّ الحقّ في جانبهم، والصدق فيما يعتقدونه.. لكن الشيطان، واتباع الهوى لم يتركا له شيئا من العقل والمنطق، فأفسد عليه تفكيره، ولوث بصيرته، فاستعجل في أحكامه، وتَهوَّرَ في قراراته، وسار على نهج الهوى والشيطان.. فخرّب علاقته بربه، وأفسد ما يربطه بنبيه صلى الله عليه وسلم، مُقتنعا أنه أدرك الحقيقة، وعرف ما لم يعرفه غيره.

فلم يُبقِ أي احتمال لأن يكون القرآن الكريم من عند الله، وهو دال على وجوده سبحانه، وأن رسل الله عليهم السلام جاءوا بالحق، ودعوا الناس إلى الله بصدق، ومحبة، وخوف على سلامتهم في الآخرة.

وكيف لو كان القرآن الكريم من عند الله؟ والله سبحانه كما وصف نفسه فيه ؟ وصحيح ما جاء فيه من الوعيد الذي وعد به الكافرين، والجاحدين، والمُلحدين، من العذاب وسوء الحساب؟  كيف لهم أن يتحملوا نتيجة مثل تلك ؟؟؟

 

 

 

 

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

 

        ثم إن إعجاز الله تعالى للناس في زمن البعثة، كان للعرب والناس أجمعين، فيما يتعلق بالبيان فقط، فذلك ما كان يُحسنه العرب آنذاك، إلا أنه بعد انتشار الاكتشافات العلمية، والإنجازات التكنلوجية، ظهر ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم.. حيث تبيّن أن القرآن الكريم تحدث عن أشياء علمية منذ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن انتشرت العلوم في القرنين الأخيرين بالكاد توصل إليها العلماء.. كمراحل تطور الجنين في بطن أمه، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تمشي في البحر، والحديث عن الآيات في الآفاق ، والحديث عن أشياء علمية ما كان للإنسان في زمن البعثة أن يعرفها، وغيرها.

 فكان من العقل والمنطق أن تكون هذه الصور المعجزة  دالة على وجود الله تعالى، الذي وسع علمه كل شيء، ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء، وإلا كيف كان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعرف كل تلك العلوم، في بيئة عرفت بالأمية، فضلا عن أميته عليه السلام التي ما كانت منقصة في شخصه ، بل كانت حكمة من الله تعالى، حتى لا يُتهم بالافتراء والكذب، وتأليف والقرآن، وإن لم يسلم من هذا الاتهام حتى مع اُميته...

 قال تعالى: " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين..."      سورة الجمعة الآية: 2

 

الإعجاز العلمي سبب في في التحاق غير المسلمين بالإسلام:

        وقد التحق بالإسلام كثير من العلماء والمفكرين بسبب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فهذا الطبيب الفرنسي "موريس بوكاي" قد تحول من المسيحية إلى الإسلام بسبب بحث علمي قام به على جثة فرعون التي حفظت لأزيد من أربعة ألاف سنة..

فكانت النتيجة العلمية التي توصل إليها، هي يقينه أن تلك الجثة مات صاحبها غرقا.. وقد فرح بهذه النتيجة فرحا كبيرا، واعتبره إنجازا علميا كبيرا.. ودفعه اعتزازه به إلى إخبار معارفه به، وكان من بين من أخبرهم بذلك الإنجاز رجل مسلم له اطلاع على القرآن، فردّ عليه بما يفيد أنه لم يأتي بجديد.. فقد أخبر القرآن بذلك مند أربعة عشر قرنا.. فاندهش بوكاي.. وقال كيف ؟ لقد بذلت قُصارى جهدي لكي أصل إلى هذه النتيجة..  وأنا أملك وسائل البحث المساعدة.. فكيف لمحمد الأمي أن يعرف معلومة كهذه.. في بيئة أمية لا علاقة لها بالعلم...

قال تعالى: "... وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين (90) ءالآن وقد عصيت وكنت من المفسدين (91) اليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لتكون لِمَنْ خَلْفَكَ آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون(92) ..." سورة يونس الآيات :90- 92

        وقد أسلم بالطريقة نفسها المفكر والفيلسوف الملحد الأمريكي " جيفري لنك " وآخرون كثيرون...والفيلسوف الفرنسي " روجي كارودي"

ومن بين من أسلموا تأثرا وإعجابا بالقرآن الكريم أحد العلماء الأمريكيين الذي قضى عمرا طويلا في تشريح الموتى الحوامل، يتتبع في عمله ذاك وضعيات الأجنة في بطون أمهاتهم في مختلف الأعمار، شهر وشهرين وثلاثة وأربعة وخمسة إلى آخر الشهور المعهودة في الأجنة... وبعد سنّ متأخرة وصلت 85 عام، كان يُلقي مُحاضرة في الموضوع، وقد أصبح خبيرا في أمر أطوار الجنين في بطن أمه... وفي الاستفسارات والأسئلة.. تلقى سؤالا من مسلم مفاده: " يا بروفسور.. كيف يكون الجنين في بطن أمه في الأسبوع الرابع ؟

تململ الرجل يريد أن يُجيب.. لكنه لم يجد الألفاظ المناسبة بالأنجليزية، وكان يلوك علكة.. فلم يجد إلا أن أخرج العِلكة من فمه، وقدمها للسائل بين أُصبعيه وهو يقول: على هذا الشكل. وقد تعمد أن يضغط على العلكة بأضراسه حتى تبقى عليها علامة المضغ.

فقال السائل: " هذا ما قاله القرآن ..

القرآن.. وماذا قال القرآن ؟ يجيب البروفسور مندهشا..

القرآن يقول: "... مُضغة ..."

" مضغة.. " إيتني بالنص..

فأحضر السائل، النص المترجم، وبعده، النص العربي...

فانبهر الرجل... وقال ما مفاده أنه قضى عمره كاملا في تشريح الحوامل ليصل في النهاية إلى هذا العلم.. ومن المستحيل أن يدعي أحد غيره الإحاطة بهذا العلم، إلا أن يكون شيئا آخر غير البشر...

فكانت هذه الحادثة هي سبب إسلام هذا الرجل، لقناعته العلمية أن محمدا ما كان له أن يعرف كل المعلومات المتعلقة بعلم الأجنة.. ولا يمكن أن تكون تلك المعلومات إلا من ربه الذي خلق الأجنة.. وخلق كل شيء...

 

نزول الماء من السماء:

قال تعالى: " فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يُحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمُحيي الموتى..."                                                                 سورة الروم الآية: 50

        الآية الكريمة عبارة عن استفزاز عقلي للتفكير والنظر في كيفية نزول الماء من السماء، غيثا، ومطرا، وإن العملية في جملتها لعظيمة، لا يقدر عليها إلا عظيم.. فالعملية تبدأ بخلق البحار والمحيطات..

ولا أنكر أنني في صغري كنت مُستاءا.. منذ عرفتُ أن البحار، والمحيطات في الكرة الأرضية، تمثل ثلاثة أرباعها، ولا تمثل اليابسة إلا الربع الباقي. فضاقت بي الأرض بما رَحُبَت، لأنني كنت لا أرى في البحر إلا أنه مجال قد انتُقِص من اليابسة، التي  هي مصدر من مصادر الحياة، أما البحر فما هو إلا مصدر إزعاج، وغرق، وموت "بالتسونامي" الذي كنت أتخيله، وأخافه قبل أن يحدث في الواقع، إذ لم يكن قد بلغ إلى علمي أنه سبحانه ما خلق شيئا عبثا أبدا، وإنما لحكم بالغة قد يعلمها المخلوق أو لا...

ولكن الله العليم الحكيم، قد جعله مصدرا من مصادر الحياة في الأرض.. ولا يمكن تصور الحياة عليها دونه.

        إن عملية إنزال الماء من السماء، عملية معقدة، تتطلب استنفار المخلوقات العظيمة، وتشغيلها، وتحريكها بالشكل الذي قدره سبحانه.

فخلق وأوجد الكواكب، والأجرام الكبرى، وأعظمها الشمس والقمر.. فضلا عن تحريكها، وتدبير شأنها،  وتسليط أشعتها على البحار، والمحيطات حتى يتبخر بعض مائها، وفي ذلك ما لا يعلمه إلا هو سبحانه.. من المنافع للخلق كله، ومن بينها، تحول هذا الماء من ملح أجاج كما كان عليه في البحر إلى عذب سائغ شرابه...

ثم صعوده بُخارا، ثم غيوما إلى الأجواء العليا ليتكاثف، ويتفاعل، ثم ينزله سبحانه على من يشاء من عباده، رحمة بهم وبأنعامهم...

يُخاطب سبحانه أهل العقول، الذين يتفكرون بإن ينتبهوا إلى تلك العملية العظيمة التي تدل بقوة على عظمة صاحبها...

قال تعالى: " ... وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تُسيمون يُنبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون..."                                                               سورة النحل الآية: 10

وقال سبحانه: " ... أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج..."  

                                                                          سورة ق الآية: 6

 

الليل والنهار:

وقال سبحانه: " ... والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ..."

                                                                      سورة يس الآية: 38

        تتحدث الآية الكريمة عن عملية عظيمة، اعتاد الناس عليها.. حتى إنه تبلّد حِسُّهم، وعلت الغشاوة على أعينهم، فلم يعد ينتبه إلى عظمتها أحد، إلا من رحم الله من أولي الألباب.. وتمكنت من أنفسهم صغائر الأمور، وسفاسفها، حتى أنستهم عظيمها.. ألا إن من أعظمها عملية تكوير الليل على النهار..

هذه العملية التي تستدعي تحريك كبريات الأجرام السماوية، الشمس، والقمر والأرض والنجوم.. التي يمسكها الرحمان من أن تزول عن مكانها، أو تتحول عن وظيفتها، ولا مُمسك لها من أحد من غيره...

فسباحتها في الفلك الأعلى، ودورانها، وحركيتها التي لم يدرك العلم منها إلا القليل هي التي تعطينا الليل والنهار، يتعاقبان.. بنظام، ودقة، متناهيتان، منذ الأزل...

وهذه العملية التي نشهدها كل بضعة ساعات.. كافية، لأن يدرك المرء عظمة فاعلها، الذي هو الله سبحانه، إذ لم يَدّعي أحدٌ غيرَه فعل ذلك.. فيقرّ أنه المستحق للطاعة والعبادة، لأنه الموجود الواحد الذي لا حول ولا قوة إلا به، ولا نعمة بأحد من خلقه إلا منه، ولا يُميت ولا يُحيي إلا هو سبحانه.

يقول العالم الفيزيائي الهندي المسلم، وحيد الدين خان: " لو أن هذه الأجرام السماوية خرجت عن إطار دورانها قيد أُنْمُلة، لانتهي الأمر بالكواكب إلى الاصطدام..." ثم فساد الكون...

" ولو أن الغلاف الجوي، الذي لا يعلم إلا الله منفعته للخلق، وقد اطلع العلماء على بعض هذه المنافع، والمكوَّن من كثير من الغازات.. التي من بينها ذرتين من الأكسجين.

لو أن هذا الأكسجين في الغلاف الجوي كان أكثر من ذرتين لأصبحت الأرض قابلة للاشتعال، والانفجار والدمار...

ولو أنه كان أقل من ذرتين لماتت الخلائق، بدأ من النباتات، ثم الحيوانات، بما في ذلك الإنسان..."  فسبحان من قدّر الأشياء بمقاديرها، المناسبة للحياة عموما.

 

أطوار الجنين في بطن أمه:

         وفي قوله تعالى: " ... يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مُضغة مُخلّقة وغير مُخلّقة لنبين لكم ونُقِرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مُسمى ثم نُخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أَشُدَّكُم ومنكم من يُتوفى ومنكم مَن يُردّ إلى أرذل العُمُر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج(5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6)..."                                           سورة الحج الآيتان: 5-6

        تتحدث الآية الكريمة عن الخَلْق الأول الذي خلق الله فيه آدم من تراب ثم سواه ونفخ فيه من روحه.. كما أخبر سبحانه في كثير من الآيات، ثم يتابع الحديث عن مراحل وأطوار الجنين في بطن أمه، في ظلمات ثلاث.. نطفة ثم علقة ثم مُضغة ثم عظاما، ثم كساء العظام لحما، ومنهم من يكتب له القرار في الرحم إلى أن يقدر الله إخراجه طفلا، ومنهم من لا يُكتب له ذلك، بحكمة الله وعدله.. ثم يُخرج مَنْ كُتِبَ له ذلك طفلا فَرَجُلا .. قد يبلغ إلى أرذل العمر، وقد لا يبلغ..

وكل ذلك ليُذَكِّر الله تعالى عباده أنه الحق، وأنه يُحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير.. فسبحان أحسن الخالقين.

        وإن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، والذي أعجز الله به الخلق على أن يأتوا بكتاب مثله، يتحدث ويكشف أشياء قبل أن يصل إليها الناس، إنما هو تكريس للإعجاز البياني فيه.. فأثبت عجزهم وقلة حيلتهم، وتسليمهم لله تعالى، لهو سبب قوي يدعوهم إلى الإقرار، والشهادة بوجوده سبحانه، فلا يتخذوا من دونه وَليّا ولا إلها...

        وإن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ليدل بقوة على أن القرآن الذي تحدث عن كل تلك الأخبار العلمية، التي ما استطاع الإنس والجن مجتمعين الوصول إليها.. لهو أقوى دليل على أنه من عند الله، وأنه موجود سبحانه، لأن هذه المعلومات العلمية الكبيرة والكثيرة لهي أدلة صارخة، وُمدوية.. لا تخطئها العين، ولا تزيغ عنها العقول.. بأنها من الله الذي وسع علمه كل شيء، ولكن كثيرا من الناس لا يُبصرون...

قال تعالى: " ... أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور..."

                                                                             سورة الحج الآية: 46

إنه عمى البصيرة، الذي ألمّ ببعض الأذكياء في أمور الدنيا.. في التجارة والسياسة، والدهاء الذي تتطلبه الحياة غير الشريفة، المبنية على أكل أموال الناس بالباطل، والتعدي على حقوق الناس وأعراضهم.. واستعبادهم... لكنْ لم يُغني عنهم ذكاءهم، ولا دهاءهم شيئا، لَمّا كانوا بآيات الله يجحدون.

        ألم يسألوا أنفسهم.. كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم، الأمي.. أن يعرف حقائق علمية دقيقة، لم يصل إلى معرفتها العلماء إلا بالاستعانة بالأدوات العلمية التي اختُرعت حديثا، كالمكروسكوب، والتلسكوب، وأدوات الحساب، وأدوات القياس المختلفة.. كيف كان له عليه السلام أن يعرف ما يجري في بطن الحامل، والجنين يُنقل من طور إلى طور.. إعدادا له للخروج إلى الدنيا...

 

كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يتنبأ بالمستقبل:

        وكيف له صلى الله عليه وسلم التنبؤ بأخبار المستقبل، وأنباء الماضي، وأحوال الأرض، التي وقعت فيها المعركة بين الروم والفرص في قوله تعالى:

" ألم غُلِبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله..."  

                                                              سورة الروم الآيات: 1-2-3

من الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة الروم، ومكان هزيمتهم، وأحوال هذا المكان ؟

فإن هذا المكان الذي عبرت عنه الآية الكريمة بأنه أدنى الأرض، هو منطقة البحر الميت التي هي منخفضة تحت مستوى سطح البحر، بل هي أخفض نقطة على الأرض تحت مستوى سطح البحر.. وكان أصحاب كتب التفسير القديم، كابن كثير والطبري، والقرطبي وغيرهم ممن عاشوا قبل هذا الاكتشاف العلمي، يفسرون: " أدنى الأرض" بمعنى القريب من منطقة مكة...

وإن هذه المعلومة لم تُكشف إلا في بداية القرن العشرين.. وليست بجهود عالم واحد، بل كانت ثمرة جهد مشترك بين كثير من الجهات العلمية، وعبر مراحل زمنية متباعدة... فكيف كان لمحمد أن يعرف معلومة كهذه ؟

إنه الله تعالى الذي يعرف كل شيء.. ويحيط بكل شيء علما، لأنه سبحانه هو خالق كل شيء، والمطلع على سِرِّه وعلانيته، قوته وضعفه، وكل ما جُعِل له خيرا كان أو شرّا...

ومن أخبره عليه السلام أنهم بعد هذه الهزيمة سينتصرون في المستقبل الذي يتراوح بين الثلاثة سنوات والتسعة، كما تفهم العرب معنى "البضع".

إنه الإخبار بما سيأتي به المستقبل، ليس في يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين.. ويمكن لذلك أن يكون بناء على ما يشاهده المرء من إعداد جيد، وتدريب ممتاز، وعتاد قوي، وعدد كبير... يمكن عندئذ توقع المستقبل القريب. لكن النبي صلى الله عليه وسلم، ما كان مُطلعا على الروم، ولا على عُدّتهم وعتادهم، ولا على شيء من ذلك. فمن أخبره بمستقبلهم ؟

ومن أخبره صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين من أصحابه سيفرحون في نفس الوقت بنصرهم على المشركين، وأن كل ذلك سيتزامن مع نصر الروم على الفرص.

        إن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة الروم أمام عدوهم هو الله تعالى، الذي أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.. فهو رسول الله، يأتيه الخبر من السماء.. فلم تكن هناك وكالات أنباء، ولا وسائل إعلام وإخبار آنذاك.

        كيف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف ما يجري في المستقبل، وكيف له أن يحظى بعلم الغيب من دون تسديد الوحي وتوجيهه، فهو عليه السلام ما كان ينطق عن الهوى، ولكنه كان وحيا يوحى من عند الله سبحانه.. الحي القيوم.. الواجد الماجد.. الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.

        وكيف له صلى الله عليه وسلم أن يتنبّأ بنصر المؤمنين على المشركين في المستقبل، حتى يفرح هؤلاء، ومعهم كل من كان في قلبه، إيمان وتصديق بأن الله تعالى، الذي أوجد كل شيء، يسمع ويرى، ويُدبر الأمر، ويُجيب الداعين.. وينتقم من الجاحدين المنكرين والمكذبين لرسله، والكافرين بآياته.

 

من أخبره عليه السلام بنهاية عمه أبي لهب:

        ومن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنهاية عمه أبي لهب وزوجته التي ثبتت في القرآن الكريم في سورة المسد:

قال تعالى: بسم الله الرحمان الرحيم تبت يدا أبي لهب وتبّ(1) ما أغنى عن ماله وما كسب(2) سيصلى نارا ذاتَ لهب(3) وامرأته حمالة الحطب(4) في جيدها حبل من مسد(5).

كيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن عمه هذا سيموت كافرا، ولا يغني عنه ماله وما كسب شيئا ؟

فماذا لو أنه آمن واهتدى في آخر حياته ؟

أو أصبح مجاهدا بماله وبنفسه، كباقي إخوته، الذين بقوا على دين أجدادهم زمنا في بداية البعثة، وتحولوا بعدها إلى الإيمان بدعوة ابن أخيهم محمد عليه السلام، كحمزة، والعباس، اللذان تأخرت استجابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لكنهما لحقا به في الأخير.

فما المانع من أن يفعل أبو لهب ما فعله أخواه، فيستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكذب سورة من القرآن الكريم.. كان هذا الشيء محتملا، فما الذي جعل محمدا عليه السلام يأتي بهذه السورة التي تتحدث عن المستقبل، وكأنه يراه بعينه.. أما كان بمقدور أبي لهب أن يُكذِّب هذه السورة، وقد سمع بها وهو على قيد الحياة، وبالتالي يُظهر كذب وزيف دعوته على العموم.. وقد أصبح من ألد أعدائه..

 فكيف كان محمد عيه السلام واثقا من نهاية عمه هذا، الذي ناصبه العداء من أول يوم صدع فيه بالدعوة، حيث كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قول الله تعالى: " ... فاصدع بما تؤمر وأَعْرِض عن الجاهلين ..."           سورة الحجر الآية: 94

أن وقف النبي صلى الله عليه وسلم على صخرة الصفا، ونادى في بطون مكة: يا بني هاشم، يا بني كذا، يا بني كذا.. حتى اجتمع الناس، فقال عليه السلام: " أوَا إذا أخبَرْتُكم أنَّ بِبَطْنِ الوادي خَيْلا تريد أن تُغِيرَ عليكم، أَكُنْتُم مُصَدِّقِي ؟

قالوا ما جرّبنا عليك كذبا.

قال: فإني نذير لكم بين يدي الساعة...

فقال أبو لهب: ويحك، ألهذا جمعتنا ؟ فتفرق الناس، وإنه بفعله ذاك قد حال دون تبليغ الدعوة للناس، ولذلك كانت عداوته لدعوة ابن أخيه أبلغ، وأبعد من أي خصومة اختلاف في الرأي، وتباين في الفكر. إن أبا لهب قد أبدى عداوة الله تعالى، والانصياع لأمره خصوصا وأنه لم تكن له خصومة من النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، بل كان له قريبا وصهرا، لكنه بعد أن برز النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الله اتخذه عدوا.

إنه الله تعالى ، الذي يعلم كل شيء، هو الذي أنزل القرآن على الشكل الذي نزل عليه، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد فيه، أو ينقص منه حسب ما يشتهيه، ولا حتى أن يُستشار فيما يُنَزّلُ إليه..

قال تعالى: " ... وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ..."                                 سورة يونس الآية: 15

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإلحاد في صفات الله وأسمائه

 

اتهام الله تعالى بالقسوة:

يتجرأ الملحدون على الله تعالى فيصفونه بما لا يتصف به، وينفون عنه بعض صفاته التي وَصَف بها نفسه.. فيصفونه بالقسوة بذل الاتصاف بالرحمة، وإخلاف المواعيد، بذل عدم إخلافها، ووصفه بالعجز وخذلان المؤمنين بدل القدرة التي وصف بها نفسه، والتي لا حدود لها.. وأنه مخلوق كغيره من المخلوقات.. خضوعا لقانون السببية...

والإلحاد في صفات الله تعالى إنما هو فصل من فصول الإنكار، والجحود الذي ينهجه هؤلاء، فبعد عجزهم عن أن يثبتوا لأنفسهم ولغيرهم أدلة معقولة على عدم وجود الله تعالى، وأنه الخالق لكل شيء، وأنه كما وصف نفسه في الكتب السماوية المحرفة وغير المحرفة، ينتقلون إلى الإلحاد في صفاته وأسمائه.. بذل الرجوع عن الغي.. والاستغفار والإنابة... إنتقالا منهم إلى هنة أخرى بزعمهم، ونقص في هذا الإله.. عَلَّهم يجدون الكمال في غيره...

فهم يتهمون خالقهم بالقسوة والظلم.. وذلك حينما يُذكر في آي القرآن ما يدل على ذلك، مثل الحديث عن النار، والعذاب، والجحيم.. وما إلى ذلك من عبارات العذاب والانتقام.

من مثل قوله تعالى: " ... وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ..."                            سورة التوبة الآية: 68

وقوله: " ... فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين ..."  

                                                                    سورة البقرة الآية: 24

وقوله: " ... وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تُسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يُسمِن ولا يُغني من جوع ..."

                                                               سورة الغاشية الآيات: 2-4

وقوله: " ... وكذلك حقّت كلمات ربِّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ... "  

                                                                              سورة غافر الآية: 5

وقوله: " ... النار يُعرضون عليها غدوّا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب ... "                                                          سورة غافر الآية: 46

ففي نظرهم هذه الآيات تعبر عن قسوة الله على عباده، وعدم رحمته، ورأفته بهم.. مجتزئين من الحقائق الدينية، والآيات القرآنية ما يخدم مصلحتهم، ويبرر صنيعهم...

ألم يعلموا أن الله تعالى في القرآن تحدث عن الرحمة قبل الحديث عن العذاب والعقاب وما شابه...

ألم يقل سبحانه: " ... ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ..."

                                                               سورة الأعراف الآية: 156

 

الرحمان الرحيم:

وجعل من أسمائه الحسنى: الرحمان الرحيم، " ليفهم عباده أن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته، وشمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، وبرحمته يتصرفون ويُرزقون، وبرحمته يُبعثون ويسألون..."                                                  التفسير الوسيط

وفي قوله تعالى: "الرحمان الرحيم"، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر. واختلفوا فيهما.. منهم من قال هما بمعنى واحد، مثل ندمان ونديم، ومعناهما ذو الرحمة، وذُكِر أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين. وقال المبرِّد هو إنعام بعد إنعام، وتَفضُّل بعد تفضل. ومنهم من فرق بينهما فقال الرحمان بمعنى العموم، والرحيم بمعنى الخصوص.

فالرحمان بمعنى الرازق في الدنيا وهو على العموم لكافة الخلق، والرحيم بمعنى المُعافي في الآخرة، والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص، ولذلك قيل في الدعاء، يارحمان الدنيا ورحيم الآخرة.. فالرحمان من تصل رحمته إليهم على الخصوص، ولذلك يُدعى غير الله رحيما ولا يُدعى غير الله رحمانا... وقيل هي ترك عقوبة من يستحقها، وإسداء الخير إلى من لا يستحق..."                                      تفسير البغوي ( توفي عام 516 ه)

وفي تفسير ابن عاشور يقول: " فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة... فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمان تنبيها على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي، والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها..." 

     تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور ( وفاته 1393ه)

ثم إن رحمة الله تعالى تظهر في كل المجالات، في دنياهم وآخرتهم، في عاجلهم وآجلهم، في حالهم ومآلهم، في غناهم وفقرهم، في حياتهم ومماتهم...

فمن رحمة الله بعباده، أن خلقهم وأوجدهم، وكان ممكنا ألا يكونوا.. ومن رحمته بهم أن جعلهم مسلمين، عربا يقرأون القرآن ويفهمون معانيه، ويتواصلون مع خالقهم، وخلق غيرهم أعاجم لا يتمكنون من كل ذلك.. ومن رحمته بعباده أن اختار لهم الأصلح لحالهم في الدنيا والآخرة.. فجعل الذكر ذكرا، لأن ذلك الأصلح له.. وجعل الأنثى أنثى لأن ذلك هو الأصلح لها في الدنيا والآخرة.. وجعل البعض غنيا، لأنه لا يستقيم أمره في الدارين إلا وهو غني.. وجعل بعضهم فقراء لأنه لا يستقيم أمرهم في الدنيا والآخرة إلا بذلك، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من إسناد ابن الجوزي أنه قال في حديث عمر مرفوعا: "

" أتاني جبريل فقال: يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالقلّة ولو  أغنيته لكفر،.. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر".

            ضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم، والألباني في السلسلة الضعيفة

وكذلك شأن الذكورة والأنوثة، والطول والقصر، والجمال والقبح، والسلامة والإعاقة، وغيرها مما اختاره الله تعالى لعباده، فإن في كل ذلك رحمة، وعناية، ولطف.. لعل خاتمة العبد تنتهي به إلى الفوز بالجنة.

إن رأس الأمر في كل ذلك هو التسليم لله تعالى، وقبول قسمته، وعطائه، لأنه يعلم ولا يعلم العبد، ويرحم في تدبيره، وقد لا يرضى العبد بذلك التدبير... إلا من رحم الله.

ومن رحمته بعباده أنه اختار للعبد زمانه ومكانه، وأهله، فلا أحد من الخلق بما فيهم الأنبياء والرسل قد اختاروا لأنفسم الزمان الذي يَحْلُوا لهم.. والمكان الذي يروق لهم، ولا الأهل المميزين من بني البشر...

فهو سبحانه الذي اختار لعباده كل ذلك، بعلم وحكمة وعدل.. يخدم في الأول والأخير ذلك العبد.. ولا مصلحة لله تعالى في ذلك، فهو الغني الذي لا يحتاج إلى كل ذلك.. ذكر علماء الكلام ذلك فقالوا: إن الله لا تنفعه طاعة ولا تضرّه معصية.. وإنما ينتفع ويتضرر العبد.. فهو سبحانه الرزاق الذي يرزق خلقه، ولا يسألهم رزقا والعاقبة للتقوى...

 

من رحمة الله تعالى بعباده أن أخفى أقدارهم:

ومن رحمته سبحانه بعباده، أنه حدد أقدارهم، وأخفى كل ذلك عنهم، رحمة بهم.. لأنهم ما كانوا لقبلوا ما كان منها ضرّاء لهم.. ولا كانوا ليصبروا على ما كان منها سرّاء لهم .. وجعل في كل ذلك لطفا بهم، وتيسيرا عليهم...

وفي سورة الكهف دروس هامة دعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تعلُّمِها، لمّا جعل من السنة الحميدة قراءتها كل جمعة، لِما في ذلك من تَعلُّم الصبر على ما لا يعلمه العبد ويعلمه خالقه.

 فأهل السفينة في السورة لو اطلعوا على الخِضْر وهو يخرق سفينتهم لقاتلوه بكل ما لديهم من قوة.. لكنهم لما رأوا أن الملك الذي يأخذ كل سفينة غَصْبا، قد تجاوز عنها بسبب الخرق الذي فيها.. امتنوا، وشكروا، عمل الخارق هذا، واعتبروه بِرّا من الصالحات.

قال تعالى: " ... وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ... "                        سورة الكهف الآية: 79

ووالدي الغلام، لو علما أن أحدا يستقصد وَلَدَهُما.. يريد أن يقتله، لحارباه بكل ما فيهما من قوة.. ولكنهما لو علما أن هذا الولد سيُرْهِقُهما طُغْيانا وكفرا.. فيصل بهما، وهو معهما إلى نار جهنم.. لشكرا من خلّصهما منه، بعد أن يعلما أن الله تعالى الرحيم ، يريد أن يُبدّلهما ولدا غيرَه، وخيرا منه زكاة وأقرب رُحْما..

وسيعلمون كل هذا، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.. رحمة بهما، ورحمة بالولد.. لأنه هو الآخر بعد قتله سيكون موعده الجنة.. ولو أنه بقي حيا حتى يرهق أبويه لدخلوا جميعهم إلى النار...

قال تعالى: " ... فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نُكُرا... وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما..."                                                      سورة الكهف الآيات: 68       

والفتية أصحاب الكنز تحت الجدار.. أبناء الرجل الصالح، الذي بصلاحه رحم الله تعالى صغاره في حالة ضعفهم.. لو علموا أن الشخص الذي أعاد بناء هذا الجدار الذي كان يريد أن يسقط ويتهاوى ، إنما حافظ على كنزهم من أن يسقط الجدار ويتهاوى فيكشف الكنز.. ويأخذه غيرهم.. وهم لا زالوا صغارا.. لا يستطيعون حماية مالهم.. لو علموا كل ذلك لترحموا على الفاعل بعد كبرهم.. وكل ذلك من قبيل رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء.. رحمة من ربك... "                              

قال تعالى: " ... وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك..."

                                                                   سورة الكهف الآية: 82

 

إنزال الماء من السماء:

ومن رحمته سبحانه أن أنزل من السماء ماء جعل الخلقَ منه يشربون، ومنه شجر لهم منه يأكلون.. ومما يأكلون جعل ما يناسب أوقاتهم وأزمنتهم، فجعل سبحانه منها ما ينضج في الصيف.. ومنها ما ينضج في الشتاء، وهكذا يكون الذي في الشتاء متناسبا مع برد الشتاء.. والذي في الصيف يتجاوب مع حرِّ الصيف، وكل ذلك لعلهم يشكرون، بمعنى يعرفون صاحب النعمة فيشكرونه، ويطيعونه بعبادته وحده دون سواه.

 

إرسال الرسل:

ومن رحمة الله تعالى بعباده، أن أرسل لهم الرسل، وبعث لهم الأنبياء مبشرين ومنذرين، حتى تزول حجتهم يوم القيامة، أن يقولوا ما أتانا من نذير.. فكلما انحرف الناس عن عبادة الله تعالى الذي يستحق أن يُعبد، ومالوا إلى عبادة ما سواه، كلما أرسل الله تعالى رسولا يذكرهم بخالقهم، الذي يُميتهم ويُحييهم... لعلهم يرجعون، بل وأكثر من إرسال الرسل والأنبياء.. جعل الله تعالى بين الحين والحين آيات كونية تهزّ كيان العبد، وتذكره بالله، كالبرق، والرعض، والخسوف والكسوف، والزلازل والبراكين وغيرها.

قبول توبة المذنبين:

وتبدو رحمة الله جلية في قبوله توبة المذنبين والعاصين.. مهما بلغت ذنوبهم من الكثرة والكبر وهو المنتقم الجبار لو يريد.. لكنه سبحانه يفرح بتوبة العباد كما يفرح الواحد بنجاته من الموت.

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي روي في السنن:

" لَلهُ أفرح بتوبة عبده من رجل كان على دابته في فلات، فشردت منه، وعليها ماءُه وطعامُه، فلما استيأس منها أخذته غفوةٌ.. فلما فتح عينيه، وجد دابته عند رأسه فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.. بدل أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك ".

وقد ورد في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة.. اصطّف الناس يبايعونه تصديقا بدعوته، وإيمانا بربه، عندها وقف رجلٌ عجوزٌ اشتد كبره حتى سقطت حاجباه على عينيه من شدة الكبر.. فمدّ الرسول صلى الله عليه وسلم يده يريد مصافحته.. لكن الرجل أحجم ولم يَمُدَّ يده، وقال: يا محمد أيغفر ربك ذنوبي إن أنا آمنت بك؟

قال نعم.

قال يا محمد إنها كثيرة..

قال يغفرها.

قال يا محمد، وفَجَرَاتِي.. وغَدَرَاتِي..

قال يغفرها.

قال يا محمد، إنها كبيرة..

قال الله أكبر..

فمدّ الرجل يده، وصافح النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه على الإسلام.. ولم يمرّ على ذلك أكثر من ثلاث، حتى لقي ربه.. مُسلما، تائبا، قد قَبِلَ اللهُ تعالى توبتَه رحمة به.

        وعموما يقبل الله تعالى التوبة من المذنب ما لم يُغَرْغِرْ، أو تطلع الشمسُ من مغربها.. أي عند قرب نهاية حياته، أو قرب نهاية الحياة الدنيا عامة.. عندئذ فلا توبة، لأن الرغبة في الحياة، واستمراء الشهوات قد وَلَّى...

        وقد روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن حديثا في هذا المجال، فعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن أحدا قتل تسعة وتسعين نفسا، وأراد أن يتوب.. فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلّ على راهب، فاتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟

فقال: لا.

 فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ؟

فقال : نعم.. ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.

 فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط.. فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم – أي حكما – فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتها كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة".                                                        متفق عليه

ومعنى الحديث، أن الله تعالى قد رحمه، وغفر له، وأدخله الجنة، وكان يستحق النار، لكن الرحمان الرحيم، الذي رحمته وسعت كل شيء أراد أن يلطف به، ويرأف بحاله، ويعتبر رغبتَه في الرجوع عن ذنوبه، خوفا من ربه، واستحضارا لليوم الآخر الذي يقف فيه بين يدي الله، فلا يُفلته...

ومن رحمة الله تعالى بعباده أن قدّر عليهم المرض، وما يشبهه من حوادث، وآلام تنتهي بالموت.. تطهيرا لهم من خطاياهم حتى يلقوا الله في الآخرة مغفوري الذنوب، فيدخلون الجنة.. ومن لم يتطهر بمرضه ومعاناته، شدَّد الله عليه سكرات الموت، حتى لا يفارق الحياة إلا وهو مغفور الذنب.

 

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم:

ومن رحمته بالعباد أن جعل لهم الشفاعة يوم القيامة، فيشفع الشفعاء بإذنه سبحانه لِيُخرجوا الناس من العذاب.. من كان يستحق العقاب...

وقد بَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شفيع هذه الأمة، ليشفع في من كانت أعماله لا تبلغه الجنة.. بل أكثر من ذلك، سيشفع عليه السلام - بإذنه سبحانه، لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه- في من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.. وأكثر من ذلك سيستأذن ربه في أن يأذن بالخروج من النار لمن قال لا إله إلا الله.

فإن العاقل يلتزم بالانتماء إلى الأمة الإسلامية، لعله يفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، لنه وعد أن يشفع فيمن قال لا إله إلا الله وكانت آخر كلامه في الدنيا قبل الموت في قوله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ". رواه أبو داود، وقال الألباني صحيح ( مشكاة المصابيح 1/509).

وقال عليه السلام، " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله "                             رواه مسلم

والمقصود بالميت هنا المحتضر الذي حضره الموت لأنه لا يزال في دار التكليف، ومن الممكن أن يستفيد من تلقينه فيتذكر الشهادة، ويقولها، فيكون من أهل الجنة.

ثم إن التوعد بالعذاب يخصّ فئات معينة من الناس، أدمنوا العصيان، والتمرُّد على الله تعالى، فهو سبحانه يوفيهم حسابهم بلا ظلم.. "

قال تعالى: " ... وما ربك بظلام للعبيد ..."                   سورة فصلت الآية: 46

ثم ما الذي يلزمك أن تُحشُر نفسك معهم.. فلك أن تكون من الفئة الناجية، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون...

هل أنت بالضرورة تريد أن تكون مع الجاحدين؟ وتريد أن لا يلحقك عقاب ولا عذاب ؟ وذلك لا يليق أبدا.. ولا يُعقل.. فقد خيّر سبحانه العباد بين هؤلاء وهؤلاء.. بين المؤمنين المصدقين، وبين الكافرين المكذبين.. ووعد هؤلاء بالنعيم المقيم في الجنة، وتوعّد هؤلاء بالعذاب المقيم في النار.

 قال تعالى: " ... فريق في الجنة وفريق في السعير ..."     سورة الشورى الآية: 7

        وقال : " .... اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب...16 ... والله يقضي بالحق والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير..."                                                        سورة غافر الآية: 20

".... إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إنْ في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير55 لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ... "                                سورة غافر الآيتان: 55-56

 

وصفه سبحانه بالعجز وإخلاف المواعيد:

        ومن جرأة الملحدين وصفه سبحانه بالعجز، وإخلاف المواعيد، ومن ذلك عجزه عن نصرة المؤمنين به بالرغم من وعده إياهم بالنصر على أعدائهم.. فهم يعيشون الفقر والجوع والجهل والذلّ أمام أعدائهم من الكفار والمنافقين..  

فما قيمة التدين لدى المسلمين وهم يعيشون أسوء صور التخلف.. وغيرهم من اللادينيين يعيشون أحسن صور النجاح والتقدم مقابل الفشل على كل المستويات عند المسلمين...

        وَعَدَ اللهُ تعالى بأن لا يخرق العادات، ولا يستنفر المعجزات إلا مع الأنبياء والمرسلين، وذلك لِحِكَمٍ يعلمها.. وما كان من أمر عباده.. مُؤْمِنَهُم وكافرَهُم، فإن العليم الحكيم يختبر هؤلاء بهؤلاء.. فينصر الأمة الكافرة إذا كانت عادلة.. ويخذل الأمة المسلمة إذا كانت ظالمة..

ثم إن الأمة المؤمنة التي يُعرف فيها الفقر والجهل والتخلف بكل صوره.. لم يصبح هذا حالها إلا بعد أن بعُدت عن تعاليم دينها، وكتاب ربها.. فإنها عندئذ.. إنما تحصد نتائج تقديم العاجلة على الباقية.. حبا للدنيا، وكراهية للموت.. ولهثا وراء الشهوات، والمصالح الضيِّقة...

وكانت في اللحظة التي كانت فيها لصيقة بكتاب ربها، قراءة، وتدبرا وتطبيقا كانت تقود الأمم، والتاريخ شاهد على ذلك.. فإنجازات أمة الإسلام، في المجال العلمي، والأخلاقي والعسكري، والإنساني، والفني يشهد به الأعداء قبل الأصدقاء...

        لكن بعد تخلي الأمة عن خط سيرها الذي رسمه لها النبي صلى الله عليه وسلم، هلكت كما حذرها عليه السلام في قوله:

" تركتكم على المَحَجَّة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك "      رواه ابن ماجة

وذلك الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حصل.. زاغت الأمة عن المحجّة البيضاء، وهلكت.. ولا يعود أمرها كما كان، إلا إذا عادت إلى المَحَجَّة البيضاء، التي تركها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمسكت بها بكل قوة.. عندها تكون حَرِيَّة بنصر الله، وتنتظر منه أن يفي بوعده الذي وعد به... أما وهي بعيدة عن نهج نبيها، وتعاليم دينها.. فكيف ينصرها الله.. ماذا ينصر...

        قال تعالى:  "... والله لا يهدي كيد الخائنين ... "              سورة يوسف الآية:52

 

الله تعالى لا يُخلف الميعاد:  

        أما كون الله تعالى يُخلف الميعاد، فلا والله.. إن الله لا يُخلف الميعاد.. فقد وعد بالنصر والتمكين مَنْ ظلّ صابرا مُحتسبا، يرجو رحمة ربه، ويخاف عذابه، يُقيم العدل فيما أستؤمن عليه، يُجاهد نفسَه وشهواته حتى يلقى الله تعالى وهو عنه راض... هؤلاء هم الذين وعدهم بالنصر والتمكين، وقد فعل سبحانه لما كانت الأمة تستمد دستور حياتها من القرآن الكريم.. تُحلِّل ما يُحلِّله، وتُحرِّم ما يُحرمه، ولا تُدخِل في جَوْفِها إلا اللقمة الحلال..

في مثل هذه الظروف، انتشر الإسلام في العالم، ودخل الناس في دين الله أفواجا.. مُعجبين بأخلاق المسلمين، ومنبهرين بصدقهم وأمانتهم ووفائهم...

هؤلاء قد صدقهم الله وعده لما صدقوه، واستجابوا لأمره، واعتبروا الذنيا مَمَرّا وليس مَقَرّا.. نصرهم، ورضي عنهم وأرضاهم، وأصلح بالهم...

قال تعالى: " ... وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ..."                       سورة البقرة الآية: 186

        فالإلتزام بأمر الله تعالى، وإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، أمر لا مندوحة عنه، فالله سبحانه إنما يختبر عباده.. أيصبرون ويتشبثون بدينهم وعقيدتهم، أم يستبدلونها بالعاجل الذي يبدو لهم هو الحق.. وهو في الحقيقة الباطل.

 وإن أمر تخلف المسلمين وفقرهم... قد يكون اختبارا كبيرا.. يرجى منه معرفة من منهم يبقى متمسكا بدينه، وعقيدته مهما تكن الظروف، ممن يتحول عنها إلى غيرها من بهرج الدنيا الزائلة.. فيشتري الدنيا بالآخرة، ويوثر العاجلة على الآخرة...

 

من خلق الله ؟

        ومن صفات الله تعالى التي ينفرد بها عن المخلوقات، صفة الخلق، والإيجاد من العدم.. فهو سبحانه الخالق لكل شيء..

قال تعالى: " ... إن الذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يُخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يُبعثون... "                               سورة النحل الآية: 20

قال تعالى: "... يا أيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالب والمطلوب ...                                                              سورة الحج الآية: 73

        لم يتوقف الملحدون في منازعته سبحانه صفة الخلق بل تعدوا ذلك إلى القول بأن الله تعالى مخلوق كسائر المخلوقات الأخرى.. خضوعا لقانون السببية الذي يقتضي أن لا يوجد موجود إلا بمُوجِد، ولا حدث إلا بمُحْدِثٍ.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : " لا يزال أحدكم مؤمنا بالله حتى يأتيه الشيطان فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق الله إذا بلغ فليستعذ بالله ولينته " وفي رواية فليقل آمنت بالله ولينته.

وسؤال، " من خلق الله " سؤال فاسد، يُخالف البديهيات العقلية.. فهو غير صحيح أصلا، لأن قانون السببية لا يتحقق إلا مع المخلوق، المحدَث ولا يسري على الله سبحانه.. لأن تسلسل الفاعلين لا يستقيم عقلا هكذا إلى ما لا بداية.

لأن الله سبحانه هو من وضع قانون السببية، وليس من المعقول أن يُخْضِعَ نفسَه له... السؤال خطأ.. لأنه لا بد من سبب أول غير مخلوق.. ألا وهو الله سبحانه وتعالى الذي لا تحكمه القوانين التي هي من صنعه فقد أعطى موسى اختبارا.. عندما قال:

" ... قال ربِّ أَرِنِي أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا..."

                                                               سورة الأعراف الآية: 143

 

ردّ أبي حنيفة على أسئلة الملحدين:

فالله سبحانه لا تدركه الأبصار، ولا يتحمله المكان والزمان، ولا يسري عليه سبحانه ما يخضع له المخلوق.. ولذلك فمحاولة إخضاعه سبحانه لقانون السببية، وقانون الزمان والمكان أمر خاطئ.

قال الملحدون لأبي حنيفة في أي سنة وُجد ربك ؟

قال: الله موجود قبل التاريخ والأزمنة.. لا أول لوجوده..

ثم قال لهم أبو حنيفة: ماذا قبل الأربعة ؟

قالوا ثلاثة.

قال لهم، وماذا قبل الثلاثة ؟

قالوا إثنان.

قال لهم، وماذا قبل الإثنان ؟

قالوا واحد.

قال لهم ، وماذا قبل الواحد ؟

قالوا لا شيء قبله.

قال إذا كان الواحد الحسابي لا شيء قبله.. فكيف بالواحد الحقيقي، وهو الله، إنه قديم، ولا أول لوجوده.

فقالوا له، في أي جهة يتوجه ربك ؟

قال لو أحضرتم مصباحا، في مكان مُظلم..  له نور، في أي جهة يتوجه نوره ؟

قالوا في كل مكان.

قال أبو حنيفة: إذا كان هذا النور الصناعي يتجه في كل مكان، فكيف بنور السماوات والأرض.

فقالوا عَرِّفْنا شيئا عن ذات ربك، أهي صلبة كالحديد، أو سائلة كالماء، أو غازية كالدخان والبخار ؟

قال أبو حنيفة، هل جلستم بجوار مريض قارب على الموت ؟

قالوا نعم جلسنا.

قال هل كلمكم بعد أن أسكته الموت ؟

قالوا لا.

قال هل كان قبل الموت يتكلم، ويتحرك ؟

قالوا نعم.

قال وما الذي غيّره ؟

قالوا خروج روحه.

قال أخرجت روحه ؟

قالوا نعم.

قال صفوا لي هذه الروح، أهي صلبة كالحديد، أم سائلة كالماء، أم غازية كالدخان والبخار ؟

قالوا لا نعرف شيئا عنها.

فقال أبو حنيفة، في ذكاء، إذا كانت الروح المخلوقة بين جنبيكم لا يمكنكم الوصول إليها ومعرفة صفتها.. فكيف لي أن أصف لكم الذات الإلهية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إنكار اليوم الآخر

 

        ومن الملحدين مَن إذا لم يجد ما يدفع به وجود الله تعالى، الذي لا يحتاج إلى دليل، أنكر قيام الساعة، ووقوف الناس للحساب، ليُجازى مَن أحْسَنَ في الدنيا بالإحسان، ويُعَاقب مَن أساء بالإساءة.. محاولة منهم لاستبعاد ما لا نصيب لهم فيه، فهو يُحزنهم، ويُؤذيهم.. لأنهم يعلمون علم اليقين أنه ليس لهم في هذا اليوم إلا ما يحزنهم...

        وإن إنكار اليوم الآخر، كحقيقة، عَمِلَ المُرسلون - عليهم السلام جميعا- كثيرا على ترسيخها في قلوم أقوامهم.. وأوذوا في سبيل ذلك كثيرا.. فتثبيتها، وترسيخ معناها  فيهم تطلب منهم جهدا كبيرا.. وما استجاب لهم في ذلك إلا القليل.. وكان في الغالب الأعم عقبة في طريق تبليغ الدعوة ، فقد كانوا يُكذبون أنه سيكون هناك يوم يقوم فيه الناس من قبورهم بعد الموت.. بل ويَسْخَرُونَ من ذلك.. حتى  حاق بهم ما كانوا به يستهزئون...

فهذا يوسف عليه السلام، يخبر صاحبيه في السجن بأنه ترك ملّة قوم لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم كافرون:

قال تعالى : "... إني تركت ملّة قوم لا يُؤمنون بالله وبالآخرة هم كافرون، واتبعت مِلّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون..."                         سورة يوسف الآية: 39

        فكان الناس عند إنكارهم لليوم الآخر، الذي فيه حسابهم، وعقابهم على جرائمهم، وكبريائهم، وإتباعهم للهوى، ينكرون وجود الله تعالى.. ملك هذا اليوم، وهو ملك كل شيء:       " ... ملك يوم الدين ..."                                                           سورة الفاتحة

فقد كان جحود الناس ليوم القيامة دافعا لهم حتى يُنكروا وجود الله تعالى جملة لأن إيمانهم بوجوده وتصديقهم بصفاته سيصل بهم حتما، إلى التصديق بما أخبر به.. وأَهَمُّ ما أخبر به هو هذا اليوم، الذي ينتصب فيه العباد للحساب:

قال تعالى : " ... فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره ..."  

                                                                        سورة الزلزلة الآيتان:7-8

ثم إنه ليس من المعقول، ولا من المنطق، أن تُختم الحياة الدنيا بغير حساب، يُجازى فيه المُحسنون بالإحسان والمسيئون بالإساءة والعقاب، لأن مَن أمِن العقوبة أساء الخُلق.. وما كانت الدنيا لتستقيم، ويصلح حالها، لو علم الناس أنها عبث، وأنه ليس وراءها حساب ولا عقاب...

قال تعالى: " ... أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق  لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون... "                سورة المؤمنون الآيات: 115- 117

        فلقد تواترت الكتب السماوية بالدعوة إلى الخير وتجنب الشرّ، منبهة إلى اليوم الآخر، مُحذرة منه، ومن الخسارة فيه.. لأن الله تعالى في اليوم الآخر سيحاسب العباد على مدى التزامهم بالخير وتجنبهم للشرّ...

قال تعالى: " ... فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّ يره ... "

سورة الزلزلة الآية: 7 وحتى النفوس السليمة فُطرت على الخير ودعت إليه وحذرت من الشرّ، ونبّهت عليه. فإذا وقع الخير تجد النفوس تقبله، وتنشرح لوجوده.. وإذا حصل شرّ، تجد النفوس السليمة تشمئِزّ منه، وتنفُر من وجوده.

        وإن الذين يُنكرون اليوم الآخر، يبعدون عن أنفسهم الحساب والعقاب، وهو آتيهم لا مَحَالَة.. كأنهم يفعلون ما تفعله النعامة حين تدفن رأسها فقط في التراب ظنا منها أنها اختبأت من الصيادين، وهي إنما تُعطيهم فرصة ذهبية لإلقاء القبض عليها، وهي غافلة عن الهروب تماما...

        فاليوم الآخر، آت، لا شك فيه، ولا يُؤخره إنكار الُمُنكرين، ولا جُحود الجاحدين.

 قال تعالى: " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يُخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون 79 بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون ..."                            سورة البقرة الآيتان: 79- 80

وقال تعالى: " ... فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..."

                                                                 سورة البقرة، الآية: 112

وقوله : " ... ليس البرُّ أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البرُّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين ..."                     البقرة من الآية: 176

وقوله: " ... واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ..."      سورة البقرة الآية: 201 

تحشرون إليه يوم القيامة، ليحاسبكم على ما فعلتموه في حياتكم الدنيا.

وقوله: " ... ذلك يوعظ به مَن كان يومن بالله واليوم الآخر ..."

                                                                سورة البقرة من الآية 230

وقوله: " ... ربّنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يُخلف الميعاد ... "  

                                                                         سورة آل عمران الآية: 9

وقوله: " ... فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووُفِّيَت كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون... "                                                         سورة آل عمران الآية: 25

وقوله: " ... إذ قال الله يا عيسى إني مُتوفيك ورافعكَ إلي ومُطهِّركَ من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ... "                                                           آل عِمران الآية: 54

وقوله: " ... قل لِمَن ما في السماوات قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ... "

                                                                           سورة الأنعام الآية: 13

فمن رحمة الله بعباده أنه يُقيم لهم القيامة، ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فيقتص للمظلوم من ظالمه، ويرد الحقوق إلى أصحابها.. فلا معنى لأن يُترك الظالم دون أن يُعاقب على ظلمه، ويُعوّض المظلوم عمّا فاته في الدنيا بفعل ظالمه، ويُجازى المُحسِن على إحسانه، والصابر على صبره...

فنحن في دنيانا .. وفي أضيق الزوايا، في الأسرة مثلا.. لا يقبل الأطفال من آبائهم قبول الظلم بينهم، والسكوت عنه، دون تدخل يردّ الأمور إلى نِصابها...  

فهل يُعقل أن تنتهي الدنيا، بكل مظالمها، وأحقادها، وغدرها، وفجورها... ولا يُقام فيها عدل تُردّ فيه الحقوق إلى أصحابها، والمظالم إلى أهلها، ويُقتصّ من المُعتدين ؟؟؟؟

وهل يُعقل أن تنتهي الدنيا ولا يُجازى الصابرون على صبرهم وتحملهم، ونكران أنانياتهم، وتفضيل غيرهم عليهم، وإحسانهم، والمُنفِقون على كرمهم وعطائهم، والمُتواضعون  العابدون الطائعون، الذاكرون والذاكرات، والمستغفرون والمستغفرات على عبادتهم وانقيادهم ؟

فكم من مظلوم ومظلومة لا يدري بظلمهما أحد.. وكم من زوجة عاشت في مَظْلَمة مستمرة من زوجها أو أقارب زوجها.. لم يُنقذها منها إلا الموت.. وكم من زوج انتُهِك حقه من زوجته أو أقاربها...

وكم من يتامى سُرق مالهم وأُكِل، وضُيِّع إرث آبائهم، بحكم ضعفهم، وانعدام السند لهم، وغياب المُدافِع عنهم.. وكم من تصرّفُ غيّر مَصير شاب أو شابة في التعليم أو الصحة، أو الإدارة عموما دون أن يعلم عنه أحد...

وكم من مظلوم في السجون، في الماضي والحاضر، وربّما في المستقبل.. والذين أُخْرِجُوا من ديارهم، وهُجِّروا، وشُرِّدوا، وقُتِّلوا تقتيلا...

وكم من بلد استعمره المستكبرون، فسرقوا خيراته، واستعبدوا أهله، واغتصبوا نساءه، ورملوا نساءه ويتموا أطفاله في غياب مَن يقول للظالم يا ظالم كُفَّ عن ظلمك...

وكم من ضعيف سُلِب حقه برشوة أو جاه، أو سُلْطة، فاستمتع بحقه غيره، وهو لا يقدر على استرجاعه...

وكم من إخوة غدروا بأخيهم، باسم الأخوة.. وكم من أب ضيَّع من يَعول، وولد عقّ أباه.. وكم من حاكم فرّط في مُقدرات شعبه، أخلّ بمسؤوليته.. وكم من زوجة خانت زوجها، وزوج أهدر حقّ مَن تزوجها...

وكم وكم وكم... أفيُترك كل ذلك بدون حساب ؟؟؟؟؟؟؟؟

وكم من متوضئ، عابد، ناسك، صابر، ومُستغفر بالأسحار.. وكم من كريم، يَبذل ويُعطي غيره من ماله الذي يُحبّ.. وكم من ناصر للضعفاء والمظلومين، يُعرِّض نفسه وأهله للأذى دفاعا عنهم، ودفعا للقهر عنهم.. وكم من مجاهد بماله، وبنفسه ضدّ الظلم والاعتداء...

وكم وكم وكم... أفيُترك كل ذلك عبثا.. ولا يُجازى المُحسن على الإحسان، والمُسيء على الإساءة ؟

قال تعالى: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق..."                                                             سورة المؤمنون الآية: 115

كيف تُطوى صفحة الدنيا، ولا يُحاسب المسؤولون عن معاناة الناس الذين تحملوا مَهمّة الإخلاص في خدمتهم...

وكيف لا يُحاسب الخائن الذي ضيّع نفوسا وأزهق أرواحا، وعرّض جماعته إلى أن ينال منها عدوها.. يبيع جماعته لعدوهم مُقابل قليل من المتاع.. والكذاب الذي يعمل لتحقيق مصالحه، ويدّعي أنه يُراعي مصالح الغير.. والفاسق والأناني الذي لم يهتمّ إلا بشهوته، ولم يعمل إلا لمصلحته...

والذين انتصرت عليهم أنفسهم، ودعتهم إلى العجلة في كل شيء، بما يكون في ذلك من الضرر للآخرين.. في السياقة، والصناعة، والعلاج، والتربية وغيرها.. والغشاشين والغشاشات الذين ينشدون الربح السريع، فيأكلون أموال الناس بالباطل، ويخدعونهم...

والمُنافقون ، والفاسقون، والفُجّار، الذين يظهرون الزهد والورع، ويُبْطِنُون غيرَه للوصول إلى أموال الناس وأعراضهم...

والغافلون عن ذكر الله، المفتونون بأمور الدنيا، والمنشغلون بغيرهم من الناس غيبة ونميمة وحسدا...

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتُؤُدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقتصّ للشاة الجَمَّاء، من الشَّاة القَرْنَاءِ بنطحها "

                                  أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية على شرط مسلم

كيف تُختم الدنيا دون مُحاسبة الذين يقترفون الذنوب والآثام ثم يرمون بها الأبرياء، ويتهمونهم بما لم يفعلوا... وكيف يُغَضّ الطرف على الذين يُحبّون إفساد المجتمعات، وإشاعة الفاحشة بينهم...

وكيف لا يُجازى الصادق على صدقه، والأمين، الذي نفع غيره بصدقه، وأمانته، وطيبة قلبه، فَحَافَظَ على الأمانات، ونصح إلى الناس، وعمل على منفعتهم..  لأن الناس خلق الله وعياله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".                                     رواه أبو يعلى والطبراني في المعجم الكبير

كيف يكون من المعقول أن تُختم الدنيا دون أن تُردّ الأمور إلى نِصابها، فيدخل  المحسنون الجنة، التي عرّفها الله تعالى لعباده في القرآن الكريم، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن  : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر... ". 

 رواه البخاري(3072) ومسلم (2824) عن أبي هريرة وأخرجه ابن القيم في كتابه : " مفتاح دار السعادة.

وقال تعالى: " سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمتّقين الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين..."                                                 سورة آل عمران الآية: 133

وقال سبحانه: " ... وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون..."                          سورة البقرة الآية: 25

وقال سبحان : " ... مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكْلُها دائم وظِلُّها تلك عُقْبى الذين اتقوا وعُقْبى الكافرين النار... "                سورة الرعد الآية: 35

وقال تعالى: " مثل الجنة التي وُعِدَ المُتَّقُون فيها أنهار مِنْ ماء غير ءَاسِنٍ وأنهارٌ من لبن لم يَتَغَيَّر طعْمُه وأنهار مِن خَمْرٍ لذّة للشاربين وأنهار مِن عسلٍ مُصفّى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرةٌ من ربهم كمن هو خالد في النار..."                  سورة محمد الآية: 16                                                                   

وقال عنها الله تعالى: " ... ألائك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين  ..."                     سورة آل عمران الآية: 136

وقال كذلك: " ... في جنّةٍ عاليةٍ لا تُسمع فيها لاغية فيها عين جارية  فيها سرر مرفوعةٌ وأكوابٌ موضوعةٌ ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثةٌ ..."

                                                          سورة الغاشية الآيات: 10- 14

ليس فقط هؤلاء، ولكن حتى الذي اقترفوا الفواحش والذنوب، وظلموا أنفسهم ثم تراجعوا عن ذلك، واستغفروا الله، تابوا إليه.. وندموا على ما فعلوه، يجدون الله توابا رحيما، يُلحِقُهم بسابقيهم في الجنة...

وكيف يكون من المعقول أن تُختم الدنيا دون أن تُرَدّ الأمور إلى نصابها، فيدخل المجرمون الذين أجرموا في حق غيرهم إلى جهنم ، وقد عرفها الله تعالى إلى عباده تخويفا لهم، وترهيبا من أن يفعلوا ما يُؤدي بهم إليها...

قال تعالى: " ... ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنْصَرُون ..."                                                سورة هود الآية: 113

 

وقال تعالى: " ... وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ... "

                                                                  سورة ق الآيات: 22-26

وقال سبحانه: " ... وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار..."                                                                      سورة غافر الآية: 5

وقوله: " ... وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدِّين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فأهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون... "                                   سورة الصافات الآيات: 20- 24

قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم، " في النار حيات كأمثال أعناق البخت ( الإناث من الجمال)، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حرّها سبعين خريفا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة (الأسرجة) تلسع إحداهن اللسعة فيجد حموتها أربعين سنة " .

                                                                            صححه الألباني

وما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من النار، والعمل الذي يبلغ إلى النار، وما فرّط القرآن الكريم في التنبيه على ما يُغضب الله تعالى، ويُدخل النار، ولكن أكثر الناس لا يُبصرون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الطعن في الآيات القرآنية

 

يتحدث كثير من الذين لا يملكون الآليات العلمية، واللغوية، لفهم الخطاب القرآني، عن تناقض القرآن الكريم في بعض من آياته، من مثل قوله تعالى:

 

" والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم":

" ... كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه مِن بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "                                                     سورة البقرة الآية:211 

وغيرها كثير من الآيات التي تشبه مثل هذا المعنى من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ففي ما يتعلق بالآية، من سورة البقرة، يتقوّلون على الله بغير علم.. ففي نظرهم الضعيف .. إذا كان الله تعالى هو الذي يهدي.. بمعنى يقود، ويُوجِّه مَن يشاءُ هو، ويترك مَن يشاء، مِن دون توجيه، ولا هداية، عندها، يكون قد تعمّد ظلمَ مَن تركَهُم هَمَلا بغير هداية ولا توجيه، وميّز بين العباد.. وعندها يكون قد ظلمهم ظلما بيِّنا، يتمثل في تفضيل بعض العباد على البعض الآخر.. في اللحظة التي ينبغي أن يكون هناك تكافئ في الفرص بين الجميع..

 حتى إذا كان هناك حساب يوم القيامة، كان عدلا أن يُعاقب المنحرفون، والمتمردون.. لأنهم بعد الهداية والتوجيه كان منهم ما كان من الإساءة، والعصيان.. وكان عدلا أن يُجازى المُطيعون لربهم والمتّبعون لأمره، والمجتنبون لنهيه جزاء مُستحقا.. لأنهم اتبعوا الأوامر واجتنبوا النواهي، وحققوا العبودية لله تعالى، الشيء الذي أكسبهم الرضى، والقبول عند الله تعالى.

أما إذا كان الأمر فيه تمييز بين العباد، واختيار بينهم، في هداية البعض وتوجيهه، وترك البعض الآخر، فليس من العدل أن يستحق الذين أحسنوا، أي فعلوا المطلوب منهم، جزاء على انصياعهم وطاعتهم..

وليس من العدل أن يُعاقب غيرهم على عدم استجابتهم، وإتباع أنبيائهم، وقد تُركوا بغير هداية ولا توجيه...

وفي حقيقة الأمر.. إن الآية الكريمة، إنما تفيد أن الله تعالى يهدي ويرشد من يشاء الهداية، وسعى لها سعيها، مُقِلاّ كان أو مُكثرا في سعيه.. ولا يمكن أن يتبادر إلى الدهن، أن يكون سبحانه ظالما، يُميِّز بين عباده إلا بالتقوى، والقرب منه.. فقد نفى الظلم عن نفسه في كثير من آي القرآن الكريم، من مثل:

قال تعالى: "...وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..." سورة النحل الآية: 33

وقوله: " ... وما ربك بظلام للعبيد ... "                       سورة فصلت الآية: 46

وقوله: " ... ولا يظلم ربك أحدا ... "                          سورة الكهف الآية: 49

وقوله: " ... وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ... "  سورة النحل الآية: 118

وغيرها كثير.

إن أمر الهداية يتعلق بهِمّة كل عبد، ومَدَى قُرْبِه من الله تعالى، هذا القُرْبُ الناتج عن إحسانه في القول والعمل، ولو بالقليل الذي قد لا ينتبه إليه المرء.. ولو بخاطرة، أو دعوة، أو ندم، أو تفكر، أو سجود، أو تلاوة للقرآن، أو أمر بالمعروف، أو نهي عن المنكر، وإنكاره.. ولو بقلبه.. فتكون المُبادرة من العبد، والاستجابة من الله تعالى.

فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ قال : " ... إذا تقرب العبد إليَّ شِبْرا تقرّبْتُ إليه ذِراعا، وإذا تقرب إلي ذِراعا تقربتُ منه بَاعا، وإذا أتاني يمشي  أتيتُه هَرْوَلَة ... "                                    رواه البخاري

فلا بد في البداية من تقرب العبد ولو بالقليل.. عندها يقابل الله تعالى تقربه بما هو أكثر مما فعل... فالله تعالى ينتظر من العبد المبادرة إلى القرب منه.. وعندها يقوم الله تعالى بتيسير سبل الهداية، والتوجيه، والتسديد، والرشاد...

وإن الله تعالى لأفرح بتوبة عبده، ورجوعه عن المعصية، من رجل كان على وشك الهلاك فنجى منه، فلما كان منه ذلك، اختلط عليه الكلام، من شدّة الفرح بنجاته، فقال غير ما كان يريد قوله.. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي :

" لَلهُ أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، مِن أحدكم كان على راحلته بأرض فَلاتٍ، فانفلتت منه وعليها ماءه وطعامه، فلما استيأس .. أخذتُه غَفْوَةٌ.. فلما فتح عينيه، وجد دابته عند رأسه .. فقال من شدة الفرح: اللهم أنتَ عبْدي وأنا ربُّكَ.. بدل أن يقول - شكرالله - اللهم أنت ربِّي وأنا عبدك".                       الحديث رواه ابن عساكر عن أبي هريرة

وهذا دليل آخر على أن الهداية أمر اختياري، يرجع لِهِمَّة العبد واختياره، يُؤجَر على تحقيقها، ويُعاقَب على تركها، وما الله سبحانه إلا مُعين له، ومُكَمِّل لقصده وتوجهه.

 

الله خالق كل شيء:

أما ما يتعلق بقوله تعالى: " ... أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ... "                         سورة الرعد الآية: 18

فيقول قليلو العلم، وقليلو الخبرة، ما دام الله هو خالق كل شيء.. بما في ذلك أنفسنا، وأفعالنا، وأقوالنا... فلماذا يُحاسبنا على كل ذلك وهو خالقها ؟

في هذا الافتراء على الله تعالى بغير علم.. نقول إن الله تعالى حقيقة هو خالق كل شيء، ومُوجده، وما من شيء إلا هو آخذ بناصيته، ولا دابة إلا هو آخذ بناصيتها.. ولكن خَلْقَه الأشياءَ كان على ضربين:

 فمنها ما خلقه سبحانه، وليس للإنسان يد فيه.. وهو ما عبّر عنه العلماء قديما بالجبر الذي يقابله الاختيار.. أي أن الإنسان مجبر عليه، ولا اختيار له فيه، كالذكورة والأنوثة، والطول والقصر، والجمال والقبح، والأسرة التي ينتمي إليها المرء، والوطن الذي ازداد فيه، والزمن الذي عاش فيه... وغيرها من الأمور التي لا يد للإنسان فيها، ولا اختيار له في أخذها أو تركها... وكل هذا لا يُسأل العبد عنه أو عن غيابه يوم القيامة، كسؤاله مثلا :

لماذا كنتَ ذكرا ؟

أو، لماذا كنتِ أنثى ؟

ولمَ كنت طويلا ؟

وما الذي جعلك قصيرا ؟

ولماذا لم تعش في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فتنصره على أعدائه ؟

أو ما أقبحك.. تستحق العذاب على قُبْحِكَ ؟؟؟؟

كل ذلك من فعل الله تعالى، اختبارا للعباد وامتحانا لهم، أيصبرون على ما بدا لهم، سلبا.. ويشكرون على ما بدا لهم إيجابا، وإن كان كل فعل الله تعالى إيجاب للعبد، وفي مصلحته العامة في الدنيا والآخرة.

والشكر والصبر هما وغيرهما من أمثالهما الذين خلقهم الله تعالى على سبيل الاختيار للعباد، ولم يكرههم على ذلك، وجعل عليهم جزاء لمن اختارهم على غيرهم مثل النسيان والغفلة والضجر، البخل والجبن، والخيانة والكذب والأنانية والكبر، وغيرها. مما رتب عليه سبحان عقوبة.. لأنه اختيار يتحمل المرء المسؤولية على نتائجه.

فالله تعالى، الخالق لكل شيء، فرض علينا أشياء وأجبرنا عليها، وهو غير مُحاسب لنا ولا سائلنا عليها يوم القيامة، وإنما يختبرنا بها لِيَرَى أنصبر على آذاها- كما يبدو لنا- ونشكر على فضلها – كما يبدو لنا- أم نضجر و ننشغل بالنعمة ونَغْفَلُ عن شكر صاحبها.

إن الله تعالى، الحَكَمُ العدْل قد خير عباده في أمور كثيرة جعلها سبحانه مناط التكليف، وموضوع الأمانة التي عُرِضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان بما في ذلك العبادة والتوحيد ، والحلال والحرام، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والإخلاص والنفاق، والعفة والفجور، والكبر والأنانية، والتواضع والإيثار، والتمرد، والسفور والحشمة، والورع والتقوى والخوف، والكفر والعصيان، وغير ذلك كثير مثل البرّ والعقوق، والإحسان والإساءة، واللغو والهَدَرُ، والصمت والحكمة، والتعلم والقراءة، والجهل والرعُونة، والإتقان والغشّ، والإنفاق والبخل، والصوم والأكل، والتعفف والنّهَمُ، والظلم والعدل، والوفاء والغدر...

وتلاوة القرآن أو هجره، وتربية الأولاد أو إهمالهم، وطلب العلم أو استحسان الجهل، ومصاحبة الأخيار أو ملازمة الأشرار، وإعمار بيوت الله أو إعمار الملاهي والمقاهي وغيرها...

إن أمر خَلْقِ الله تعالى لكل شيء، الذي تفرّد به عن غيره، والذي به يستحق أن يُعبد، يُفسَّر بكونه سبحانه ابتلى العباد بما هو جبر لا اختيار فيه، وابتلاهم بالاختيار ليسألهم عليه، وكل ذلك يدخل ضمن القضاء والقدر الذي هو بند من بنود الإيمان الستة.. لا يكتمل إيمان عبد إلا بالإيمان به.

[ الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ]

وهؤلاء يقولون مادام الله تعالى قدّر علينا أشياء، أقوالا وأفعالا.. فلماذا يُحاسبنا عليها، وهو الفاعل الحقيقي.. وذلك افتراء على الله تعالى، فقد خلق النفس وسوّاها.. أي أصلح أمرها، وجعل لها القابلية كي تختار، والإرادة كي تنفد : " ... فألهمها فجورها وتقواها ..." فلتختر ما تريد، الفجور أم التقوى.. ولتتحمل السؤال عنه يوم القيامة.

فهم يقولون : " هذا ما كتب الله علينا " تبريرا لفعلهم.. وذلك صحيح، قد كتب الله تعالى كل ذلك في اللوح المحفوظ، قال تعالى:

" ... وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البرّ والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين... "

                                                                            سورة الأنعام الآية: 59

 ولكن كتابته لها، لا تعني أنه سبحانه يجبر العبد على فعلها، فقد فعل فعله بإرادته.. وإنما كتبه الله سبحانه قبل فعله لِفَيْضِ عِلْمِهِ .. فقد سبق في علمه ما يمكن أن يكون من أمر العبد، قوله وفعله، خيره وشرّه، رزقه وأجله...

ولذلك فالآية الكريمة قبل أن تتحدث عن الكتاب المبين أغرقت في الحديث عن علم الله الذي يعلم الدقيق من أمر الكون، فكتب في اللوح المحفوظ ما كان وما سيكون.. فالملك ملكُه، والخلق خلقه، والأمر أمره لا إله سواه.

فلا يمكن تصور أن الله تعالى يظلم عباده، بأن يأمرهم أو ينهاهم ثم يُحاسبهم على ذلك... فقد سبق أن قلنا أن الله تعالى، قد نفى عن نفسه الظلم في كثير من الآيات القرآنية.

وكيف يظلم سبحانه.. وهو العظيم، الذي لا يحتاج إلى الظلم.. فهو غني عن ظلم المظلومين.. لأن الظلم ضعف في الظالم، يحاول من خلاله تعويض ضعفه بظلم الغير، في ماله، أو عرضه، أو نفسه... فحاجته إلى المال تدفعه إلى أخذ مال غيره ظلما.. وحاجته وشهوته التي إنما تعبر عن ضعفه، تدفعه إلى الاعتداء على عرض غيره.. وحاجته إلى الزعامة والريادة تدفعه إلى تحييد كل من ينافسه في ذلك، أو يكون مظنة أن يحرمه مما يثبت هذه الزعامة له.

 

 

 

 

 

حقيقة الدنيا عند الملحدين

 

الملحدون يُنكرون وجود الله تعالى.. ملك يوم الدين.. ويُنكرون يوم الدين الذي هو اليوم الآخر.. ونتيجة ذلك أنهم لا يؤمنون إلا بالحياة الأولى، أو الحياة الدنيا.

        الحياة الدنيا بالنسبة لهم تنحصر في هذه الحياة التي ما سميت بالدنيا إلا لحقارتها، ودُنُوِّ أجلها، فهي مشتقة في اللغة إما من الدناءة بمعنى الحقارة، أو من الذُنُوِّ بمعنى القرب.

فعن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا جُرعة ماء ".

                                                رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

أي أن الدنيا من فرط حقارتها.. لا تساوي في قيمتها عند الله تعالى قيمة جناح بعوضة.. ولا أقول بعوضة كاملة.. بل ولا حتى جزء منها إنما هي بقدر جناحها.. وذلك بيّن في تساوي الغني والفقير.. في أن الجميع يموتون في نفس الحال.. فمال الغني لا يُغني عنه شيئا.. وفقر الفقير لا يُحْوِجُه إلى شيء.

أو من الدنو بمعنى القرب، والصغر، فالحياة على الأرض صغيرة بالمقارنة مع الآخرة على المستويات كلها.. في المكان والحال والزمان... الزمان أو الزمن السريع الذي قال عنه سبحانه تقديرا له:

" ... قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ... "                                  

                                                                       سورة المؤمنون الآية:112

فبتقدير هذا الإنسان الذي لبث في حياته على الأرض زمنا احتاج معه إلى تأمين مستقبله، والاشتغال بما يُمَكِّنُه من ذلك من العلم والعمل، والحرب والقتال، والبناء والتشييد، والزواج والاستمتاع، والسفر والجولان.. وما له فيه حاجة لتكتمل حياته، وتهنأ روحه، وينصلح حاله...

كل ما يتطلبه توفير هذا المذكور من الوقت والجهد.. قيل عنه: " يوم أو بعض يوم " لكن العليم القدير يستدرك على ذلك ويقول سبحانه:

" ... إن لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون ..."                     سورة المؤمنون من الآية:112

فكل أشكال الحياة التي يعرفها البشر، هي على كوكب الأرض.. الذي هو صغير إذا ما قورن مع غيره من الكواكب الأخرى، التي عرفها العلم الحديث.. لكن الله تعالى في القرآن الكريم يبشر بجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين.. ليست بمساحة كوكب مثلا .. بل عرضها السماوات بما تعرفه من كواكب ومجرات، ونجوم وغيرها... ومعها الأرض كل الأرض...

فهذه الدنيا.. لا تساوي عند الله جناح بعوضة، كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:

" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا جرعة ماء".

                                                رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح

فهي سريعة، لا يهنأ المرء فيها بشيء، ولا يَأمن فيها على شيء.. فهي إذا ازيّنت واخضرّت جاءها الموت ليفرق جمعها، ويشتت شملها.. وهي غرورةٌ لا تَعِدُ أحدا وتفي بوعدها...

        الملحدون حينما ينكرون وجود الله تعالى، وينكرون اليوم الآخر، ويتجرؤون على وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، وينكرون الحقائق الدينية.. يحكمون على أنفسهم بالانقراض  سريعا، والانتهاء مع فناء الحياة الدنيا.. ويفرطون في الخلود الذي وعد الله به عباده في الجنان... حيث لا موت بعدها أبدا.. الامتداد والخلود...

قال تعالى: " ... ألائك جزاءهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ... "                                                           سورة آل عمران الآية: 136

وقال سبحانه عن الدنيا، أنها إنما هي لعب، ولهو.. ومتاع الغرور.. وما ذكرها في القرآن الكريم إلا مقرونة بأسوأ الأوصاف، وأحقرها.

قال تعالى: " ... وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ... "      سورة الحديد الآية:20

وآل عمران الآية: 185

وقال تعالى: " ... وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ... "        سورة الأنعام الآية: 32

وقال تعالى: " ... وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ... "                                                سورة العنكبوت الآية: 64

أي أنها هي الحياة الحقيقية، تلك التي سماها الله تعالى بالآخرة.. بحكم ترتيبها الزمني في اعتبار الإنسان.. وقال عنها أنها الحيوان، أي الحياة في صيغة دالة على القوة والتمدد والكثرة.. وبالمقابل سمى الحياة الأولى بالدنيا أي الدنيئة والقصيرة.. ولذلك وصفها بالمتاع، واللعب، واللهو.. فجاءت المبالغة لكلمة حياة، وهي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم بهذه الصيغة.

جاء القرآن الكريم ليعرف الناس بمعنى الحياة، الحياة الحقيقية هي تلك التي من خصائصها الخلود، والوفرة والتمدّد، والجودة والحقيقة.. وليس الزيف والملل، والموت والمرض، والقصر والعجلة...

ولذلك قال سبحانه: " وإن الآخرة لهي الحيوان ..."           

وهو يقصد سبحانه الحياة الحقيقية مقابل الحياة المزيفة في الدنيا، حيث يعتريها الضعف، والقصر، والسقم والموت، والعفن والقبح، والزور والكذب، والخيانة والظلم، وكل ما من شأنه أن يفسد الطمأنينة فيها...

        مع كل ذلك رضي الملحدون بها كحياة قاصرة وقصيرة.. يَنْقَضُون بانْقِضَائِها، ويَفْنَوْنَ بفَنَائِها.. فبإنكارهم للحقائق الدينية، يفرطون فيما وعد الله به عباده المستقيمين من الخلود في الجنة، والتنعم بنعيمها، لهم فيها ما يشاءون ...

وقد امتلأت آيات القرآن الكريم بألوان وأشكال النعيم المقيم، أكلا، وشربا وزواجا، وقصورا، وتزاورا...

وكأن الملحدين بفعلهم ذاك يقولون بلسان حالهم: " لا حاجة لنا في الجنة.. ولا حاجة لنا في نعيم الجنة.. ولا حاجة لنا في جمال الجنة.. ولا حاجة لنا في نساء الجنة.. ولا حاجة لنا في رجال الجنة.. من كل ما أخبر به القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة...

        ويا ليتها كانت القاضية... يا ليت الحياة تتوقف عند الحياة الدنيا بالنسبة لهم، إنما هي جولة قصيرة في مشوار طويل .. ما هي إلا مرحلة اختبار قصير يُوجّه بعده الناجحون إلى حياة رغدة في الجنان، ويُوجّه الراسبون والخاسرون فيه إلى حياة الشقاء في النار...

        قال تعالى في في سورة هود: " ... يوم يات لا تَكلَّم نفسم إلا بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد 105 قأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق 106 خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعّال لما يريد 107  وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء الله ربك عطاء غير مجذود 108".

                                                                 سورة هود الآيات: 105 - 108

جرأتهم على النبي صلى الله عليه وسلم

 

        كعادتهم يتجرؤون على كل مقدّس.. ويرفعون مقام كل مدنّس .. يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهوانية، والتعلق بالدنيا والنساء، وهم يشيرون إلى زواجه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربعة، وقد حدد لأمته الزواج في أربعة، ثم زواجه بعائشة في سن مبكرة... وغير ذلك مما ينفثونه من سموم وأحقاد ملأت قلوبهم، وأفسدت فطرتهم، وأعمت بصيرتهم عن كل حقيقة.

يتناسى الملحدون أنهم يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الذي اختاره الله سبحانه من خيرة خلقه، ليكون رسولا للعالمين، وهاديا للثقلين، بعثه رحمة للناس أجمعين. قال تعالى: " ... تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ... "

                                                                        سورة الفرقان من الآية :1

وقوله: " ... محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم تراهم رُكّعا سجدا..."                                                                   سورة الفتح الآية: 29

وقوله: " ... وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عَقِبَيْهِ فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ... "

                                                                      سورة آل عمران الآية: 144

وقوله: " ... ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيئين وكان الله بكل شيء عليما ..."

                                                                         سورة الأحزاب الآية: 40

فقد رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أنه صلى الله عليه وسلم نام على حصير.. ولما قام ، رُسم الحصير على جنبه صلى الله عليه وسلم، فَرَقّ له عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، لو اتخذنا لك مَطِيَّة تنام عليها.. قال عليه السلام: " ما لي وللدنيا.. إن مَثَلِي ومثل الدنيا كراكب استظلّ تحت ظلّ شجرة، ثم راح وتركها ".                                                                     رواه ابن حبان

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من طُلاّب الدنيا، ولا من العاملين لها، ولا من المنخدعين بزخرفها.. ولم يلتصق بها إلا بقدر ما تتطلّبه وظيفته، كَمُبَلِّغ عن الله تعالى..  يأتمر بأمره، ويتبع سبيله في  تبليغ رسالته...

 

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها:

فقد جاء في كتب الحديث والتفسير، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عائشة ابنة الصديق رضي الله عنها، إلا لما جاءه جبريل عليه السلام – وهو يجلس مع أبي بكر – بخِرقة عليها صورة امرأة .. وقال: يا محمد هذه زوجتك في الجنة.

فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يفكر ويحاول تذكر وجه المرأة في الصورة.. فبينما هو كذلك كانت عائشة رضي الله عنها، تلعب في الجوار.. فلما قابلت النبي صلى الله عليه وسلم أيقن أنها المقصودة في الصورة التي جاء بها جبريل.. وكان عمرها آنذاك سبع سنوات.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر.. زوجني ابنتك هاته .. قال يا رسول الله، إنها صغيرة، لا تطيق الوطء..

فكشف النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه عن عقبها، وقال: إنها تطيق يا أبا بكر.. فقال أبو بكر، لك ما شِئت يا رسول الله.. فعقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع.

        فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شهوانيا في زواجه من عائشة رضي الله عنها، لأنها كانت جارية، لم تصل إلى حد الإغراء، وإنما كان زواجه بها عليه السلام طاعة لله تعالى، لأنه عرف أن جبريل عليه السلام، لم يأته بالصورة عبثا.. وإنما جاءه بأمر من ربه لينفذه .. ولِحِكْمَة هو سبحانه يعلمها..

فلم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غير عائشة رضي الله عنها، وكل زوجاته غيرها سبق لهن الزواج قبله، الشيء الذي يفحم الطاعنين في شخصه عليه السلام من أن زواجه مبعثه الأساسي هو الشهوة والاستمتاع بالنساء.. ولو كان ذلك مبتغاه لتخيّر في كل زوجاته أو معظمهن البكر التي توفرت فيها صفات الجمال، ونحو ذلك ..

        ولو كان الدافع دافعا شهوانيا لتزوج الأبكار اللاتي كان يرشد إليهن غيره، فقد قال لجابر: " هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك ".                       الحديث في الصحيحين

 

وقال أيضا: "عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما، وأرضى باليسير"

                                                                                    رواه ابن ماجة

ثم إن النساء في تلك البيئة الصحراوية كان المعتاد بينهن أن يتزوجن بمثل هذه السن، التي تزوج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة.. ويُروى أنها رضي الله عنها كانت قد طُلِبت للزواج مِنْ قِبَلِ المطعم بن عدي لابنه جبير بن مطعم قبل ذلك . وهكذا كان الناس في أرض الجزيرة العربية إلى عهد قريب، تبلغ النساء في سن مبكرة، ويكون الزواج المبكر .. لأن البيئة حارة تدعو إلى ذلك

وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " أُريتك في المنام مرتين أرى أنك في سُرقة من حرير ويقال : هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه "         رواه البخاري برقم: 3682

وما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة رضي الله عنها من أمارات الذكاء والفطنة في صغرها فأحب الزواج بها لتكون أقدر من غيرها على نقل أحواله صلى الله عليه وسلم وأقواله، وبالفعل كانت رضي الله عنها مرجعا للصحابة رضي الله عنهم في شؤونهم وأحكامهم.

ثم إن مَحَبَّة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها أبي بكر رضي الله عنه، وما ناله رضي الله عنه في سبيل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى الذي صبر عليه.. فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته إكراما له، وتقربا إليه.

وكان من فضائلها رضي الله عنها أنه ما نزل الوحي في لحاف امرأة غيرها، وكانت من أحب الخلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وكانت من أفقه نساء الأمة وأعلمهن على الإطلاق، وكان الأكابر من أصحاب النبي يرجعون إلى قولها ويستفتونها.

عن عمرو بن العاص، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال عائشة قيل من الرجال قال أبوها "

     أخرجه ابن ماجة، والطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان

وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، عزف عن الزواج، وفاء لخديجة، وحزنا عليها.. ولم يتزوج بعد وفاتها إلا بإلحاح من عمته رضي الله

عنها، بحجة إيجاد امرأة تهتم بأولاده من بعد خديجة رضي الله عنها... فتزوج أمنا سودة بنت زمعة، بمشورة عمَّتِه رضي الله عنها، مواساة لها، فقد كانت مُسِنّة، مات زوجها.. وبقيت بين قوم مشركين...

        ثم كان بعد ذلك ما سبق أن قلناه عن زواجه صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها..

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوج امرأة إلا لحكمة هي في واقعها بعيدة كل البعد عن الشهوانية، والهبوط البشري...

 

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:

ويلاحظ في مجموع زواجه صلى الله عليه وسلم، أنه تزوج بالصغيرة والكبيرة، وابنة عدوّ لدود، وابنة صديق حميم، ومنهن من كانت أم الأيتام، ومنهن العابدة الزاهدة... لقد كنّ نماذج مختلفة.. من خلالهن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة تشريعا سمحا في التعامل السليم مع كل نموذج من هذه النماذج البشرية.

فقد اختلف أصحاب السير في عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم اتفقوا على أنهن إحدى عشرة امرأة هن خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر ابن الخطاب، وزينب بنت خزيمة، وأمّ سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة، وزينب بنت جحش، وجوّيرية بنت الحارث، وأمّ حبيبة رَمْلَةُ بنت أبي سفيان، وصَفِيَّةُ بنت حُيَيّْ بن أخْطَبْ، وميمونة بنت الحارث،

وأكثر من اجتمع عنده تسع نسوة، من غير خديجة رضي الله عنها التي هي أم أولاده، والتي لم يتزوج عليها أحدا من النساء في حياتها، وزينب بنت خزيمة التي توفيت في حياته صلى الله عليه وسلم، وليس عنده حينئذ إلا عائشة وسودة وحفصة رضي الله تعالى عنهن جميعا.

فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع زوجات في آن واحد، وذلك من خصوصياته، فيجوز أن يجمع أكثر من أربع في عصمته بالإجماع، وذكر العلماء حِكَما عديدة لذلك، نذكر منها:

أولا : حكمة التبليغ: لأن الزوجة ألصق الناس بزوجها، وأقربهن إليه، وأعرف الناس بحاله، والزوج أيضا يبوح لزوجته بما لا يستطيع البوح به إلى غيرها.. وخاصة فيما يستحيي المرء عادة من ذكره، فكان من الحكمة أن تكثر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لينقلن الخاص والعام من أقواله وأفعاله التشريعية، ويسألنه عما لا يجرؤ غيرهن على أن يسأله عنه، ثم يبلغن ذلك للناس، وقد حصل ذلك بالفعل.

ثانيا : الحكمة السياسية والاجتماعية: وتتمثل في أن زواجه بأكثر من أربع أتاح له الفرصة لتوثيق صلته ببطون قريش العديدة مما جعل القلوب تلتف حوله.. فقد تزوج نسوة من قريش منهن بنتا أبي بكر وعمر، وبنت أبي سفيان وغيرهن.

ثم إن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كانت منهن الصغيرة البكر، والكبيرة المُسنة، ومنهن ذات الولد من غيره، ومنهن من كانت زوجة لرجل غني،ومنهن من كانت زوجة لرجل فقير، وآخر أمير، وآخر دون ذلك، فاستطاع صلى الله عليه وسلم بما عرف من كمال خلقه أن يعطي لكل واحدة منهن حَقَّهَا، ويُعامِلُها بما يليق بها، ويناسب حالها ومَقامَها...

 

التحذير من الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم:

وكان في رسول الله صلى عليه وسلم الإسوة الحسنة لكل الأزواج في الأمة بمختلف أحوال أزواجهم .. إنه رسول الله، الذي كلفه الله تعالى بحمل رسالته إلى العالمين.. فإن الانتقاص من شخصه عليه السلام، أو اتهامه بشيء هو منه براء، إنما هو مسّ بالذات الإلهية، وتَقَوُّلٌ على الله تعالى بغير علم، واتهامه سبحانه بعشوائية الاختيار في الرسل والأنبياء.

إن الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس.. مسلمين، غَفْلَة منهم، أو غير مسلمين، يدّعون عبودية الله، والخوف منه، والطمع في رحمته.. يسيئون إلى مَنْ بعثه الله تعالى مُرسلا للعالمين، يدعوهم إلى الله، وينذرهم عقابه وانتقامه، ويُبشرهم برحمته، ونعيمه في الجنة.. إنما يسيئون إلى الله تعالى.

ألم ينتبه هؤلاء إلى أنهم يسيئون إلى الله تعالى عندما يستهزئون برسوله.. لأن إهانة الرسول هي إهانة لِمن أرسَلَه..  ألا ترى الملوك إذا أرسلوا رسولا إلى جهة، أو بلد آخر.. ينتظرون من هذه الجهة أو الدولة كيف تُعامِلُ رسولَها.. فإن أكرموه، وقدَّرُوه، اعتبروا ذلك إكراما لهم، ولدولهم.. وإن أساءوا إليه أو قتلوه، عَدُّوا ذلك إعلان حرب عليهم.. ألا يعلم هؤلاء الذين يُؤدون رسول الله أنهم بالإساءة إلى رسوله يُعلنون الحربَ على الله تعالى..

وهذا يُقال للذين يدّعون أنهم متدينون.. مسيحيون كانوا أو يهودا، أو غيرهم ممن ينافسون غيرهم في التبتل والعبادة..وادِّعاء الخوف على مصيرهم في الآخرة..

لو كانوا فعلا كما قالوا، لعظموا رسول الله، خوفا من الله تعالى، وطمعا فيما عنده.. ولحسبوا لذلك ألف حساب..

لقد تزوج النبي صلى الله عليه زينب بنت جحش بأمر من الله تعالى لما قضى منها زيد وطرا.. فقد زوجه الله تعالى إياها لكي لا يبقى للمؤمنين حرج في الزواج من أدعياءهم، وذلك لما قال سبحانه:

" ... ولما قضى منها زيد وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ..."   سورة الأحزاب الآية:37

إن الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، ترجع إلى عدم تقدير الله حق قدره، تهورا ورعونة، وجهلا منهم بمصيرهم يوم القيامة.. حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فهؤلاء لو قدروا الله تعالى، وعرفوا سلطان، وجبروته.. لما تجرؤوا على أوليائه من عباده الصالحين فضلا عن أنبيائه ورسله عليهم السلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

       

خاتمة

 

       إن موجة الإلحاد التي تشيع بين الشباب اليوم، إنما هي نتيجة لتقصير في أداء المسؤوليات، وإهمال الواجبات من الآباء والأمهات في البيوت، والمعلمين والمدرسين في المدارس والمعاهد، والمساجد ودور التعليم الخصوصية منها والعمومية، والوعاظ والمرشدين، أينما كانت وكيفما كانت ظروف عملهم، والمسؤولون عن البرامج التعليمية والمقررات التي تخص ذلك.. والإعلاميين والصحفيين والمهتمين بمجال الإعلام... كل أولائك مسؤولون عما وصلت إليه حالات الشباب اليوم من اللامبالات والاستهتار بكل ما هو ديني وأخلاقي وعقائدي...

        إن حال الشباب اليوم تستدعي وقفة من كل الفاعلين والمتدخلين في المجال للمساهمة الجادة في البحث عن الحلول الناجعة، لربط عمدة مستقبل الأمة جمعاء بماضيها، وعقيدتها وأخلاق سلفها... لأن بانفلات الشباب عن السكة التي بناها الأجداد، يكون المجتمع قد ضاع وأصبح شيئا آخر، لا يمت إلى الأمة المغربية المتمسكة بعقيدتها الإسلامية وأخلاقها المحمدية العالية.

        إن الاستثمار في أولادنا يقتضي منا شجاعة و مجازفة بكل ما استمرأناه وهو ليس من عقيدتنا مما يصيب شبابنا بالملل واليأس من الوصول إلى حقوقهم والاستمتاع بامتيازاتهم كمواطنين لهم كامل الحق فيما تزخر به بلادهم من خيرات... لقد اعتدنا على فكرة أن يصل إلى مبتغاه الذي يملك سبل الوصول إلى ذلك.. مالا كان أو جاها  أو معارف تقدر اسم العائلة، أو تحايلا إداريا...

لقد ضاق الشباب ذرعا من غياب تكافئ الفرص، وعدم اعتبار الكفاءة بين المتبارين، وقيام الاختيار للمَهَمَّة على غير ذلك...

إن مثل هذه التصرفات التي يصادفها الشباب في طريق مستقبلهم وحياتهم هي التي تفقدهم الثقة في كل ما يتغنى به الكبار من تمجيد لعقيدتهم، وتعظيم لأخلاق نبيهم، واستمتاع بسرد تاريخ حضارتهم، وأمجاد أسلافهم.. إن كل هذه التناقضات تدعوهم للسؤال:

أهذا الظلم الاجتماعي.. هو نتيجة ما تدعو إليه عقيتهم؟

أهذا الحيف الشنيع.. هو نتيجة لما تركه فيهم نبيهم "عليه السلام"؟

أهكذا بنى الأجداد حضارتهم التي لا يزال الغرب ينهل من كنوزها؟

وينتهي بهم الأمر إلى التميز بين هذا وذاك بقولهم: إذا كانت عقيدتهم التي يصفونها بما شاءوا هي المسؤولة عما نعيشه فلا حاجة لنا بها..

وإذا كانت أخلاق نبيهم تسمح بهذا التمييز فنحن نتبرأ منها..

وإذا كان الأجداد قد بنوا حضارتهم على التمييز بين الغني والفقير، والشريف والوضيع، والمرأة والرجل تبعا للمصالح، وخضوعا للنزوات فما هي بحضارة..

أم أن العقيدة، والأخلاق، والحضارة، وإرث الأجداد لم تغير فيهم شيئا.. عندها لا حاجة لنا بشيء لا ينعكس على حياة الناس وواقعهم، ويجعلهم يعيشون الطمأنينة والأمان على مستقبلهم.

        إن الاختلالات الإجتماعية التي يتجرعها الشباب ولا يسيغونها، هي المسؤولة عن الظواهر الغريبة التي تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية.

وإن البحث الجاد عن الحلول لمثل ظاهرة الإلحاد في المجتمع، يكمن في التخلي الجماعي عن الأنانية المقيتة، والتخلي عن آفة الكبر، والعُجب، والسعي وراء الربح السريع، على حساب الكفاءات التي تستحقّ تولي المهمات، والمسؤوليات.. إذا علمنا أن في ذلك نهضة الأمة، وانبعاثها، واستقلاليتها...

        وبعبارة أخرى.. تفعيل قيمة العدل، في توزيع الحقوق بين الناس.. عندها يمكن أن يلمس كل شاب وكل شابة الاطمئنان، والارتياح لمجتمعه، والثقة الكبيرة في ثقافة أمته.. وبالتالي، تقبلها، والاعتزاز بالانتماء إليها، والدفاع عنها إذا اقتضى الحال ذلك.

عندها يمكن أن لا نخاف على شباب الأمة، ونطمئن في نفس الوقت على مستقبلها، ونقاء هويتها.. وإلا، لا قدّر الله تضيع الأمة، وتندثر بضياع شبابها، وضياع هويتهم الحقيقية.. المغربية العربية، والأمازيغية الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

الفهرست

       الصفحة:           الموضوع

1-                  الإهداء

2-                  تقديم

5-                 الإلحاد وأوهام الملحدين

9-                 حقيقة الإلحاد والملحدين

13-               أين الدليل على وجود الخالق

14-               من ينبت الزرع والزيتون والنخيل...

16-                إيمان العجائز

16-                لا أحد خلق نفسه

17-                البعرة تدل على البعير

18-                بعدا لرب تبول على رأسه الثعالب

20-               القرآن الكريم دليل مادي على وجود الله

21-               أم يقولون افتراه

24-               كيف كان لمحمد أن يفتري القرآن

25-               الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

25-               الإعجاز العلمي في القرآن سبب في التحاق غير المسلمين بالإسلام

27-                إنزال الماء من السماء

28-                الليل والنهار

29-                أطوار الجنين في بطن أمه

30-                كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يتنبأ بالمستقبل

31-                من أخبره عليه السلام بنهاية عمه أبي لهب

34-               الإلحاد في صفات الله وأسمائه

34-               اتهام الله تعالى بالقسوة بدل الرحمة

35-               الرحمان الرحيم

37-                من رحمة الله تعالى إخفاء مقادير العباد

38-               قبول توبة المذنبين

40-               شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

41-               وصفه سبحانه بالعجز وإخلاف المواعيد

42-               الله تعالى لا يخلف الميعاد

43-               من خلق الله

47-               إنكار اليوم الآخر

53-               الطعن في آي القرآن الكريم

53-               والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

56-               الله خالق كل شيء

59-               حقيقة الدنيا عند الملحدين

62-               جرأتهم على النبي صلى الله عليه وسلم

63-               زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها

65-               زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

66-               التحذير من الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم

68-               خاتمة

70-               الفهرست

الغلاف

 

 

 

 

 

 

العنوان:

أوهام الإلحاد والملحدين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                         د. أحمد بوشلطة

الغلاف من الخلف

صورة المؤلف

 

 

هذا الكتاب

        لقد رَاعَنِي ما اسْتَنْتَجْتُه من خلال أسئلة طلبة الباكالوريا.. المتعلقة بقضايا العقيدة، والدين عموما، وخصوصا منها تلك التي تستفسر عن الله تعالى وصفاته، واليوم الآخر، والقرآن الكريم، هل هو وحي من الله، أو افتراء من محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم وزَوَاجُه بأكثر من أربعة زوجاتٍ...

فاستغربتُ كثيرا لما وجدتُ عددا لا يُستهان به منهم مُتَحَمِّسا يدافع عن ما يدعو إلى التشكيك في البديهيات من الدين ، والتي ما كُنَّا نعرف اختلافا عليها بين الناس...

        كان المثير للدهشة بالنسبة إليّ، هوعندما كنت أجد هذا النوع من الأسئلة متواترا في سائر الفصول التي كنت أتردد على تدريسها في المستوى الثانوي التأهيلي.. الشيء الذي يوحي بأن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية وفكرية عقائدية...

 فكنت بكل جِدّ أردّ على الأسئلة من ذلك النوع، وأقنع نفسي أنني قضيت على ذلك التشويش الحاصل عند التلاميذ.. لكن المحصلة التي وقفت عليها في نهاية السنة الدراسية أن الإلحاد في وجود الله تعالى وصفاته، وإنكار اليوم الآخر كباقي الحقائق الدينية، أكبر مما كنت أعتقد، وأوسع انتشارا مما كنت أظن.. وهذا الكتاب هو محاولة متواضعة لتوضيح ما الْتَبَسَ على شبابنا، والنصح لهم.. والقيام بالواجب بحكم المهمة والوظيفة.. ومعذرة إلى الله تعالى يوم القيامة، لأنه سائلنا عن كل ذلك.

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire