dimanche 23 janvier 2022

نظرات في سورة يوسف. ذأحمد بوشلطة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نظرات في سورة يوسف

         الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله وَلَدا مالهم به مِن عِلْم ولا لِآبائهم...

 والصلاة وأزكى التسليم على النبي المصطفى الأمين، محمد بن عبد الله، المبعوث رحمة للعالمين:

" تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا..." وعلى آله وأصحابه والتابعين، وعلى إخوانه  ‏من الأنبياء والمرسلين.

 أما بعد، فإن الحديث عن القرآن الكريم هو حديث عن الرسالة التي خصّ الله تعالى بها البشرية في عمومها ، أبيضها وأسودها، عَرَبِيِّها وأعْجَمِيَها، لا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى والقرب من الله تعالى.

         وهذا القرآن، كان حُجّة بالغة تؤكد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوي عزيمته كلّما طَغَى على شخصيته عُنصُر بشريتة، على وظيفته كنبيّ مُرسل، كما حصل معه عليه السلام في عام الحزن عندما فقد زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعمَّه أبا طالب، ‏وقد سُجِّل ذلك في قوله تعالى في سورة الضحى: " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قَلَى ولا الآخرة خيرٌ لك من الأولى ولسوف يُعطيك ربُّك فترضى... إلى آخر الآية .

وفي سورة الفرقان قال تعالى: " لِنُثَبِّت به فؤادَكَ وفَصَّلْنَاه تَفْصِيلا..."

 وكذلك في سورة يوسف قال تعالى: " ذلك من أنباء الغَيْب نُوحِيه إليك وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهُمْ يَمْكُرُونْ..."

         وعن ابن المختار الطائي، عن أبن أخي الحارث، عن الحارث، قال دخلتُ المسجدَ فإذا أناس يخُوضُون في أحاديثَ، فدخلت على عليّ، فقلت: ألا ترى أنّ أُناسا يأخذون في الأحاديث في المسجد فقال : " قد فعلوها.. قلت نعم قال:  أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتن. قلت وما المخرج منها.. قال كتاب الله، فيه نبأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحُكمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي مَنْ تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغي الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذِّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، ‏وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تَلْتَبِسُ به الأَلْسِنَة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخلَق من كثرة  الردّ، ولا تنقضي عجائِبه، وهو الذي لم يَنْتَه الجِنّ إذ سَمِعَتْه أنْ قالوا إنا

 

 

سمعنا قرآنا عَجَبا، هو الذي من قال به صَدَق، ومَنْ حَكَم به عَدَل، ومَنْ عَمِل به أُجِر، ومَنْ دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم..."

         وقد سئل أحد العلماء:" كم نقرأ من القرآن فقال: " بقدر ما ترغب فيه من التواب". وسئل آخر عن أفضل كتاب في العقيدة فقال: " القرآن الكريم ".

         وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بَكَاه الصحابةُ رِضْوان اللهِ عليهم كما لم يَبْكي أَحَدٌ أَحَدا، وحَزِنوا على فِراقِه كما لم يفعل أصحاب على صاحبهم، ولكنهم بعد أن مرت ثلاثة أيام من على دفنه صلى الله عليه وسلم عادت الحياة إلى طبيعتها، واستمراريتها، وقام أصحابه رضي الله عنهم إلى أشغالهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى بأن لا يتجاوز الحداد والحزن أكثر من ثلاث...

 وبحثا عن أسباب الانشغال عن الحزن على فراق رسول الله صلى عليه وسلم، قال أبو بكر لِعُمَر - وقد أصبح خليفة للمسلمين:" تعالى بنا نزور أم أيمن فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها، وعندما أقبلا على أم أيمن وجداها تبكي، فقاما بمحاولة تسليتها، وإسكاتها، فقالا:

  " يا أمَّ أيْمَن كَفَاكِ بُكاءا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد انتقل إلى ربِّ كريم، وقد وَعَدَه سبحانه أن يبْعثه مَقاما محمودا في الجنة …

توقفت أم أيمن عن البكاء وقالت: أنا لا أبْكِي على محمد صلى الله عليه وسلم، فإنني على يقين أنه في الجنة يرفل في نعيمها ،‏ولكنْ أبكي على انقطاع الوحي من السماء بموت محمد صلى الله عليه وسلم .. فبكى أبو بكر، وبكى عمر، حتى أصبحت أم أيمن تُسْكِتهما..."

 كانت أمّ أيمن، تقصد انقطاع نزول القرآن الكريم بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع الوحي عموما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء الذين يبعثهم الله تعالى لهداية البشر، فكانت أم أيمن قد انتبهت إلى ما لم يستطع لا أبو بكر ولا عمر الانتباه إليه، ألا وهو توجيه الله تعالى للإنسانية كلما مالت كفة الغلبة إلى الشيطان، الذي حذّر الله تعالى من أنه عدو فاتخذوه عدوا.

         وكان القرآن الكريم، أكثر إحكاما من أي صِنْف من أصناف كلام البشر، وقد شهد بذلك أعداءه قبل الأصدقاء، فهذا الوليد بن المغيرة يشهد للقرآن الكريم رغم أنّ القرآن لا يحتاج لشهادته ..

 كان المُشركون يجلسون كعادتهم في دار الندوة، وذلك عندما انْتُدِب الوليد بن المغيرة للذهاب إلى محمد النبي صلى الله عليه وسلم، ليُكلِّمه، ويُساوِمَه لعلّه يتخلّى عن بَتِّ الدعوة الإسلامية فيهم، لأنه يُفرِّق بينهم وبين أبنائهم، وبينهم وبين أزواجهم، وبينهم وبين عبيدهم..

 

 

وكان الوليد بن المغيرة سيّدا في قريش، يحظى بقيمة، وشرف بينهم ، إلا أن أبا جهل عمرو بن هشام، طلب منه الذّهاب إلى مُحمّد بحكم أنه كذلك، ثم لأنه كان غير حصيف، ولا خلوق.

كان لا يتوانا في أن يطالب مَنْ هو أكثر منه قدرا تنفيذ ما يريد، فقال : " يا أبا الوليد - يقصد الوليد بن المغيرة- هلا ذهبت إلى مُحمّد – وكان عليه السلام يصلي عند الكعبة- وقل له أن يُخلي بيننا وبين ديننا، فإن كان يريد مالا جمعنا له من أموالنا حتى يصير أغنانا، وإن كان

 

يريد ملكا ملكناه علينا، وإن كان يريد نساءا زوجناه من خيرة بناتنا، وإن كان مريضا طلبنا له المشافي حتى يُشفى...

‏تردّد الوليد بن المغيرة في القيام إلى محمد، لأنه كان يشك في نتيجة تحركه، لكنه قام بعد إصرار أبي جهل، وحتى لا يُقال عنه جبان، يخشى مواجهة محمد، وأن يُتهم بأنّ قلبه مع محمد، ولكنه في الأخير لم يجد بُدّا من القيام إليه، غير مُتحمِّس... وعندما وصل إليه صلى الله عليه وسلم، وقف الوليد بن المغيرة ينتظر فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، ولما  انتهى قال له متوددا:

" يا ابن أخي.. هلا خليت بيننا وبين ديننا ، لقد سَفَهْتَ أحلامَنا، وعِبْت آلهتنا، وفرّقتَ بيننا وبين أبنائنا، ‏وبيننا وبين عبيدنا ، إنْ كُنتَ تريد مالا جمعنا لكَ مِن أمْوالنا حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد مُلْكا مَلَّكْنَاك علينا، وإن كنت تريد نِسَاءا زَوَّجْناك مِن خِيرة بناتنا، وإن كنت مريضا طلبنا لك المَشَافيَ حتى تُشْفَى ..

قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو واثق من نفسه،  وواثق مِن ربِّه، وواثق من دعوته، فهي ليست قابلة للتبديل بشهوات الدنيا .. "يا أبا الوليد، استَمِع إلى قول الله تعالى، فَتَلَى صلى الله عليه وسلم عليه ما تيَسّر من سورة فُصِّلت : ( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب ‏فُصِّلت آياتُه قُرآنا عربيّا لقَوْم يعلمون بَشِيرا ونَذيرا فأعرَض أكثرُهم فهم لا يسمعون وقالوا قُلوبُنا في أَكِنَّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْر ومِن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إليّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه ووَيْلٌ للمشركين الذين لا يُؤْتون الزكاةَ وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجْرٌ غير مَمْنُون أإنكم لتكفرون بالذي خَلَقَ الأرضَ في يومين ‏وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسِيَ من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءٌ للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دُخان فقال لها وللأرض إيتيا طَوْعا أو كَرْها قالتا أتينا طائعين فقضاهُن سَبْعَ سماوات في يومين ‏وأوْحَى في كل سَمَاءٍ أمْرَها وزَيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحِفْظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنْذَرْتُكُم صاعِقَة مثل صاعقة عادٍ وثمُود ...) سورة فصلت الآيات(1- )

 

 

فقال الوليد بن المغيرة: " حَسْبُك يا ابن أخي حسبك .." وقد اكتفى بهذه الآيات من سورة فُصِّلت، جوابا له على عَرْضِه، وأصبح على يقين أن محمدا لن يتخلى على دعوته أبدا، مهما كانت المغريات، لأن دعوته - بكل بساطة - ليست نزوة زعامة، ولا رغبة في مطالب الدنيا، وإنما هي دعوة ربانية تبذل فيها الروح، وتُنتزع في سبيلها دَعَة العيش، وطمأنينة وراحة الحياة.

        كان الوليد بن المغيرة أكثر من غيره فصاحة .. يتذوّق اللغة العربية، ويفهمها، وخصوصا وهو يسمعها مِنْ فِي محمد صلى الله عليه وسلم في سورة من القرآن الكريم،

 

ولذلك لم يَحتَجْ لفهم ردِّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيان أكثر من بيان القرآن الكريم ، وبالضبط سورة فصلت، والتي فُصِّلت من لذن الحكيم الخبير.. فكان ردّا شافيا يدلّ على أن هذه دعوة الله ولا يمكن التراجع عنها رغبة في المال أو المُلك أو النساء...

وقد سبق له صلى الله عليه وسلم أنْ ردَّ ردّا مشابها لهذا، حينما جاءه عرض التخلي عن دعوته من عمّه أبي طالب، حيث قال عليه السلام : " والله يا عمّ لَوْ وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في يَسَارِي، على أن أترك هذا الأمر ، ما ترَكته، حتى يُظهروه الله أو أهْلِك دُونَه".

         وكأن الوليد بن المغيرة اقتنع بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا هُوجِم بعد ذلك من صناديد قريش – وعلى رأسهم أبو جهل – لكنه في الحقيقة إنما كان مُتَعَقِّلا، يربط بين الأسباب والمسببات، فوجد من خلال هذه المعطيات التي سمعها من محمد صلى الله عليه وسلم أن نتيجة ما جاء من أجله لن يتحقق، ولا بصيص أمل في تحققه، فرجع إلى حيث ترك زعماء قريش في دار الندوة ينتظرون منه ردّا ..

ومن بعيد، كان أبو جهل، يرى أن الوليد يعود إليهم بغير الوجه الذي ذهب به، خائبا ليس عليه حماس ما ذهب من أجله، فقال: " لقد رجع أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ..."  ولم يصبر حتى يستوي الوليد بن المغيرة في مقعده حتى تعجّله سائلا إياه: " ماذا وراءك يا أبا الوليد .." فقال الوليد بن المغيرة : " يا قوم.. إنّ ما سَمِعْتُهُ من محمد ليس بشعر، فأنا أعْرَفُكم بالشعر.. –وقد سبق أن اُتهم النبي صلي عليه وسلم بأنه شاعر- وإنّ ‏الذي يقوله محمد ليس بسِحْر، فأنا أعْرَفكُم بسَجْع الكُهّان ..- وقد اُتهم عليه السلام بأنه ساحر- وإنّ الذي يقوله محمد ليس من كلام البشر.. إنّ الذي يقوله محمد، أسفَله مُغْذِق، وأعلاه مُورِقْ ، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ..."

فما كان من أبي جهل إلا أن اتهم الوليد بن المغيرة بأنه صَبَأ عن دين أجداده إلى دين محمد.. وما كان للوليد بن المغيرة إلا أن أجاب بنفي ذلك، حتى لا يسقط في أعين المشركين، وحتى لا تتأثر سُمْعتُه بينهم، وكانوا يجعلون له مكانة بينهم وهو على شركه.

         تلك شهادة الوليد بن المغيرة بعُلُوّ القرآن الكريم، وتميزه عن كلام البشر، وقد كان في زمرة أعداء القرآن الكريم .. والحق ما شهدت به الأعداء.

         والقرآن الكريم لا يحتاج في نفسه إلى هذه الشهادات، وإنما هي تسلية، وبيان لحقيقته لكل مَن كان على قلبه غبش، وعلى عينه غشاوة، لم يدرك معها عُلوّ القرآن الكريم دون الحاجة إلى شهادة الشهود، أما المؤمنون الذين يؤمنون بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فلا حاجة لهم في أية شهادة، لأن القرآن بالنسبة لهم شاهد وليس مشهودا عليه.

         كما سجل التاريخ شهادات لمستشرقين ينتمون إلى جهات كَنّت العداءَ للقرآن الكريم والدعوة الإسلامية بصفة عامة..

 فهذا "فولتير" يقول في حق القرآن الكريم : " أنه على يقين انه  لو عُرض القرآن والإنجيل على شخص غير مُتديِّن لاختار الأول، لأن الكتاب الذي أُنْزِل على صدر محمد صلى الله عليه وسلم يَعْرِض في ظاهره أفكارا تنطبق بالمقدار اللازم ‏مع الأسس العقلية، ولعله لم يُوضَع قانون كامل في الطلاق مثل الذي وضعه القرآن ..."

         ويقول الفيلسوف الفرنسي "رِنان" : "  كلما أُحِسّ بالإجهاد وأردْت أن تفتح لي أبواب المعاني والكمالات ، طالعت القرآن، حيث لا أُحسّ بالتعب، أو الملل بمتابعته بكثرة .. لو أراد أحد أن يعتقد بكتاب نزل من السماء، فإن ذلك الكتاب هو القرآن لا غير.. إن الكتب الأخرى ليست لها خصائص مثل خصائص القرآن ..."

         وقال الطبيب الفرنسي "موريس بكاي" : " قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب الوحيد الذي يضطر  بالمثقف  بالعلوم  العصرية أن يؤمن بأنه من الله لا يزيد حرفا ولا ينقص ..."

         ومن ألمانيا تقول المستشرقة " أنا مريا شميل" : " القرآن هو كلمة الله، موحاة بلسان عربي مبين، وترجمته تتجاوز المستوى السطحي.. فمن ذا الذي يستطيع تصوير جمال كلمة بأي لغة..."

وقال الإنجليزي " ادموند بيرك " : " كلما ندقق في القرآن، نرى كماله، وعلوه، يجذب المرء أولا ثم جوهره، ويحيِّره، ويجعله شغوفا به، يجبر المرء على احترامه، وبذلك ترى تأثيره في الأعماق ..."

ويقول الباحث الأمريكي " مايكل هارت ..." " لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بقي بحروفه كاملا دون تحوير سوى القرآن الكريم ..."

وقال الروائي والمفكر " ليو تو لستوي" : "  سوف تسود شريعة القرآن العالم لتوافقها وأنسجامها مع القرآن والحكمة ..."

         وقال القائد الفرنسي " نابليون بونابارت" : " آمل أن الوقت ليس بعيدا عندما سأكون قادرا على توحيد جميع الحكماء والمتعلمين من جميع البلدان، وإقامة نظام موحد على أساس مبادئ القرآن الكريم، التي هي حقيقة وحدها التي تؤدي  للسعادة ..."

            وإذا تحدثنا عن سورة يوسف نجدها تبتدئ بالحديث عن القرآن الكريم و الذي هو الطرف الذي جاءت فيه قصة يوسف،  ‏والتي وصفها الحق سبحانه بأنها أحسن القصص على الإطلاق ، بلسان عربي مبين ، وليختمها سبحانه بالحديث عن الغاية من القصة التي ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ليعرفها لولا أن عرفه إياها ربّه سبحانه، تسلية وتذكيرا بالرسل الذين سبقوه، وما لقيهم من عقبات، ومِحن، حتى إذا ما تسلل اليأس، والضعف إلى بعضهم، جاءهم نصر الله تعالى.

‏وفي ثنايا ذلك، يحدد الله تعالى الغاية من القصص القرآني عموما، الا وهو العبرة، واكتشاف أسرار سنة الله تعالى في خلقه، لكن هذه الأسرار وتلك العبر، لا يدركها إلا أولو الألباب من عباد الله تعالى، حيث يقفون على أن كُلّ الذي جاء في القرآن الكريم، لم يكن افتراء، ولا  ادعاءا، وإنما هو وحي من الله تعالى، يُصدق بما سبقه من كتب سماوية أنزلها الله تعالى على عباده، وهو هداية ورحمة لمن ‏آمن وصدّق به.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمان الرحيم

الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذيب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُو أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

 

يدور هذا الجزء من السورة على الحياة الأسرية لسيدنا يوسف عليه السلام عليه السلام، وهو بين أبويه وإخوانه الذين ضجروا من كون أبيهم سيدنا يعقوب عليه السلام كان يحب يوسف وأخاه بنيامين أكثر من باقي أولاده الشيء الذي كان وراء هؤلاء الإخوة حين دفعهم الحسد والغيرة إلى التفكير في تحييد يوسف عليه السلام من طريقهم حتى يخل لهم وجه أبيهم ولا يحول بينهم وبين أبيهم حائل...

نجحوا في إقناع سيدنا يعقوب في السماح لهم بأخذ يوسف عليه السلام معهم إلى البراري حيث ينفردون به ولا يمنعهم مانع من تنفيذ ما خططوا له في أمر يوسف.. وأجمعوا أن يلقوا يوسف في غيابات البئر بعد اعترض أحدهم على قتله مقترحا بدل ذلك إلقاءه في البئر يلتقطه غيرهم ويبعدوه عنهم وعن أبيه.. وحتى يثق أبوهم أنه لا يد لهم في التفريط بيوسف جاءوا في المساء يبكون أو يتباكون متهمين الذئب بأكل يوسف في غفلة منهم.. لكن أباهم لم يصدقهم، واتهمهم باتباع أهوائهم وأنفسهم.. ولجأ إلى الصبر انحناءا لقدر الله تعالى، وامتثالا لقضاءه...

وتماشيا مع تقدير الله تعالى جاءت سيارة لتنقذه من البئر، وتنقله إلى حيث يكون له شأن عظيم في جهة أخرى من الأرض...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ )(1)

‏قال تعالى: " ألر" كعادة السور القرآنية التي ابتدأت بالحروف المقطعة من مثل "ألم" و" ق" و"ص" و "ن" و "حم" و "طس" و " طسم" ... ألخ فإن سورة يوسف ابتدأت بهذه الحروف"ألر"  وقيل عنها في كثير من التفاسير أنها مما لا يَعرِف معناها إلا الله تعالى، وقد تكون كذلك، لكن آخرين  قالوا إن معناها يدخل في تحدي الكافرين والمنكرين لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبكيتهم، قائلا لهم : إن القرآن الكريم هو هذه الحروف الهجائية ، وأنتم أيها المكذِّبون، الجاحدون تملكون هذه الحروف ، بل أنتم أرباب الفصاحة وسادة القول، حتى أنكم تتبارون في ذلك شعرا ونثرا، وتجعلون لمن ثبت رسوخ قدمه في ذلك مراتب عالية، فاتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين في تكذيبكم، قال تعالى: ( قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا...)

 أو أتوا بعشر سور من مثله، وقال سبحانه: ( أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا الله فهل أنتم مُسلمون...)( سورة هود الآية: 13-14)

 أو أتوا بسورة من مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . قال تعالى: ( ... وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي أعدت للكافرين...)(سورة البقرة الآية: 25)

لكن وعبر القرون التي انصرمت  بعد نزول القرآن الكريم، لم يستطع أحد أن يأتي بمثل آية من القرآن الكريم .. ولو كان بمقدور أحدهم أن يفعل ذلك لفعل، لأن عداءهم للقرآن الكريم بيِّن لا يحتاج إلى دليل .

فهذه الحروف في بداية السورة، وفي بداية كل سورة هي تذكير بهذا التحدي، خصوصا وأن الله تعالى يردفها بقوله : " (تلك آيات الكتاب الحكيم)، أي أن هذه الحروف هي آيات القرآن الكريم المتصف بالحكمة والمنزل بها .

 

 

 

 

 

( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)(2)

إن نزول القرآن الكريم باللغة العربية، رحمة بالعرب، وإكرام لهم، ولطف بهم. وكان لزاما أنْ يُذكِّر سبحانه العربَ بهذه النِّعْمة، لأن العرب المُنْعَمِ عليهم، هم الذين كفروا بالقرآن وجحدوا بآياته، وأنكروه، رغم أنه جاء بلسانهم، يدركون معانيه، ويفهمون مراده...

 

( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كُنتَ مِنْ قَبلِه لَمِنَ الغافلين )(3)

         يَمُنُّ الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إخباره بهذه القصة العجيبة، التي وصفها بأنها من أحسن القصص على الإطلاق، سواء أتعلق الأمر بقصص القرآن، أو سائر القصص في غير القرآن- فلله المِنّة جميعا- لِمَا اجتمع فيها مما تفرق في غيرها من كل شيء: اجتماعي، واقتصادي، ووجداني، وتربوي.. واجتماعي يتعلق بحال إخوة يوسف، وحسدهم له،  والرق والعبودية، والسجن والرؤى والأحلام، والقتل والصلب والخمر، والرفع والخفض، والصدق والكذب، والجمال والعشق، والتمكين والملك...

         واقتصادي يتعلق بتدبير الثروات الزراعية في زمن القحط والجفاف، والقرض والصدقة، والكيل والميرة، والبضاعة والمتاع...

         وما يتعلق بالوجدان والقلب، ورغبة الرجال في النساء، ورغبة النساء في الرجال، والخيانة والوفاء، والاحتيال والصدق، والمراودة والغيرة... والله تعالى من وراء الكلّ، محيط سبحانه بكل شيء.

         وما كنت يا محمد لتعرف هذه القصة لولا فضل الله عليك وعلى أمتك، إذ كان قصها عليك نعمة مما حبا ك الله تعالى به من الخيرات في القرآن الكريم الزاخر بأفضال الله عليك.

 

( إذ قال يوسف لأبيه يا أبتي إني رأيت أحدَ عَشَرَ كوكبا والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهُمْ لِي ساجدين )(4)

         نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، عليهم وعلى نبينا السلام، النبي بن النبي، من سلالة الأنبياء يرى رؤيا في المنام تُلخِّص مجمل حياته في مستقبل أيامه.

         ومما يثير الانتباه في رؤيا نبي الله يوسف عليه السلام، من أن الكواكب الإحدى عشر ومعهم الشمس والقمر، رآهم له ساجدين، والسجود كما عرفناه هو الانحناء بتدلل أمام

 

 

المُطاع أو المعبود، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، هو كيف كان سجود الكواكب، وهي في الغالب مكورة الشكل، لا يستقيم لها انحناء ولا سجود.

         لا شك أن سجود هذه الكواكب كما رآها يوسف عليه السلام، هو سجود حقيقي، لكننا لا نعرف كيفه.. وقد يلهم الله تعالى نبيّه عليه السلام ما يُفهِمه أنها ساجدة بشكل من الأشكال، فهو سبحانه الذي أنطق كل شيء، وهو كذلك يُسجد كل شيء...

         وكأي طفل يرى في أبيه الحماية، والعلم، والحكمة، يخبر يوسف عليه السلام سيدنا يعقوب عليه السلام بما رآه في المنام. ولأن سيدنا يعقوب كان نبيا يأتيه الخبر من السماء (وإنه لذو علم لما علمناه) عرف حقيقة هذه الرؤيا، وحذر يوسف من أن يخبر بها إخوته أو أحدهم، لأن هذه الرؤيا توحي بأنها تخص يوسف وإخوانه، وتعبِّر عن تفوُّقه وتميُّزه عليهم.

(قال يا بني لا تقصص رُؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيْدا إنَّ الشيطانَ للإنسان عدوٌّ مبين)(5)

         لقد رأى سيدنا يعقوب في أبنائه ما يدلّ على حسدهم لأخيهم يوسف، قبل اطلاعهم على الرؤيا، فكيف إذا اطلعوا عليها، وعرفوا مغزاها.. فنصح يوسف بإخفاء أمرها عليهم ..

توقع سيدنا يعقوب أنّ الحسدَ يمكن أن يدفع بالإخوة إلى الإضرار بأخيهم، وكان صَبِيّا لا يستطيع دفع الضرر عن نفسه، خصوصا وأن الشيطان العدو البَيِّن العداوة للإنسان عموما، يتحيَّن الفُرَصَ كَيْ يُوغِر صدور إخوة يوسف عليه..

 والشيطان وذريته ليس لهم همّ في هذه الدنيا سوى إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، ودفعهم لقتل بعضهم لبعض، وغوايتهم، وصدِّهم عن طاعة ربهم.. كل ذلك يحصل منهم للفوز بالتحدي، الذي أخذوه على أنفسهم - في شخص إبليس- يوم قال وهو في الملأ الأعلى: (...قال ما منعك أن تسجد إذ أمرتك أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (سورة الأعراف الآية: 11)

وقال: (... فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون...) (سورة الحجر الآيات: 30-33)

وقال: ( قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم(15) ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ...)  (سورة الأعراف الآيتان: 15-16)

وقال: ( قال ربِّ بما أغويتني لأُزيِّنن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين (39)إلا عبادك منهم المُخْلَصين...)( سورة الحجر الآية:39-40)

 

فالشيطان  يتشبث بالحياة لغواية الإنسان، والصدِّ عن عبادة الله وعن الصلاة.. والأنبياء عليهم السلام أدرى الناس بحباله، وخداعه، لذلك كان يعقوب عليه السلام مستشعرا أن الشيطان سيشعل حسد الإخوة، ليثير العداوة بينهم، ويزين لبعضهم قتل بعض.

 

( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم )(6)

كذلك اختارك ربك بأن فضّلك على إخوتك، وعلمك من تأويل وتفسير الرؤى والأحلام، ويتم نعمته عليك بالنُبوّة، وعلى إخوتك أبناء يعقوب عليه السلام، شأنهم في ذلك شأن أجدادهم إبراهيم وإسحاق أنبياء الله ورسله، إن ربك عليم بكل شيء، وذلك متعلق باختياره الأنبياء والرسل. حكيم، يضع الأشياء في مواضعها، أي أنه سبحانه يختار من الرسل من هم أهل للرسالة، وأكفاء للتبليغ، فلا يختار سبحانه لتحمل الرسالة من الناس إلا أخيارهم، والحكمة تقتضي ذلك.

 ولذلك قال العلماء " ليس في الإمكان خير مما كان" أي أنه سبحانه ما جعل شيئا ممكنا مخلوقا وكان في الإمكان خير منه، فسبحانه من ربِّ حكيم، حكمته بالغة في الخلق والأمر، ولا يكون ذلك إلا بالحق، سبحانه وتعالى عما يشركون..

والذين يتمنون على الله الأماني بتبديل الحال إلى حال آخر.. إنما يتصورون أن لهم قدرة على التماس الخير لأنفسهم أكثر من اختياره سبحانه ، ولو رضوا بقسمة الله لهم، وفوضوا أمرهم له، وقبلوا اختياره، لكان خيرا لهم.

والإيمان بالله تعالى، واليقين في حكمته، وعدله، يقتضي التصديق والرضا بأنه سبحانه لا يختار من الممكنات إلا أحسنها بالنسبة للعبد، فأحسن الحالات هي ما جعلك سبحانه عليه، وأفضل القُرُبَات إليه سبحانه هي الرضا بما جعلك عليه.. فمَقامُك حيث أقامك...

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين )(7)

         لقد كان في قصة يوسف وإخوته الإحدى عشر عِضاتٌ وعبرٌ للناس عموما، ولمن يسأل عن القصة من العرب من قريش، تحريضا من أهل الكتاب من اليهود، وتعجيزا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعبرة للآباء تجاه أبنائهم، والأبناء تجاه آبائهم، وللإخوة تجاه إخوانهم، صغارا كانوا أو كبارا، وعبرة لكل مَنْ تحمّل مسؤولية ما: مَلِكا أو رئيسا، زوجة أو خادما، أبا كان أو أخا، حاكما أو محكوما... لأن القصة قد أحاطت بكل ما يمكن أن يحصل في حياة الناس.

 

 

( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحْن عصبة )(8)

         قال بعض إخوة يوسف لبعضهم حقيقة ربما شعر بها جميعهم، ألا وهي أن يوسف وشقيقه بنيامين - كما ذكر ذلك بعض المفسرين- أحبّ وأقرب إلى أبينا منا ونحن جماعة قوية نقوم بكل ما يتطلبه بقاء جماعتنا، من حفظ لأمانها، والدفاع عن حوزتها، ورعي أنعامها، وجلب الطعام لها... بينما يوسف وأخوه لا يقويان على شيء من ذلك لأنهما لا يزالان صغيرين، ولذلك تجرؤوا على قول: " إن أبانا لفي ضلال مبين "

         أيّ رجل عاقل يكون حكمه هكذا مع ابنائه؟ فحكمه في نظرهم هو نوع من الضلال والتيه البعيد عن العدل في المحبة تجاه الأبناء.

فلا بد من إيجاد حلّ ينصفنا أمام أبينا، فتحمّس بعضهم وقال:

(أقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يَخْلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين )(9)

         حتى يلتفت إليكم أبوكم، يقترح أخوهم هذا قتل يوسف، أو على الأقل إبعاده عن أبيه في أرض بعيدة، حتى لا يبقى من يحول بينكم وبين أبيكم، فلا يمنعه من حبكم مانع، وبعد كل ذلك، من قتل يوسف والتخلص منه تتوبوا إلى ربكم، وينْصَلِح حالكم.

(قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجبّ يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين )(10)

         قال أحد الإخوة – وقد رقّ ليوسف- لا تقتلوا يوسف،وهو متفق على إبعاده عن وجه أبيه، ولكنه لم يقوى على قتله، فاقترح إلقاءه في البئر، لأنه بذلك يضمن بقاءه حيّا إلى أن تمرّ سيارة أو قافلة مسافرين بالبئر فتُنْقِده منه، ولعل البئر كان معروفا في طريق تمرّ به القوافل للتزوّد بالماء، ولعلّ ذكر " الجُبّ"  مُعرّفا بالألف واللام للعهد قصد به جُبّا مُعيّنا –إن كان لا بدّ من إبعاده فافعلوا به هذا دون قتله، ولعل هذا الأخ هو آخر معارض لقتل يوسف، فبعدها بدا الجميع متفقون على إبعاده، وبقي عليهم أن يتفقوا على خطة تمكنهم من تنفيذ ما اتفقوا عليه.

( قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون )(11)

         وفي صورة الناصح الأمين جاء الإخوة إلى أبيهم يطلبون منه إرسال أخيهم يوسف معهم إلى البراري حيث يكون نشاطهم الاعتيادي في رعي الأنعام، أو الصيد، أو غيره، في صيغة تبدي امتناع سيدنا يعقوب إرسال يوسف معهم، ليقينه بحسدهم له، والذي قد يدفعهم إلى إيذاءه والإضرار به، وكأن الأمر ليس جديدا " مالك لا تأمنا" ونحن إنما نريد النصح له، حرصا منا على مصلحته، مضمرين كيدهم في صدورهم.

 

 

( أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون )(12)

         يا أبانا .. ثق بنا، وأرسله معنا في الغد، كي يستمتع بأكل أطايب الثمار في البراري ويستمتع باللعب، وكل ذلك يدل على صغر سنّ يوسف عندها، لأنه لو كان غير ذلك لتحجّجوا بشيء آخر غير اللعب...

ولا تخشى عليه من أي شيء، فنحن حريصون على حفظه ودفع الشرّ عنه.

 

( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذيب وأنتم عنه غافلون)(13)

         لم يستطع سيدنا يعقوب رفض طلب أبناءه الذهاب بيوسف، رغم إحساسه بالخوف عليه  منهم.. وهم يُجمعون أمرهم لإبعاد يوسف عن أبيه حتى يُنفذوا فيه ما خططوا له، لأن الإخوة كانوا يُسرّون العداوة ليوسف، ويُظهرون المودّة والحرص على مصلحته، ولذلك تحجج سيدنا يعقوب بالخشية من الذئب في حالة انشغال الإخوة وغفلتهم عنه.. ولعلّ الخشية من مهاجمة الذئب، شيئا معروفا لذا الأهالي عند ذاك. وفي هذا دليل آخر على أن يوسف عليه السلام عندها كان صبيا لا يستطيع الدفاع عن نفسه إذا حصل وهاجمه الذئب في حالة غفلة إخوانه.

وإصرارا من الإخوة على بلوغ الهدف، وتنفيذ الخطة الماكرة، قالوا ما يُشعِر الأبَ بالاطمئنان من هذا الخطر، إنهم أقوياء إلى درجة استحالة حصول ذلك، ثم إنهم يحرصون على سلامته.

 

( قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون)(14)

         وحتى يتسنى لهم أخذ يوسف بعيدا عمن يحميه منهم، يُصرون على إبعاد ما يحاول الأب الاعتذار به عن إرسال يوسف الصغير معهم، قائلين ما مفهومه، أنه لا يمكن أن يحدث ما تخشاه، لأننا جماعة قوية، لا يجرؤ الذئب على مهاجمة أخينا في وجودنا.

وكل ذلك كان منهم لبيان أهمية وجودهم، كحُماة ليوسف ولغيره من أفراد العائلة، رغبة منهم في أن يستسلم الأب، ويسلم بإرسال يوسف معهم.

 

( ولما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجبّ وأوحينا إليه لتنبئنهم لأمرهم هذا وهم لا يشعرون)(15)

        

 

وعندما تمّ لهم ما ما خطّطوا من أجل الوصول إليه، وحصلوا على يوسف مُجرّدا مِمّن يحميه، ذهبوا به، وقد أجمعوا على جعله في البئر، فلم يعد بينهم مَن يُعارض ذلك.. وألقَوْه في البئر.. استجابة لمن عارض قتله، لكن الرغبة في قتله وتصفيته ظلت قائمة عند بعضهم، فقد جاء في بعض التفاسير، أنه لما ألقوا يوسف في البئر نادوا عليه باسمه (يوسف) من خلال فوّهة البئر، ليروا هل مات أم لا يزال حيّا، فلما سمع نداءهم ظن أنهم ندموا على ما فعلوه، ويريدون التراجع رحمة منهم به فأجابهم، فعرفوا أنه لا يزال على قيد الحياة.. فجاءوا بحجر كبير وألقوه في البئر لتصفيته والقضاء عليه...

لكن الذي حفظ يوسف لما ألقوه في البئر حفظه مرّة أخرى لما ألقوا عليه الحجر.. ولا نعلم لذلك كيفية، ولكن اليقين أنه ثابتة له المعية: معية الله تعالى الذي أوحى إليه أنه سينبئهم بفعلتهم وهم لا يشعرون

         ولنا أن نتخيّل كيف كان وضع يوسف عليه السلام، وهو لا يزال صبيا، عندما أُلقي في البئر الموحش المظلم.. وعندما ألقيت عليه الصخرة لِصَحْقِه داخله.. وكيف كان حاله من الخوف، والوحدة.. لولا معيّة الله تعالى، الحفيظ والحافظ.. اطمئن يا يوسف ولا تخف .. لسوف تحيى وتخبرهم بفعلتهم هذه وهم غافلون، وكان ذلك أول الغيث بالنسبة له فيما يتعلق بالنبوّة، فأول مرة يوحى فيها له.. وهو في البئر.. إنه عليه السلام ممّن أخلصهم الله تعالى لنفسه.

( وجاءوا أباهم عشاء يبكون)(16)

         كان لابد للإخوة من تبرير يقدّمونه لأبيهم وهم يُمَثِّلون له صورة أنهم أبرياء، يقتلهم الحزن على ما حصل لأخيهم، ولا يَدَ لهم في غيابه.. إلا ما كان من غفلة عنه كانت بسبب انشغالهم بالتباري والتسابق... فجاءوا في نهاية النهار في موعد عودتهم كالعادة يبكون، ويقدمون أنفسهم في ثوب البراءة متهمين الذئب بشيء هو منه براء.

 

( قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذيب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)(17)

         قالوا كاذبين، وهم يبكون، تصديقا لأنفسهم، وإضفاءا للشرعية على كذبتهم: انشغلنا عن يوسف، وكنا قد تركناه عند متاعنا- وهذا دليل آخر على أن يوسف عليه السلام كان صغير السنّ، لم يصل إلى حدّ الانشغال معهم بما ينشغلون به.. لعبا كان أو غيره، فهم يدعون أنه لم يشاركهم السباق الذي يدعون أنه شغلهم عن الذود عن يوسف، وحمايته من الذئب البريء مما يدّعون، ولذلك شاع بين الناس المثل القائل: " بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب".

 

وقد استفادوا في ادعائهم مما تحجّج به سيدنا يعقوب، من أنه يخشى أن يأكله الذئب في حالة انشغالهم عنه،( إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذيب وأنتم عنه غافلون...)،  فقد بَنَوْا كذبهم على ما كان يخشاه أبوهم تلبيسا عليه، وتقديما لأنفسهم بصورة البريء الحزين... وكأنهم استنسخوا ما توقعه أبوهم، وجعلوه عذرا كاذبا يواجهونه به، وبما كانوا يكذبون على نبي الله، وهو ليس بالذي تنطلي عليه الحيل، ومن قبل ذلك كان يوصي يوسف بالحذر من إخوانه، فلا يخبرهم برُؤياه، خوفا من أن يوقع الشيطان بينهم، ويدفع بعضهم إلى الكيد له، فكانت حجتهم داحضة، ومكشوفة، ومهزوزة، حتى أنهم لم يكونوا واثقين مما افتروه وألّفوه، وتوقعوا أن أباهم لن يصدقهم حتى لو كانوا صادقين.

( وجاءوا على قميصه بذم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)(18)

         وتماديا في كذبهم، وتعضيدا له، جاءوا بما يشهد لهم على صدق كذبهم أمام الأب المكلوم بفقد ولده، جاءوا بقميصه، وعليه آثار دماء، هي ليست دماء يوسف عليه السلام، لكن الأب الذي لم يصدق كذبهم، وعلم أنهم لم يستطيعوا الانتصار على أنفسهم، واستجابوا لدعواتها وأوامرها لهم بالسوء، فكادوا ليوسف، وأبعدوه عن أبيه، حسدا من عند أنفسهم، فما كان عليه إلا أن يصبر صبرا جميلا يتناسب مع مقام النبوّة والاصطفاء اللتان كان ينعم بهما، ولذلك كان صبره صبرا جميلا، رغم أن الصبر كلّه جميل، إلا أن هذا الذي وَعَد به يعقوب عليه السلام نفسه، صبر كصبر أيوب، وصبر محمد عليهم السلام جميعا.

ومع الصبر لابد من الاستعانة بالله تعالى، فهو المعين، والولي، والموفِّق لكل شيء، لأن هذا الذي جاء به أبناءه من اتهام الذئب بأكل يوسف، وما نسجوه من الكذب، في صورة القميص الذي عليه دمه، كثير على أب عُرِف بحبه المميّز لهذا الإبن، شيء يجعل قلبه يتفطّر من الحزن والأسى، فكان لزاما عليه أن يستعين بالله تعالى على وصفهم لما حدث.

وقد تكون استعانته بالله تعالى على كذبهم، وهو على يقين أن يوسف حي يرزق، كما علم ذلك من الله تعالى، من خلال رؤيا يوسف عليه السلام، أو من خلال الوحي الذي يأتيه، فهو نبي الله، يأتيه الخبر من السماء...

( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشرى هذا غلام وأسرّوه بضاعة والله عليم بما يعملون)(19)        

         جاء الفرج من الله تعالى ليوسف في شكل قافلة من المسافرين، جاءوا قاصدين إلى البئر للتزود بالماء، فأرسلوا صاحبهم لجلب الماء من هذا البئر الذي كان فيه يوسف، فأدلى دلوه، أي أرسله في البئر لجلب الماء.. وبدل أن يخرج ماء، أخرج غلاما.. وجهه يضيء كضياء القمر.. رغم ما هو فيه من محنة.. وما يلوث جسده من طين وماء مما هو من متلازمات البئر...

 

ففرح به فرحا كبيرا.. ظهر من خلال تعبيره في قوله: ( يا بشري هذا غلام...) وكلمة "البشرى" تُذكر عند الفرحة العارمة، والمفاجئة، والتي لم تكن في الحسبان.

         وقد روى المفسرون أن إخوة يوسف، لم يكونوا بعيدين عن البئر، بل كانوا يتوارون عن الأنظار لما حلّت السيارة بالمكان، إبعادا للشبهة عنهم، وكانوا يتلصصون لمعرفة ما سيجده الوارد حين يُخرج دلوه، وكانوا يتوقعون أن يّخرج ماءا ملوثا بدماء يوسف عليه السلام، لكنهم فوجءوا به يُخرِج الصَّبِيَّ سالما مُعافى .. ويُعلن فَرحتَه به..

فلما كان الأمر كذلك، تقدموا إلى البئر، وقالوا للرجل الذي انتشل يوسف من البئر، إنه عبد لنا، أبَقَ، واختبأ في البئر...

سمع يوسف ادعاءهم لكنه عليه السلام سكت خوفا من أن يقتلوه، وقالوا للرجل، إن كنت تريده فاشتريه منّا، ففعل الرجل دون أن يفكر، خصوصا وأنهم يريدون الخلاص منه بأي ثمن، فلم يطلبوا مقابله الكثير، وقبل هذا وبعده كان الله تعالى يعلم كل أعمالهم السيِّئة السابقة واللاحقة.

( وشروه بثمن بخس دراهم معدودات وكانوا فيه من الزاهدين )(20)

         اكتفى الإخوة - ثمنا ليوسف- من الرجل، أو من أصحاب القافلة، بدراهم معدودات، فلم يكونوا يرغبون فيه، فباعوه بأبخس الأثمان، فأخذه الذي اشتراه فرحا به، لأن هذا الأخير كان يمتهن التجارة، ويعرف تمام المعرفة الربح والخسارة، قبل أن تحدث، فقيمة الفتى تتجاوز ذلك الثمن بكثير.

وقد أخبر السيوطي في تفسير الجلالين أن الثمن الذي أخذه الإخوة مقابل يوسف هو 22 ، درهما، بينما كان ثمن بيعه في سوق مصر هو 20 دينارا وكان المعروف قديما أن الدراهم فضية والدنانير ذهبية، وكل دينار ذهبي يساوي مئات الدراهم الفضية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

 

 

 

( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته  أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )(21)

         بيع يوسف عليه السلام في مصر، عبدا مملوكا، ورغم ما كان يبدو عليه السلام من إهانة الرّقّ والعبودية، إلا أن الله تعالى جعل له من النقمة نعمة عظيمة، في لُفافة نِقْمة أنقدته من كيد إخوته له، ومن شظف العيش والمعاناة، إلى حياة القصور.. خصوصا بعد ما اشتراه عزيز مصر.. ولم يستطع ذلك غيرُه من أهل مصر، لغلاء ثمنه، يقول ابن كثير في تفسيره: "إن ثمن شراء العزيز ليوسف عليه السلام هو 20 دينارا ذهبيا.. الشيء الذي لا يتسنى لغيره.

وكل ذلك تدبير إلهي كان في صالح يوسف عليه السلام، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، إعدادا ليوسف، وعناية به، حتى يُعدُّه إعدادا لتحمل مسؤولية الرسالة والنبوّة.

         وهناك في قصر العزيز، حيث كتب الله تعالى أن ينشأ يوسف، أمر العزيز امرأته بعد أن جاء بيوسف، أن تُكرِم مُقامه في القصر، وذلك أن لا تعامله معاملة العبيد، وتخصص له مكان نومه، وطعامه، وثيابه، وأن تلبس كل ذلك بالكرم له، لعلهما يتخذانه ولدا، أو على الأقل ينفعهما،

وفي الآية إشارة إلى القيمة غير العادية، التي كانت ليوسف في أعين من اشتراه.. حتى وصل به الأمر، إلى احتمال اتخاذه ولدا.. وهذا أمر لا يكون عادة لكل عبد مملوك، يرقى إلى أن يكون ولدا لسيده، فيوسف عليه السلام كان من أجمل ما رأت عين العزيز، خِلقة وخُلقا، ولذلك تمنى هذا الأخير لو ينتمي إلى هذا العبد، ولو بالتبنِّي، فيصير له أبا... إنه عبد غير عادي.

         وكذلك كان لطف الله تعالى وكرمه بيوسف عليه السلام، حيث نقله هذه النقلة العجيبة من حال إلى حال، من السوء الذي حلّ به مع إخوته، الذين أجمعوا ماكرين على التخلص منه بإلقائه في ظلمة البئر، ثم ما كان بعد ذلك من كونه أصبح سلعة رخيصة غير مرغوب فيها، إلى أن مكّن الله تعالى له في أن يكون صاحبه الذي اشتراه هو عزيز مصر، فتفتح له قصور مصر، ويعيش عيشة الأمراء في القصور، ثم يصل به الأمر إلى أن يتمنَّى سيِّدُه الذي اشتراه أن يتخذه ولدا.. إنه تمكين الله تعالى لنبيِّه عليه السلام، وإذا أراد شيئا سبحانه فإنما يقول له كن فيكون.

وعَلَّمه ربُّه سبحانه كيف يُفسر الأحلام والرؤى.. وهذه الموهبة التي وهبه الله إياها، مقدمة لعطاء وتمكين كبيرين، سيكون ليوسف عليه السلام بهما شأن عظيم في مصر...

والله تعالى في تمكينه ليوسف ولغيره، غالب على أمره غير مغلوب، حكيم في فعله، بصير بنتائج ذلك، قادر على كل شيء، هو كما وصف نفسه بكل صفات العُلى، وسمى نفسه بأسماء

 

الكمال.. لكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، فلا يقدّرون الله حقّ قدره، حتى إنهم ليعبدون غيره، ويطيعون سواه.. وجهلهم به سبحانه أعطاهم الجُرأة على عصيانه، والتكبّر عليه وعلى عباده، وهو سبحانه خالق هذا الكون، ومدبِّر أمره، مكوِّر الليل على النهار، ورافع السماء بغير عمد ترونها، مُجْري السّحاب، وهازم الأحزاب، الذي يحيي ويميت وإليه ترجعون...

 

( ولما بلغ أشدّه أشده آتيناه حكما وعِلما وكذلك نجزي المحسنين)(22)

         بلغ يوسف عليه السلام أشُدّه، فبدت رجولته، وازداد بذلك جمالا على جماله حين كان صبيا، وزيادة على ذلك آتاه الله تعالى الحكمة والعلم فيكتمل له القبول والكمال، فالعلم والحكمة يزين داخل المرء، وجمال الصورة يزيِّن مظهره، وبذلك يزداد جمالا وبهاءا، وذلك هو عطاء الله تعالى للمحسنين من عباده في الدنيا، وأعدّ لهم في الآخرة ما لا يعلمه إلا هو... فسيدنا يوسف هو مُحسن يُحسن القول والعمل في كلّ حال، شأنه في ذلك شأن المحسنين من إخوانه من الأنبياء والرسل.

 

( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)(23)

         امرأة العزيز لم تستطع مقاومة إغراء جمال يوسف عليه السلام، وضعفت أمامه، فأخلت القصر إلا منهما، فدعته إلى الفاحشة متجاوزة لكل الاعتبارات، وأعدّت لذلك العدّة، فأحكمت إغلاق الأبواب بشكل غير عادي، فلما تأكدت من انفرادها به عليه السلام قالت: "هيت لك" أي هلم إليّ، داعية إيّاه دعوة المرأة للرجل لمباشرتها.

         ويؤكد القرآن الكريم نصّا على أن المرأة هي صاحبة البيت الذي يعيش فيه يوسف، وذلك مشهد يوحي بالكثير من المعاني، منها: اختيار المرأة للمكان والزمان المناسبين، كما أن التخطيط لذلك، قد تكون أخذت لنفسها وقتا، واستعدت لذلك استعدادا ماديا ومعنويا، وكانت قد توقعت منه عليه السلام أن لا يمتنع من دعوتها، وإلا لما أقدمت على فعلتها، إلا أنّ يوسف عليه السلام كان موقفه الشريف هو الامتناع عن ذلك قائلا: " معاذ الله " مستبعدا الوقوع فيما دعت إليه من الفاحشة بالاحتماء بربه واللّجوء إليه، لأن الأمر يتعلق بشرف سيِّده الذي أحسن إليه، وأكرم مُقامه... فالمُحسن يوسف عليه السلام يرى أنه لو خان سيِّده في شرفه إنه إذا لمن الظالمين.. وأي ظلم أكبر من هذا، ولا يفلح الظالمون.

ولعل الحكمة من ذكر الله تعالى لحدث كهذا في القرآن الكريم، وقد حصل داخل الحجرات والمخابئ.. لتعلم أمة القرآن كيفية التعامل مع الإغراءات والشهوات المحرمة،

 

 

وتراقب الله تعالى، الرقيب الذي لا يغفل، ولا ينام، وحتى تأخذ العبرة من قصصهم، فهي ليست حديثا يفترى..

 

( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المُخْلَصِينَ)(24)

لم يقتصر دور امرأة العزيز على دعوة يوسف إلى ما تريد، بل همّت وشرعت في تنفيذ ما أرادت، وهمّ عليه السلام بها استجابة لبشريته، ونوازعه لولا أن رأى من الله تعالى ما يذكره بربِّه، ويحول بينه وبين الفاحشة.

وقيل في ذلك لدا بعض المفسرين، أن يعقوب عليه السلام صُوِّر له أمامه، فذكّره بربِّ، وقد يكون غير ذلك مما يختاره الله تعالى للحيلولة بين عبده ورسوله يوسف عليه السلام وبين الفحشاء والسوء، لأن يوسف عليه السلام هو ممن أخلصهم الله تعالى لنفسه، فلا يتركهم لأهوائهم، ولا لعدوهم الشيطان، ولا لأنفسهم، والنفس أمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

 

( واستبقا الباب وقدَّت قميصه من دُبُر وألفيا سيِّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم)(25)

         فلما رأى يوسف برهان ربِّه، وعاد إليه وعْيُه وذَكَرَ ربّه، وجد في الفِرار إلى الباب مَخْرَجا، فاتجه إليه.. لكن المرأة التي تُصِرّ على ما تريد.. سابقته إلى الباب، محاولة الإمساك به من ثيابه، فمزّقتها من الخلف، وعند الباب.. وجدا زوج المرأة، الذي هو عزيز مصر... ومحاولة منها لإخفاء جُرْمِها أمام مَن تضرّر شرفه.. كان لابد لها من أن تتقمّص دور الضحية.. المجني عليها، خصوصا وأن الزوج سيثأر لشرفه، ويعاقب كلّ من داس عليه، فتُبرِّء المرأة نفسها.. وتتهم يوسف عليه السلام بالتهجّم عليها، والإساءة إليها، محرِّضة زوجها على الانتقام لها من يوسف، ولذلك أضافت نفسها إليه بقولها: " ما جزاء من أراد بأهلك سوءا" ، ومحددة لنوع العقوبة التي يستحقها يوسف على فعلته المزعومة: السجن أو أو العذاب الأليم.. وكل ذلك محض تمثيل، ترجوا من ورائه صرف نظر زوجها عن خيانتها له.

 

( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدّ من قُبُل فصَدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قُدّ من دُبُر فكذبت وهو من الصادقين)(27)

 

 

         لم يبق يوسف عليه السلام ساكتا أمام افتراء المرأة، بل واجهها بالحقيقة، أنها هي التي راودته عن نفسه، ولم يزد عليه السلام كلاما غير ذلك، لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى كثرة الكلام.

وإحقاقا للحق، سخّر الله تعالى ليوسف شاهدا، هو في الأصل من أهل المرأة، فشهد شهادة حكيمة أحقّت الحقّ، وانتصرت ليوسف عليه السلام، وبرّأت ساحته، وبيّنت خطأ المرأة، وأدَانَتْها، وقد قيل أن هذا الشاهد هو صبي نطق في المهد، أنطقه الله الذي أنطق كلّ شيء، وقد يكون الشاهد غير صبي، يتمتع بأهلية الشهادة، والعلم والحكمة، والمكانة لذا العزيز، حتى يقبل شهادته في أمر شخصي كهذا...

وفي الحالتين، سواء أكان الشاهد صبيا، أو رجلا، فقد نطق بالحكمة التي تقصد العدل: إن كان قميصُه قُدَّ، أي تمزّق من الأمام، فهو دلالة على أن يوسف عليه السلام، كان مقبلا على المرأة، يريد بها سوءا، وقد مزّقت قميصه وهي تدفعه عنها...

وإن كان قميصه قُدّ من دُبُر، ففي ذلك إشارة على أن المرأة كانت تلاحق يوسف عليه السلام، وهو مدبر عنها غير مُقبل، فأخذته من قميصه فتمزّق.. لقوّة الجرِّ منهما.. وقوة التفلُّت من يوسف عليه السلام.. فهي كاذبة في ادعائها، وهو عليه السلام صادق في قوله: " هي راودتني عن نفسي".

 

( فلما رأى قميصه قُدّ من دُبُر قال إنه من كَيْدِكُنّ إنّ كَيْدَكُنّ عظيم)(28)

         تأكّد العزيز من براءة يوسف، وتوجّه إلى امرأته مُوبِّخا إياها قائلا: " إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم"، فهو على يقين من أن امرأته هي المُذنبة، وهي كاذبة في ادعائها، وأن يوسف عليه السلام بريء مما اتهم به، وإنما يتعلق بكيد دبرته، وترصدت لبلوغه، كشأن النساء عموما، فكيدهن عظيم، ولا ندري أيكون كيد النساء حقيقة قرآنية يثبتها الله تعالى، أم أن الأمر يتعلق بكلام جَرَى على لسان عزيز مصر.

ومن المفسرين من يقول أن ما جاء في القرآن الكريم، هو حقيقة.. إلا إذا ورد ما ينفيها، ومنهم من يقول، إن أمر كيد النساء إنما هو كلام يحكيه القرآن عن شخص غير مؤمن بالله تعالى، وينطق به في ظرف كان فيه أشدّ غضبا على النساء، ألا وهو لحظة إحساسه بخيانة امرأته له. والله أعلم.

 

( يوسف أعرض عن هذا  واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين)(29)

 

 

         في ظلّ الغضب الذي ألمّ بالعزيز، من جرّاء الواقعة، توجّه إلى يوسف وأمره أن يُعرض عن الخوض في الحديث عما وقع، مع أي كان، تستُّرا على الفضيحة التي تتعلق بعِرْض وشرف عزيز مصر.. رغبة منه أن يبقى ما حصل سرّا لا يخرج إلى الناس..

وبعدها توجه إلى المرأة غاضبا، وقائلا: " استغفري لذنبِكِ " فإنك المذنبة، الخاطئة، والمسؤولة عن كلّ ما حدث...

         وقد يتساءل القارئ عن ردّة فعل العزيز، كيف لها أن تكون محدودة بذلك الشكل، رغم أن الجُرْم الذي اقترفته امرأته كان مُخزيا، وكان يتطلّب موقفا أشدّ من ذلك.. فالقرآن الكريم، لم يُسجِّل أنه أهانها، أو ضَرَبَها، أو طلّقها مثلا.

نقول: إن القرآن الكريم في قصصه، لا يتطرّق إلى كلّ التفاصيل، وقد يكون قد حصل شيء مما ذكرناه، وقد تكون هناك أسباب أخرى جعلت الأمر ينحصر فيما حُصِر فيه...

 

( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تُراوِد فتاها عن نفسه قد شغفها حُبّا إنّا لنراها في ضلال مبين)(30)

         رغم أن العزيز أمر يوسف عليه السلام أن يَكتُم الخبر، ولا يخوض فيه مع غيره، إلا أن الخبر وصل إلى نساء في المدينة، ولعلهن نساء مخصوصات.. هن قريناتها من زوجات الوُزراء، والمستشارين، وقادة الجيش، ونساء الكهنة ورجال الدين.. ونساء المُقرّبين إلى القصر...

 ولأن خبر المراودة لم يطّلع عليه إلا أربعة هم: سيدنا يوسف عليه السلام، وامرأة العزيز، والعزيز، والشاهد.. وهذا الأخير إن كان كما قالت الروايات أنه صبي أنطقه الله في المهد فلن يكون تسريب الخبر من قِبَلِه، فيبقى الخبر بين الثلاثة المذكورين...

ويبقى السؤال : من الذي قام بتسريب الخبر خارج القصر.. ولكن المهم أن نبي الله يوسف عليه السلام لا يمكن أن يفعل شيئا من هذا القبيل.

تحدثت النسوة في المدينة، وقُلن كلاما مهينا لامرأة العزيز.. كيف تسمح لنفسها وهي من هي أن تُراود فتاها عن نفسه، لأن هذا الفعل يُسقط من مروءتها، ويمسّ شرفها، وشرف زوجها، وقد ورد في الحبر أن هِنْدا زوجة أبي سفيان عندما بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يزنين قالت مُستَغْرِبة : " أوَ تزني الحرّة.. أي أن الزنى فيه حطّ من قدر الشريفة، وذلك ما رأته النسوة في المدينة في امرأة العزيز مع فتاها، قد أحبته حتى وصل الأمر شغاف قلبها، وفي التعبير، سخرية، واستهزاء من سقوط المرأة إلى هذا المستوى.

 

 

إن ما فعلته هذه المرأة لا يتناسب مع مستواها الاجتماعي، ومستوى زوجها.. فقد سوّدت وجهه، وأساءت إليه.. إنها في الأول والخير في ضلال مبين، قد فعلت ما لا يليق بها.. فِعل لا ينطبق عليه إلا وصف الضلال الواضح للجميع.

 

( ولما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأَعْتَدَت لهن متّكأ وآتت كلّ واحدة منهن سكِّينا وقالت أخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيدهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)(31)

         امرأة العزيز بلغها أن نسوة في المدينة ممن لهن صلة بها، من نساء الوزراء، وقادة الجيش، والمستشارين، سمعت أنهن يَعِبْن عليها فِعْلها مع فتاها.. فكان لزاما عليها أن تثْأَر لنفسها منهن، وتردّ على ذلك بما يحفظ كرامتها.. في نظرها...

لكن كيف ذلك؟ وهي على علم بأن ما فعلته... أمر معيب، لا تجد صاحبته ما تردّ به مكرهن.. إذا.. فلا بدّ - على الأقلّ - من تبرير فعلها ذلك.. فماذا تفعل؟

 ترسل إليهن.. لِيَرَيْن بأعينهن سِحرَ جمال هذا الذي يَلُمْنَهَا فيه، لعلّ هذه الحركة تشفع لها عندهن.

         فأرسلت إليهن، وأعدّت لهن مجلسا، وضيّفتهن من المأكل والمشرب بما يليق بمقامها كزوجة لعزيز مصر، ويليق وبِهِنَّ كزوجات لأعيان البلد، وكان ضمن ما قدمته لهن سكين لكل واحدة منهن.. تفرضه نوع المأكل الذي قدمته لهن.. وقالت ليوسف عليه السلام: أخرج عليهن..

وقد جاءت عبارة " أخرج عليهن" مُفهمة أن خروج يوسف على النسوة، هو المرجو من كل التفاصيل الأخرى، كانت المرأة تبتغي تبرير مراودتها ليوسف عن نفسه، وتأمل بجدّ أن تغيِّر جلّهن أو كلّهن رأيهن الذي رأينه من قبل فيها بعد رؤية جمال يوسف عليه السلام الباهر، الذي لا يُقاوم...

فلما خرج عليه السلام - كما خططت لذلك، من المكان الذي كانت قد أبقته فيه، استعدادا لمفاجأة النسوة- دُهِشن لجماله، وفَقَدْن التركيز، والاحتياط لحدة السكاكين، التي كانت بأيديهن، فقطّعن أيديهن، مذهولات أمام ما رأينه من جمال هذا الفتى، وقلن ما مفاده أن هذا الجمال لا ينبغي لبشر، وإنما قد يكون مَلَكا كريما.. لأنهن جميعهن لم يسبق لهن أن رأين جمالا كجماله في بشر قط.

وقد روي أن يوسف عليه السلام أوتي شطر جمال الدنيا، وأن معجزة نبوّته كانت هي جماله، إلى جانب قدرته على تأويل الأحاديث...

 

( قالت فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين)(32)

         تحقق لامرأة العزيز ما كانت تصبو إليه، فالنسوة اللاتي تحدّثن بمكر، يسيء إلى سمعة امرأة العزيز قد غيّرن رأيهن فيما فعلت، ووجدت كلّ واحدة منهن لها تبريرا لما فعلت، لأن الفتي المعني أجمل مما كنّ يتصورن، بل أكثر من ذلك، فهو ملك كريم...

سارعت امرأة العزيز لجني ثمرة ما وصل إليه هذا الجمع، أمام إعجاب النسوة بجمال يوسف عليه السلام، الشيء الذي جعلها تُفْصِح عن مكنون صدرها، وتخبرهن دون خجل، أنها راودته عن نفسه، وستستمرّ في مراودته عن نفسه إلى أن تنال مُرادَها، ولئن لم يستجب لها، ستعاقبه.. إما بأن يُسْجن، أو يُعذّب عذابا أليما ومُهينا...

ولعلّ النسوة هذه المرّة، لم يكن لهن اعتراض ولا لوم، بل أشّرن على ذلك، وأصبحن شريكات لها في المراودة، ولم يعد بينهن مَنْ تَعِيب عليها فِعلها، بل خُضن معها فيما خاضت فيه، ولعلّ ذلك ما سيفصح عنه يوسف عليه السلام عندما قال:

 

( قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنِّي كَيْدَهُن أصْبُ إليهنّ وأكن من الجاهلين)(33)

         فضّل يوسف عليه السلام السجن على أن يستجيب لدعوتهن، والاستجابة لهن تعني إغضاب ربِّه، الذي طالما أكرمه، وأحسن إليه، فلم تعد امرأة العزيز وحدها في جريمة مراودة يوسف، بل كانت دعوته إلى الفاحشة منهن جميعا.. ولم يكن يوسف عليه السلام ليختار السجن عن الاستجابة لهن إلا لأنه سمع قولها لهن : " لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن..."

فهو عليه السلام بعد أن رأى برهان ربه بعد المراودة الأولى، لم يعد في الاحتمال أن يستجيب لدعوة النسوة إلى الفاحشة، شأنه عليه السلام شأن كلّ من عرف الحقّ معرفة لا تقبل الشك.. فإنه يلتزم به، مهما كانت النتائج.. فقد عُرِضت الدنيا بكل مباهجها على نبينا صلى الله عليه وسلم: المال، والملك والنساء مقابل تخلِّيه عن دعوته، فقال قولته الشهيرة: " والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهْلِك دونه.."

وكذلك التزم يوسف عليه السلام بالحقّ، حتى وإن كانت النتيجة هي غربة السجن ، وأهواله ووحدته.

" وإلا تصرف عنِّي كيهنّ أصْبُ إليهن وأكن من الجاهلين " هذه الصيغة  هي دعاء وتضرّع إلى الله تعالى، وشكوى له سبحانه بضعف قوّته، وقلّة حيلته أمام كيدهن، وتوجه إليه سبحانه كي يصرف عنه كيدهن، بما شاء، وكيف شاء، فإنه سبحانه يقدر على ما عجز عنه

 

هو، إنه على كل شيء قدير.. وإلا سيستجيب إليهن فيما دعونه إليه، ويميل إلى جانبهن مُكْرَها، وعندها يكون من الجاهلين.      

ويوسف عليه السلام بشرٌ، يجري عليه ما يجري على البشر، من ضعف في أمور النساء، فقد قال سبحانه في سورة النساء: " ... وخُلِق الإنسان ضعيفا ..." يكاد يُجمِع المفسرون على أن ضعف الإنسان في هذه الآية يُراد به ضُعفه في أمور النساء.. ولعلمه عليه السلام بهذا الضعف، فهو يستعين بالقويّ الذي لا يُعجزه شيء، ويسألُه أن يَصرفه عنهن، ويصرف عنه كيدهن، حتى لا يصل به الأمر إلى الميل لهن، والاستجابة لدعوتهن..

 

( فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)(34)

         الله تعالى يُجيب كلّ داع، ويعطي كلّ سائل، ويغفر لكل مستغفر.. فكيف به إذا كان الداعي هو سيدنا يوسف عليه السلام، المُخلَص الذي أخلصه سبحانه لنفسه، فقد قال سبحانه: " أدعوني أستجب لكم..." وقال أيضا: " وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني..."

استجاب سبحانه لنبيِّه يوسف عليه السلام، فصرف عنه كيد النسوة، بما شاء، وكيف شاء، لأنه سبحانه، سميع لكلّ شيء مما يتعلق بكيد النسوة، فهو سبحانه عليم بكيدهن، وتآمرهن، وهو عليم، وقادر على صرفهن عن يوسف عليه السلام.

فسمع الله تعالى عام يشمل كل المسموعات، وعلمه يشمل كل شيء، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، كما لا يطرأ على علمه وهمٌ ولا نسيانٌ، ولا زيادة ولا نقصان... قال سبحانه: " يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور..."

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ

 

حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

       خيّم على هذا الجزء من السورة،صور العقوبة، التي ارتأى خصوم سيدنا يوسف عليه السلام، عقابه بها، جزاء على عدم استجابته لما دعوه إليه من الفاحشة.. وكان ذلك هو دخوله السجن.. ودخل السجن كذلك، فتيان في نفس الآونة التي دخل فيها.. ولعلها كانا معه في نفس الزنزانة.. الشيء الذي يجعلهما يتقربان إليه، ويجرءان على إخباره بما رأياه في المنام لما رأوه من المحسنين...

فكّ يوسف عليه السلام، ما رأياه..  وأكد لهما أنه قادر على أن أن ينبئها بكل رؤيا أخرى حدثت لهما.. وكان ذلك ما علق بذهن الذي نجا منهما فاذكر لما رأى الملك رؤياه العجيبة التي تعلقت بمصير مصر والمصريين، ولما عجز عن تفسيرها المفسرون من المقربين للملك.. فكان ذلك مبدأ صعود نجم يوسف عليه السلام كما أراد الله تعالى له.. كان ذلك لما لجأ ساقي الملك إلى يوسف يُخبره بأن الملك رأى في المنام سبع بقرات سِمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سُنبلات خُضر وأُخر يابسات...

أخبر يوسف عليه السلام الرجل بتفسير الرؤيا.. الشيء الذي جعل الملك لما اطلع على تفسيرها، بأن يطلب إحضاره إليه كي يتخذه لنفسه، ويستفيد من علمه، وحكمته...

لكن يوسف عليه السلام أبى أن يخرج من السجن دون أن تثبت براءته مما اتهم به، وكان سببا في سجنه.. فقال لرسول الملك إليه: ارجع إلى سيدك فقل له ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، إشارة منه عليه السلام لفتح ملف القضية من جديد، ومعرفة ملابسات القضية التي ظلم فيها، وسُجن وهو بريء...

لم يتأخر الملك في فتح تحقيق في القضية.. وإحضار الأشخاص المتهمين فيها.. فالملك كان مهتما كثيرا بمعرفة الحقيقة، لأنها تخصّ رجلا هو في أمس الحاجة إليه.. ألا وهو الحكيم الذي عرف ما لم يعرفه غيره.. وفعل ما لم يفعله غيره.

لما سأل النسوة المعنيات بالأمر ما بالكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.. أجبن أنهن ما عرفن عن يوسف من سوء.. ولما كادت الحقيقة، وأوشكت أن تظهر، اعترفت امرأة العزيز بأنها هي التي راودته عن نفسه.. وإنه لمن الصادقين.. عندئذ قبل يوسف عليه السلام الخروج من السجن لأنه لا معنى لأن يكون طليقا في مجتمع يرى الناس فيه أنه صاحب تاريخ ملطخ.. مليء بالإتهامات.. وكيف له أن يدعو الناس إلى فكرة في هذه الحالة ...

 

 

 ( ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنُنَّه حتى حين)(35)

         تلا ما كان من أمر النساء من حملة مسعورة تتعلق بمراودة يوسف عليه السلام عن نفسه أن استقرّ أمرهن على أن يسجنوه، خصوصا بعد أن  بدا لهن ما يدلّ على أنه لن يستجيب لأمرهن، أو بعد ما ظهرت العلامات على أنه بريء مما اتهم به.. وكلّ ذلك كان إبعادا له من المشهد إلى أن تهدأ زوبعة مراودته عن نفسه من قِبَل امرأة العزيز...

 

( ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين)(36)

         قدّر الله تعالى أن يكون دخول يوسف عليه السلام إلى السجن متزامنا مع دخول فتيان، روي أنهما كانا يعملان في قصر الملك، كان أحدهما يعمل طباخا، والثاني كانت مهمته هي سقي الملك.. شأنه في ذلك شأن كل جبّار متكبِّر، يأنف من أن يسقي نفسه بنفسه.

اتهم الفتيان بمحاولة قتل الملك بالسمّ.. وكانا قد رأيا في المنام وهما في السجن أن أحدهما يسقي ربّه خمرا، ورأى الثاني أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه..  فوجدوا في يوسف عليه السلام المحسن الذي يستطيع تفسير ما رأياه في المنام: " إنا نراك من المحسنين..."

السؤال هو كيف عرف الفتيان أن يوسف عليه السلام من المحسنين..

لاشكّ أن زنزانة السجن التي جمعت كلا من يوسف عليه السلام والفتيان كانت محدودة الأبعاد، تمكِّن بعضهم من مراقبة بعض، ويلازم فيها السجين زميله في الليل والنهار.. وكل ذلك يجعل الواحد منهم رقيب على صاحبه، في كلامه، وفي فعله، وفي نفسه وأخلاقه... ومن كل ذلك عرف الفتيان أنه عليه السلام محسن يحسن الكلام والصمت، ويحسن الفعل والقول، ومحسن في كل شيء، فشهدا له بالإحسان عملا بما رأته أعينهما: " إنا نراك من المحسنين..." فاطمأنا له، ووثقا في أمانته وصدقه، وحكيا له ما رأياه في المنام.

 

( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربِّي إني تركت مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون)(37)

         ردّ يوسف عليه السلام على طلب الفَتَيان في أمر تأويل رؤياهما بالقبول، ووعدهما أنه يُؤَوِّل لهما الرؤى كلما رأياها مستقبلا، ولا يفوت عليه السلام هذه الفرصة ويبلغهما دعوته، وأنه عليه السلام قد علّمه ربه ذلك.. ويعرفهما بدينه ودين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، دين التوحيد، ويخبرهما أنه ترك ما يعبده الآخرون من معبودات مختلفة ليست في

 

حقيقتها إلا أسماء افتروها وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان، بينما يكون المعبود الحقّ هو الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد.

         ولعلّ يوسف عليه السلام، لم تتح له الفرصة من قبل ليُعرِّف بدينه، لكن بعد أن احتاج إليه الفتيان، واضطرا معا إليه، ليُؤَوِّل رؤياهما، عندما بدا لهما أنه من المحسنين، حيث كان يحسن القول والعمل، ورأوا فيه الإحسان والاستقامة، والتعقل، وكل ما يدلّ على صدق المَخْبر من خلال صدق المظهر.. عندها رأى أن الوقت مناسب ليعرض عليهما دعوته التي تنشد توحيد الله تعالى، ولم يتأخر في ذلك، حيث كان الفتيان مُصغيان له، ينتظران بلهفة ما يتلفّظ به.

 

( واتبعتُ مِلَّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نُشرك بالله مِن شيء ذلك مِن فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)(38)

         لا زال يوسف عليه السلام يُعرِّف بنفسه وأجداده، وبعقيدته عقيدة التوحيد التي لا بديل عنها أبدا.

وعبارة : " ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء" تعني أن الشرك ليس له مدخل واحد، ولا مَظهر مخصوص، بل هناك عدة أوجه له، فهناك ما يسمى بالشرك الجلي، والشرك الخفي.. فعند الحديث عن الجلي يمكن أن يكون في شكل اتِّخاذ معبود آخر من غير الله تعالى المعبود

بالحق، والإله الحقّ، كما يفعل المشركون من عُبَّاد النار، وعباد الكواكب، وعُبَّاد الأوثان من البقر والشجر والحَجَر...

وهناك مَن يشرك مع الله هَوَى يَتَّبِعُه.. وهو أخطر أنواع الشرك، حيث يقوم على ترك أمر الله تعالى ونهيه، واتِّبَاع ما تمليه عليه نفسه، رغبة في المصلحة المُتَوَقَّعة والشهوة المُتَّبعة.

أما الشرك الخفي الذي حذّر النبي صلى الله عليه وسلم منه فيُقصَد به القيام بالقول أو العمل ليس طلبا لمرضاة الله تعالى، ولكن طلبا لمرضاة الناس.. وعموما حذّر الله تعالى من الشرك في أكثر من موضع في القرآن الكريم  قائلا: " إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويَغفِر ما دون ذلك لمن يشاء..."

         وكيف ليوسف عليه السلام وآباؤه الأنبياء الصالحون، أن يتخذوا من دون الله رَبّا، وقد اختارهم الله تعالى مِن خِيرة خَلْقِه في زمانهم، فقد تفضّل سبحانه عليهم، فاصطفى إبراهيم عليه السلام، واتخذه خليلا، ومن ذريته إسحاق، وبعد إسحاق يعقوب، وبعد يعقوب أبناؤه الإثنى عشر، ومنهم يوسف عليهم السلام جميعا، وكان فضل الله عليهم كبيرا، كما هو فضله عام على كلّ الناس، بنبوّة من اختار من الأنبياء والمرسلين، يرشدونهم، ويعملون على هدايتهم، وتذكيرهم...

 

فالناس كانوا لهم تبعا، يهتدون بهديهم، ويستنيرون برسالاتهم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون أي أكثر الناس في زمانه وزمان آبائه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب.. ويستقيم المعنى إن قلنا أكثر الناس على الإطلاق لا ينتبهون إلى شكر الله على نعمه، لأنهم لا يُقدِّرون فضله سبحانه.

         كانت لحظة مخاطبة يوسف عليه السلام للفتيان من أفضل اللحظات التي يضمن فيها إصغاءهما لحديثه، ودعوته، وتدبر كلامه، وأخذه على محمل الجدّ، ولو كان قد توجه لهما بالخطاب قبل ذلك لما وصل خطابه إلى قلوبهم، وكلماته إلى مسامعهم.. ولذلك فإنه من الحكمة في خطاب الآخر، ألا تسابقه بالكلام، بل تصبر عليه حتى إذا انتهى من كلامه، وهو بالضرورة سينتهي منه، ويطلب رأيك، وكلامك، عندها اختر الكلمات، وحدد العبارات، وسدِّد المعاني، وتلطف بالمخاطب، وأوجز، فإنك لا تضمن بقاءه منصتا مع طول الخطاب، ولا متابعا لِما تقول..

ويوسف عليه السلام، نبي الله تعالى، ومعلم للبشرية كغيره من إخوانه الأنبياء والمرسلين: (إنما بعثت معلما).

 

( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهّار )(39)

         يوسف عليه السلام، لما تَمَكَّن مِن أَسْماع وقلوب الفتيان، أراد أن يناقشهما في قضية التوحيد والشرك، حتى يُبلغ ما أُمِر بتبليغه، لأنه رسول الله، فإن لم يفعل فما بلغ رسالاته...

فعمد عليه السلام إلى سؤالهما عن تعدد الأرباب، واختلاف المعبودات.. وبالمقابل الإله الواحد، أيهما خير؟ وأيهما حقّ ؟

وهو سؤال يجعل الفتيان يرجعان إلى نفسيهما للتفكير الحرّ في الأمر، لأنه في أغلب الحالات تجد الناس يعتقدون اعتقاداتهم تقليدا ودون إعمال للفكر، ويصدق القول على الفتيان كذلك، فلعلهما لم يسبق لهما أن طرحا الموضوع بكل جدية، والاحتكام إلى المنطق والعقل الحرّ، وإنما هو تقليد لما وجدوا عليه أجدادهم من قبل، وقد استخدم عليه السلام تعبير: " يا صاحبي السجن " توددا لهما، وتقربا منهما، وذلك أمر مطلوب في تأليف القلوب، ولمِّها، خصوصا وأن يوسف عليه السلام يُعِدّهُما لتقبُّل دعوته...

و معنى ذلك: يا صاحبيَّ في السجن، إعلانا منه عليه السلام، أنهم مُشتركون في كونهم مساجين ليس منهم من هو أفضل من غيره، رغم ما يتفضل به عليه السلام عنهما من علم،  و تأويل للأحاديث، و إحسان في القول و العمل، حتى أنهم شهدوا بذلك .. و هو سؤال لإثارة الانتباه إلى المفارقة بين ما هو حق و ما هو باطل.

 

 

( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(40)

         لا زال يوسف عليه السلام يتوجه إلى الفتيان و يصحح مفهوم العبودية لديهما، فهي وظيفته شأنه شأن كل الأنبياء و المرسلين، بين معبود واحد، و إله واحد، و عبادة أرباب متعددين، كما يفعل الفتيان و قومهما.. إذ يعبدون أربابا متعددين لا تغني عنهم من الله شيئا.

فيخبرهم عليه السلام، أن هذه الأرباب، المعبودة من قِبَلهما و قومهما، لا وجود لها أساسا إلا في أذهانهم، و لا قوة لها، و لا سلطان، فهي لا تنفع و لا تضرّ، و لا تملك حتى لنفسها نفعا و لا ضرّا، إنما هي أسماء سموها هم ومن سبقهم من آباءهم و أجدادهم...

الحاكم الذي يملك الحكم هو الله تعالى، و لا أحد ينازعه في ذلك، لان الخالق الذي خلق، و البارئ الذي صور، و القادر على كل شيء، المميت و المحيي، و الآخذ بنواصي العباد الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض سبحانه و تعالى عما يصفون، و تعالى الله عما يشركون، هو كما وصف نفسه أو وصفه أنبياءه و رسله هو الذي يستحق أن يُعبد، فيجازي على طاعته، و يعاقب على معصيته و هو الغفور الرحيم.

و عبادة الله الذي هو المعبود بالحق، و هو الإله الحق، هو الدين القيم المستقيم، و كل عبادة لغيره سبحانه هي بعيدة عن الصواب، يستحق صاحبها عذاب الله و عقابه. قال الله تعالى :"إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا (115)" سورة النساء

أنه الآمر الناهي، المُوجِد المُحْيِي و المُمِيت...يجهلها كثير من الناس، و قليل من عباد الله الشكور...

 

( يا صاحبي في السجن أما أحدكما فسيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) (44)

بعد أن عرض يوسف عليه السلام أمر دعوته، ووضح عقيدته - العقيدة الصحيحة -  و عرّف بنفسه انه النّبي بن النّبي بن النّبي بن النّبي، توجه مرة أخرى بنفس التودد إلى السجينين:" يا صاحبي السجن" يؤول رؤياهما المتمثلة في أن الأول منهما سيسْقي ربّه خمرا، كما كان يفعل من قبل،  وسيخرج من السجن سالما إلى عمله السابق..

 و أما الآخر فسيُنَفّذ فيه حكم الإعدام صلبا.. و الصلب هو تلك الطريقة التي عرفت من قبل ميلاد المسيح، و نُفِّذت في من شُبِّه بالمسيح، ظنّا منهم أنه المسيح، و هي أن يجعل الشخص حيا على خشبة كبيرة يطرق بالمسامير، في يديه، و رجليه، و يُرفع عاليا، و هو حي.. فتأكل الطير منه، فيموت ببطئ... و قد حرّم الإسلام ذلك.. وحرّم التمثيل بالجثث

 

عامة، و كل ما يدخل في ذلك من أنواع القتل البشعة الغير إنسانية، إلا إذا حُكِم قصاصا، فيُفعل به كما فعل في المجني عليه.

"قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان" أي قُضِيَ أمر تفسير رؤياكما، وانتهى، كما يمكن أن يكون المقصود بكلامه قضاء الله تعالى، وحكمه في أمر الفتيان، لأنه نبي يأتيه الخبر من السماء.

 

( وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذِكر ربِّه فلبث في السجن بضع سنين)(42)

         قال يوسف بعد هذا التأويل، للذي ظن أنه ناج منهما من الموت، اذكر أمر سجني بغير ذنب اقترفته، لسيدك الملك، لعله يخرجني من هذا السجن... لكن هذا الساقي نسي ...

وقيل أن يوسف حينما طلب ذلك من الساقي، حتى يُبلِّغ أمره إلى الملك، كان قد أنساه الشيطان أن يطلب فكّ أسره من الله تعالى، فلما لم يفعل، بقي في السجن بضع سنين، والبضع في العربية تعني، من ثلاثة إلى تسعة.. أي بقي في السجن.. بين ثلاث سنوات، وتسعة سنوات، فقيل لبث في السجن سبع سنين، وقيل اثنى عشر سنة. ولو أن يوسف طلب من ربه مباشرة، وبغير واسطة، لما لبث في السجن تلك المدّة والله أعلم .

 

( وقال الملك إني أرى سبعَ بقرات سِمان يأكلهن سبعٌ عجافٌ وسبعَ سُنبُلات خُضر وأُخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رُأياي إن كنتم للرؤيا تعبرون)(43)

         جاء أمر الله تعالى بخروج يوسف من السجن، وذلك لما رأى الملك رُأياه العجيبة التي عجز على تعبيرها كلّ من سمع بها، وهذه الرؤيا هي أن الملك رأى في منامه  سبع بقرات سمان تسرّ الناظرين، تأكلها سبع بقرات عَجْفاوات، ضعيفات تكاد تهلك من الضعف والنحافة، والجوع، وسبع سنبلات خُضر تلتوي عليها سبع سنبلات يابسات.

هذه الرؤيا أزعجت الملك، وتسلطت على عقله، وكل ذلك ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهو أن يرفع يوسف عليه السلام من براثين السجن إلى مقام الملوك والسادة، ومن جرّاء ذلك كان الملك يُصِرُّ على تفسير رؤياه، ويسأل جلساءه من أجل ذلك، لكن لا أحد منهم استطاع تفسيرها. وهروبا من الإفصاح عن جهلهم وعدم قدرتهم على تفسير الرؤيا قالوا:

 

( قالوا أضغات أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)(44)

         قالوا إن ما رأيتَه مجرد أحلام، وهي ما تُحَدِّث به النفسُ صاحبها في نومه من خلال ما عاشه في يقضته، ثم لسنا عالمين بتفسير هذه الأشياء.

 

( قال الذي نجا منهما واذّكر بعد أمة أنا آتيكم بتأويله فأرسلون) (45)

نتيجة لما رآه ساقي الملك، من إلحاح منه في طلب تفسير رؤياه، و عَجْز جُلسائه عن تلبية طلبه، تذكر أمرَ يوسف عليه السلام في السجن، و قدرته على تأويل الرؤى، كما كان حاله مع رؤياه هو في السجن، فتكلم قائلا:

"أنا آتيكم بتاويله" أي الرؤى "فأرسلون" فاذَن لي أيها الملك أن أذهب إلى حيث آتيكم بتأويل هذه الرؤيا. كان الملك في أمسِّ الحاجة إلى مثل ما يريد الساقي قوله.. فأذن له على الفور.

و طبعا سيذهب إلى السجن حيث يوجد يوسف عليه السلام.

 

( يوسف أيها الصديق أفْتِنا في سبعِ بقرات سمان يأكلهن سبعٌ عجاف و سبعَ سنبلات خُضْر و أُخَرُ يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون)(46)

يذهب الفتى.. الناجي من السجينين إلى حيث يوسف عليه السلام في السجن، و يسأله تفسير رؤيا الملك تلك، و يعيد عليه فحواها:"سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات"

يوسف، افتنا في هذه الرؤيا، بما عَهِدنا عندك من الصدق و الإحسان.. كما وصفاه من قبل. لعلي أرجع إلى الناس، و يقصد بذلك الملك، و حاشيته لعلهم يعلمون، لأن أمر هذه الرؤيا يهم الجماعة كثيرا...

 

"قال تزرعون سبعَ سنين دَأْبا فما حَصَدْتُم فَذَرُوه في سُنْبُله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلن ما قدّمتُم لهن إلا قليلا مما تُحْصِنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاثُ الناسُ و فيه يَعْصِرون)(49)

قال يوسف عليه السلام، مُجيبا على طلب الفتى، و تأويلا للرؤيا.. تزرعون سبع سنوات متتاليات، و ما حصدتم من هذه المزروعات، يبقى في سنبله، بغية حفظه من التلف...  

لا ينكر أحد أن سيدنا يوسف عليه السلام، قد أبدع خطة علمية، فريدة، يتوخى بها حفظ المحصول الزراعي،  فكان بذلك أول من توصل إلى أسلوب محكم لذلك الغرض، بحكمة ربانية ما سبقه إليها غيره، ولا زال الناس حتى في زماننا هذا، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا – و لا زِلْتُ لا أنسى، ضَيَاع كمية هائلة من الحبوب التي كانت مخزنة في مخازن الحبوب في مدينة فاس، في إحدى سنوات السبعينيات من القرن الماضي،بسبب تسرب مياه الأمطار، حيث لحقها الفساد، وأصبحت غير صالحة للأكل...

 

 كما أتذكر.. كارثة في جنوب فرنسا، لحظة انفجار كبير حصل في مخزن للحبوب، في بداية الثمانينيات، في ضواحي مدينة "أفنيون"، بسبب عدم اتخاذ ما يلزم لتفادي الغازات المنبعثة من هذه الحبوب.. وكل ذلك كان بسبب سوء حفظ هذه المزروعات.

إن فكرة ترك المحصول في سنبله، بنية تخزينه، هي فكرة، و علم رباني، صادر عن نبي الله يوسف، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.. وكان على الباحثين والدارسين في الزراعة أن يجعلوا من خطة يوسف عليه السلام، أرضية لأبحاثهم، ودراساتهم العلمية في هذا المجال.

" فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون " تستثني الخطة من الإنتاج ما يفي بغرض الأكل والاستهلاك في السنة، ويترك الباقي في سنبله، وهكذا كل سنة من هذه السنوات السبع المخصبات، لأنه بعد ذلك، ستأتي سبع سنوات من القحط والجفاف، وخلالها سيضطر الناس إلى استهلاك ما خزّنوه من قبل في السنوات السبع المخصبات، وهي خطة استباقية حفظت الناس من الهلاك جوعا...

ثم بعد السنوات العجاف، الشديدة التي أنهكت الناس.. يأتي عام فيه يتنفس الناس الصعداء، وينزل الغيث، وتخصب الأرض، وتُجْنى الثمرات، ويعمّ الرخاء، فيعصر الناس زيوتا، ومشروبات وغيرها.

سُرّ الساقي بحكمة يوسف عليه السلام، في تأويله لهذه الرؤيا، وحمل كل ذلك إلى الملك على عجل، متأملا أنه سيصيبه منه خير...

وسُرّ الملك كذلك، بالحكمة، والعلم، الذي يبدوا من خلال تفسير رؤياه، مقابل عجز كبير في ذلك من قِبَل أعضاء مجلسه، فهو يرى أن هذا الحكيم يستحق أن يكون ضمن جُلَسائه، يزدان به مجلسه فقال:

 

( وقال الملك أتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)(50)

         ما إن سمع الملك العلم والحكمة في تأويل الرؤيا، حتى طلب أن يأتوه بالحكيم الذي هو وراء هذا التأويل العجيب، وأرسل في طلبه بسرعة.. فما أحوج الملك إلى عالم حكيم في مجلسه، لكن الرسول الذي أرسل إلى يوسف، أضطر إلى الرجوع خاوي الوفاض، لأن يوسف عليه السلام، المسجون ظلما، أراد ألا يستجيب للملك، ويخرج من السجن دون أن يثبت براءته مما اتهم به... لأنه كان يرى أن لا قيمة للحرية إذا ظلّ متّهما بذلك الاتهام، الذي يسقط من كرامته، ومروءته، ويخدش الشرف، وينقص من الأمانة...

 

 

         قال ارجع إلى سيدك الملك، وقل له ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن... وذكر حادثة تقطيع الأيدي، وهو لا يقصدها في ذاتها، وإنما كان ذكرها تدليلا على كل ما حدث، وهو عليه السلام يريد من الملك أن يحقق في الأمر ليتثبت براءته، والله تعالى يعلم أنه بريء مما اتهم به، والله تعالى يعلم كيد النسوة المقصودات...

ويستقيم المعنى إن كان المقصود بقوله: " إن ربي بكيدهن عليم" العزيز حينما رأى قميصه قدّ من دُبُر، الشيء الذي يدل على براءته مم اتهمته به امرأته، وصرّح بما يفهم أنه مقتنع ببراءة يوسف، ومتأكد من كيد امرأته...

 

( قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)(51)

         بحكم حاجة الملك إلى وجود يوسف عليه السلام بين يديه، وفي مجلسه، قام على  الفور بالتحقيق في أمر النسوة اللاتي قطّعن أيديهن.. ولعلّ التحقيق في هذا الأمر يأخذ وقتا حتى يجمع النسوة اللاتي حضرن في الواقعة، ويأخذ أقوالهن، ويقارن بينها ليعرف صحيحها من كذبها.. إلا أن رغبة الملك في الوصول إلى يوسف، والاستفاذة من علمه وحكمته، جعلته يكشف حقيقة براءته بسرعة...

الظاهر الذي لم يسكت عنه القرآن الكريم، هو أنه لما سأل الملك النسوة: " ما بالكن إذ راودتن يوسف عن نفسه، كُنّ صريحات في تبرئته.. مستعملين عبارة دالة الشهادة بالصلاح له: " ما علمن عليه من سوء" لكنه لم ينصّ على تبرئة أنفسهن.. عندها اعترفت امرأة العزيز أنها المسؤولة الوحيدة في أمر مراودته عن نفسه، فبرّأت يوسف عليه السلام، وبرّأت النسوة الأخريات معه.

ولعلها في حقيقة الأمر، أجبرت على الإقرار بالحقيقة، لما انكشف الأمر، ولم يعد هناك جدوى من الإنكار، وأضافت حقيقة أن يوسف عليه السلام من الصادقين، فهو لم يكذب لا في قوله للملك في السجن، ولا أمام العزيز من قبل حين قال: " هي راودتني عن نفسي".

قال يوسف عليه السلام، وكان لابد أن يبين أمر براءته من الخيانة، خيانة مَن كان يعيش في بيته، ويأكل طعامه.. كلّ الاعترافات التي أدلت بها النسوة ببراءته، واعتراف امرأة العزيز بالمسؤولية.. كلّ ذلك دليل قويّ على أن يوسف عليه السلام لم يخن العزيز، والسنوات التي قضاها في السجن إنما قضاها ظلما.

 

 

 

( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)(52)

         قيل أن الكلام يعود لامرأة العزيز، وهي تقصد يوسف، أي أنها صَدَقَت في اعترافها، ولم تكذب.

وقيل إن الكلام يعود إلى يوسف، وهو نبي الله لا يليق به أن يتصف بخيانة مَنْ أحسن مَثْواهُ، سَيِّدُه الذي اشتراه في البداية. والله أعلم.

وتُختم الآية بحقيقة أنّ "الله تعالى لا يهدي كَيْد الخائنين" وإن بَدَا لَكَ غيرُ ذلك...

 

( وما أبرِّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربِّي إنّ ربِّي غفور رحيم)(52)

         تستدرك امرأة العزيز على اعترافها بقولها: أنها لا تبرئ نفسها كغيرها من بني البشر، الموسوم بالخطأ، لأن النفس عادة هي أمّارة بالسوء، تأمر صاحبها بكل ما هو مخالف لمرضاة الله، فهي ميّالة للشهوات، والملذّات، نزّاعة إلى المخالفات...

ويُستثنى من ذلك مَن رحمه الله تعالى من العقلاء والمكلفين، فكلّ إنسان مكلّف إلا وجعل الله تعالى له عدوّا بين جنبيه يدعوه إلى كل مخالف من القول والفعل، مع استثناء من حلّت بهم رحمة الله تعالى، لأن الله رحيم بعباده، عادل في توزيع رحمته بينهم، تبعا لطبيعة كلّ فرد من مخلوقاته، منهم المبادر إلى الخير، ومنهم المستغفر، ومنهم المقتصد، وكثير منهم فاسقون. فيغفر سبحانه لمن تاب، ويرحم مَن أناب، ويرزق مَن يشاء، ويجيب الدعاء... فرحمته سبحانه وسعت كلّ شيء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴿54 

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴿55 

وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56 

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿57 

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴿58 

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴿59 

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ﴿60 

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴿61 

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿62 

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿63 

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿64 

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ۖ هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴿65 

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴿66 

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿67 

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿68

 

 

         يتميز هذا الجزء من السورة بالتمكين الذي حضي به يوسف عليه السلام، منحة من ربه، وتفضلا منه سبحانه، حيث أخرجه من السجن بعد أن برّءه مما اتهم به.. مما يُسقط الكرامة، ويُطيح بالمروءة.. وبلغه مكانة القصور ومجالسة الملوك...

         وكان لابد أن يكون له شأن كبير في مصر.. بعد أن وفّقه الله تعالى إلى إنقاذها من الكارثة التي كانت يمكن أن تقضي على الأخضر واليابس.. فلما أمن الملكُ يوسفَ عليه السلام، ووعده بالمكانة المرموقة.. لم يتأخر يوسف عليه السلام في طلب الوظيفة التي انتدبه الله تعالى لها، ألا وهي إنقاذ مصر من الانقراض.. طلب من الملك أن أن يجعله على خزائن الأرض.. لتدبير المحاصيل الزراعية ليتجاوز بها سنوات الجفاف حتى يبدل الله تعالى أزماتهم فرجا ومخرجا...

         عندئذ جاء إخوة يوسف.. يزحفون من بلدهم.. يدفعهم القحط وقلة المؤونة، يبحثون في مصر عن الطعام وما يميرون به أهلهم، ويسدون به رمقهم رغبة في البقاء...

فكان في مصر ما يبحثون عنه.. فجاءوا قاصدين إياها.. وبالضبط قاصدين من يملك التصرف في خيراتها ألا وهو يوسف عليه السلام.. أخوهم.. الذي حاولوا قتله أكثر من مرة.. وكما وعده ربه الذي لا يخلف الميعاد.. " لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون".. جاء الإخوة إلى أعتاب يوسف فعرفهم وهم لم يستطيعوا تذكره، ولم يتوقعوا أن يكون له هذا الشأن العظيم في بلد هو في الأصل عنه غريب..

فدخلوا عليه.. واستعطفوه أن يتفضل عليهم ويزودهم بما جاءوا من أجله من طعام وغيره... أدرك يوسف أن ربه غالب على أمره.. يفعل ما يريد... كان يوسف بإمكانه أن ينتقم منهم على سوء ما قدموه.. لكنه نبيّ مرسل، أكبر من ينهزم أمام نفسه وينتقم لها.. ثم أنه عليه السلام كانت أهدافه تقتضي السمو على كل ما يهبط بالإنسان إلى حضيض إنسانيته وضعفه.. ولذلك لما جهزهم بما يريدون وأعدّهم للعودة إلى ديار.. كان يعلم أن لا مناص لهم من الرجوع إيه مرة أخرى فطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم.. أي غير شقيق لأي منهم، وهو في الأخير شقيق له ولكنهم لا يعلمون...

فقدم لذلك ما يخدمه، لما أحسن ضيافة إخوانه، وزادَهم كيل بعير، وأوفى لهم الكيل.. وفي الأخير جعل بضاعتهم في رحالهم، الشيء الذي يجعل أباهم ينتهي عن معارضة إرسال أخيهم معهم كما طلب يوسف عليه السلام، مشددا على ذلك.." فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون".

ولكن سيدنا يعقوب لم يعد يثق في أبنائه.. من جراء ما سبق في التفريط بيوسف عليه السلام فأخذ عليه موثقا من الله أن يأتوه بأخيهم هذا إلا أن يُحاط بهم.. ودون أن يُفصح عن الغاية من ذلك طلب منهم أن لا يدخلوا من باب واحد، وأن يدخلوا من أبواب متفرقة.. ولا يُغني ذلك عنهم من الله شيئا.

 

( وقال الملك أوتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)(53)

         لما تبيّنت براءته عليه السلام، وهو الحكيم العليم في نظر الملك، وهو الذي فكّ أقفال رؤياه العجيبة، والتي عجز عن تأويلها الآخرون، أمر الملك بأن يُؤتى بيوسف عليه السلام، ليجعله الملك مستشارا خاصا وخالصا لنفسه، فلما حضر عليه السلام إلى القصر حيث قابل الملك، وكلّمه هذا الخير، وعرف قُدراته العلمية، وحكمته المسدّدة، والتي لم تكن ضربة حظ، أكّد له أنه في قصر الملك، ذو مكانة لا تقل عن الوزراء والمستشارين الآخرين، وأنه في مأمن من كلّ ما جرى له من قبل، السجن مثلا.

ويمكن أن يكون المعنى هو أنّ يوسف عليه السلام أمين، مُبرّأ من الخيّانة، تبعا لما عرف عن شخصه مما حصل في السابق، وهذا يتناسب وطلبه عليه السلام لوظيفة جعله على خزائن الأرض، أي مكلّفا بتدبير شؤون المنتجات الزراعية، زراعة وحصادا، وتخزينا، وتوزيعا... وإن طلب يوسف عليه السلام لهده الوظيفة لم يكن استجابة لحظ النفس، ولا طلبا للامتيازات والرُّتب، وإنما هي وظيفة كان يمليها عليه وضعه كنبيّ، مُصلح، جعله الله تعالى منقذا لمصر وأهل مصر من مجاعة كانت لتفني بيضتهم، فينقرض الإنسان المصري، بفعل سبع سنوات من الجفاف، فهي كافية للقضاء على الأخضر واليابس، لولا رحمة الله التي جعلت من يوسف عليه السلام المنقذ، بعلمه، وحكمته، وحسن تدبيره، وعلمه المسبق الذي علمه إياه ربّه، بدءا بتأويل رؤيا الملك. ولذلك لم يتردد عليه السلام في طلب الوظيفة من الملك...

" إني حفيظ عليم" يؤكد يوسف عليه السلام كفاءته العلمية، والخُلقية للقيام بالوظيفة. ويبدو  والله أعلم أن سيدنا يوسف لا يكرر صفةّ وَصَفَه بها الملك لما قال: " إني حفيظ "، وإنما يأتي بما يكافئ وعد الملك له بالأمن، ألا وهو "الحفظ".

 

( وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض يتبوّء منها حيث يشاء نُصيب برحمتنا مَن نشاء ولا نُضيع أجر المُحسنين)(56)

         وافق الملك على جعل يوسف عليه السلام على خزائن الأرض، وكان لازما أن تسند هذه الوظيفة ليوسف عليه السلام، لكفاءته، وأهليته.. لمصلحة مصر، وحاجتها المُلحّة إلى مَن يدبِّر أمر معيشتها خلال هذه الأزمة المطلّة عليها.

وكلّ ذلك إنما هو تمكين الله تعالى ليوسف عليه السلام في الأرض.. حتى وصل إلى مصاحبة الملوك في مجالسهم، لقوّة رأيه، وصدق قصده، ونفاد حكمته.

 

 

 

كذلك يفعل الله تعالى بمَن يشاء من عباده، رحمته وسعت كلّ شيء، لا يُضَيِّع، ولا يُفَوِّت الأجرَ عمَّن يستحقّه من المحسنين، فهو سبحانه، الحَكَم العدل، الذي لا يظلم أحدا، ولذلك كان من المستحيل أن يضيع سبحانه الأجرَ عمن استحقه من المحسنين، ويحجب رحمته عنهم.. فهو أرحم الرّاحمين.

 

( ولأجر الآخرة خير للذين يتقون)(57)

         تمكين الله تعالى ليوسف في الأرض، ورحمتُه به وبكل المحسنين مِن قَبْلِه ومِن بعده لا تقارن، ولا تُسوّى بعطائه ورحمته بهم في الآخرة، إذ يدخلهم في زُمرة المتقين.. الذين يدخلهم الجنة، عرّفها لهم.. فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فقد أخبرنا الله تعالى في كثير الآيات في القرآن الكريم، عن ما أعده سبحانه لعباده المتقين مما نستطيع إدراكه من ذلك النعيم، ولعله سكت سبحانه عن الكثير منه مما لا نستطيع استيعابه، وفهم مدلولاته...

فأخبرنا سبحانه في سورة الغاشية بالتالي: " وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة..."

 "جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن..." "

"للدين استجابو لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لفتدوا به..."

" مثل الجنة التي وُعِد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار" سورة الرعد الآية 35

" مثل الجنة التي وُعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم" سورة محمد الآية .16

" وحور عين مقصورات في الخيام" سورة الرحمان

" ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون" سورة البقرة الآية41

وأحلى من ذلك.. وأغلى، وأعلى من النعيم المقيم، والجزاء الأوفى النظر إلى وجه الله تعالى العظيم الكريم الحليم، الذي لا اله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يصفون...

 

 

كل ذلك مما ادخره الله تعالى لعباده المتقين في الآخرة، جزاءا لهم على سعيهم الطيب في الدنيا، ولأنهم آمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ترى أعينهم ما آمنوا به، حتى لو لم ينسجم كل ذلك مع ما تؤمن به عقولهم..

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة، فأصبح عليه السلام يحدث الناس بما رآه ... فوجد كفار قريش أن الأمر لا يتماشى مع العقل.. خصوصا وأنهم في قوافلهم التجارية باتجاه بيت المقدس كانوا يقطعون المسافة بين البيتين الحرام وبيت المقدس في شهر ذهابا وآخر إيابا.. فأصبحوا يتخذون خبر الإسراء منطلقا لدعوتهم الناس إلى الكفر بمحمد، ودعوته، لأنه في نظرهم يحدث الناس بشيء لا يقبله العقل والمنطق.

فتراجع كثير من ضعاف الإيمان عن إيمانهم، وثقتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، أو على الأقل تزعزع إيمانهم به إلى حين... حتى جاءوا إلى صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وكانوا يظنون أنهم جاءوه بما لا يدع له مجالا في اتباع محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: " يا ابن أبي قُحافة، تعالى فاسمع ماذا يقول صاحبك. قال وماذا يقول ؟ قالوا يقول إنه أُسري به من البيت الحرام في مكة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، ونحن نذهب إليه في شهر، ونعود في شهر.

قال رضي الله تعالى عنه: أو قد قالها ؟

قالوا نعم..  قال فإن قالها فقد صدق.

قالوا كيف تصدقه في أمر كهذا.. أي لا يقبله العقل؟

قال: لقد صدقته في أنه يأتيه الخبر من السماء (الوحي)، فكيف لا أصدقه في أمر على الأرض.

فكان تصديق أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما رآه في الإسراء والمعراج شديدا على الكفار، أفحمهم، وأفشل ترّهاتهم، وبذلك وجد الذين تزعزع إيمانهم من قبل ترياقا لقلوبهم، ودعما لأفئدتهم، فأحسوا بالاطمئنان، ولعل هذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يلقب أبا بكر بالصديق.

 

( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون)(58)

         استطاع يوسف عليه السلام أن يُخرج مصر من أزمتها، ويدبر طعامها في سنوات الجفاف، وقد حصل الوضع نفسه للبلدان المجاورة، حيث حل بديارهم القحط والجفاف، وقلة المؤونة، ومن بين هؤلاء أهل يوسف عليه السلام، أبوه وإخوته وأهلهم أجمعون، فجاءوا

 

يدفعهم القحط الذي أصاب ديارهم إلى أقرب البلدان إليهم، وكانت مصر هي ذلك البلد.. حيث يمكنهم شراء أغذية وأطعمة يعودون بها إلى ديارهم...

         ومن أجل ذلك لابد من مراجعة المسؤول عن المخازن، والمنتجات الزراعية، وكان هو يوسف عليه السلام.. الذي حاولوا جاهدين قتله وتصفيته، ليخلوا لهم وجه أبيهم.. فدخلوا عليه، فعرفهم.. ولم يعرفوه.. بل لم يخطر على بال أحدهم أنه عليه السلام قد يصل إلى ذلك الحدّ من العُلوّ... ثم إنه كان صبيا عندما رأوه آخر مرة، فتغيرت ملامحه لما أصبح رجلا قد بلغ أشده.. لكنه عليه السلام عرفهم، رآهم وهم كبار لم تتغير وجوههم إلا بقدر السنين التي مرت من اللحظة التي باعوه فيها بأبخس الأثمان.. فكان يعاملهم على أساس أنهم أهله، لكنهم يكلمونه على أساس أنه غريب عنهم.

 

( ولما جهزهم بجَهازهم قال أتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين)(59)

         عندما أعدّهم يوسف عليه السلام عليه السلام بكل ما يلزمهم من الاحتياجات التي جاءوا إلى مصر من أجلها، عندها أخبرهم أنه بريد منهم أن يأتوه بشقيقه بن يامين دون ذكر اسمه، ودون أن يُعرِّفهم بنفسه، واعتمد في مفاوضتهم في ذلك على أنه أوفى لهم الكيل، وأحسن نُزلهم طول مدة مُقامهم هناك...

وكأن يوسف عليه السلام خشي على شقيقه منهم، فأراد أن ينقذه منهم، لأن السبب الذي جعلهم من قبل يفكرون في قتله أو إبعاده عن أبيه قد يتجدد معه .. فيقدمون على قتله، أو إبعاده عن أبيه، كما حصل معه من قبل، وقد يتساءل أحد كيف لم يتساءل الإخوة كيف عرف هذا العزيز أن لهم أخا صغيرا من أبيهم، فإن كل ذلك يجعلهم يشكون في أمره...

أقول ردا على ذلك، إن يوسف عليه السلام، أعطاه الله تعالى من الحكمة والعلم ما يمنعه من السقوط في مثل هذه الأخطاء.. وقد يعمل عليه السلام على استخراج كل المعلومات من حديثه معهم وهو يستضيفهم كل مدة نزولهم، حتى يعلموا أن كل ما يعرفه عن أهليهم إنما أخذه منهم، فهم لم يتحرجوا من مده بكل المعلومات التي تخص أباهم وأخاهم هذا موضوع الطلب وكل أهلهم، وهو عليه السلام كان متشوقا لمعرفتها ولكن بحذر المتيقظ الحكيم، الذي يبلغ أهدافه دون خسائر..

         وهو عليه السلام، حتى لا يثير التساءل عن ماذا يريد بهذا الأخ المحدد استعمل لغة ذكية فيها بعض التمويه كي يظن منهم أحد أن بينه وبين هذا الأخ الذي يلح في طلبه شيء خاص، فقد عمد إلى مطالبتهم بأخ غير محدد، واشترط في قوله أن يكون غير شقيق لهم، فإذا لم يكن شقيقا لأحدهم فسيكون شقيقا له هو.. وهو بن يامين كما سماه بذلك المفسرون.

 

( فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)(60)

         كان لابد للمفاوض المُتمرِّس الحكيم أن يضغط على خصمه، بوسائل الضغط التي تجعله يرضخ لمطالب خصمه، والاستجابة لشروطه، فيوسف عليه السلام، كان يعلم أن إخوته لا يستطيعون الاستغناء عن مصر، وعن طعام مصر، في زمن الجفاف، الذي ضرب كل المنطقة.. ومصر لولا حكمة يوسف عليه السلام لكان حالها هو حال كل البلدان، ولأنهم سيعودون لطلب المزيد الطعام لابد أن يستجيبوا لعزيزها، فيلبوا طلبه.

استجاب إخوة يوسف مبدئيا، لأنهم راضون على تصرف عزيز مصر معهم، لأنه أوفى لهم الكيل بسخاوة، وأحسن ضيافتهم بشكل لم يكونوا يطمعون فيه.. ولأنهم لا يملكون القرار في أخذ أخيهم دون رضا أبيهم، قالوا: "سنراود عنه أباه، ولم يقولوا : "نستأذن أبانا في أمره" وفي العبارة التي اختاروها نوع من الخبث، وسوء النية، لأنهم على يقين تام أن سيدنا يعقوب مُستاء منهم، لأنهم فرّطوا في يوسف من قبل، ولن يوافقهم على أخذ الثاني.. وهم يؤكدون كلامهم تأكيد الواثق مما يفعله، والمُحب له، والطامع في وقوعه:

( سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون)(61)

 

( وقال لفتيته اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهليهم لعلهم يرجعون)(62)

         بالإضافة إلى الإحسان في الضيافة، والزيادة في الكيل، أمر يوسف عليه السلام فتيانه بأن يردوا لإخوته البضاعة التي جاءوا بها من أجل مقايضة الطعام، والمشتريات الأخرى، أملا، ورجاءا أن يعودوا إلى مصر مرة أخرى، عندما يعرفون أن عزيز مصر سخي إلى درجة أنه زودهم بكل ما يحتاجون إليه، وردّ إليهم بضاعتهم، وذلك كاف ليجعلهم يطمعون في كرمه أكثر مرات ومرات...

وهذه البضاعة قد تكون ذهبا، وقد تكون مصنوعات يدوية بسيطة عرفت في ذلك الزمان كمنسوجات يدوية، وجلود تلبس في الأقدام ، أو حيوانات حية أو غيرها.

 

( فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنِع منّا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون)(63)

         لما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم مُتحمِّسين، راغبين في أخذ أخيهم معهم إلى مصر في المرة القادمة، والظاهر أنهم كانوا مرتبطين بمصر كثيرا، يرحلون إليها بين الفينة والأخرى للتزود بأسباب المعيشة، ولا انفكاك لهم عليها.

 

         قالوا يا أبانا منع منا الكيل - في القابل - إن لم نأخذ معنا أخانا بنيامين، إنه طلب عزيز مصر.. فأرسله معنا في المرة القادمة حتى يُيَسَرَ أمرُنا، ونكتل منه، فقد هددنا بأن لا يبيعنا شيئا إن لم نأتيه بأخينا... ولا تخشى عليه ..فنحن له حافظون...

وكأن هذا الأمر كان أهم شيء يتم الخوض فيه مباشرة بعد وصولهم إلى أبيهم، لأنهم لا يذكرون عن رحلتهم إلى مصر، إلا كرم عزيزها (أي يوسف عليه السلام) وزيادته لهم في الكيل، وإحسانه لهم جملة...

لكنهم كانوا على علم أن أباهم لن يقبل إرسال ابنه الأصغر معهم.. خشية عليه منهم، لأنه لا يزال غاضبا منهم من جراء تفريطهم في يوسف من قبل...

 

( قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين)(64)     

         كان سيدنا يعقوب عليه السلام لا يزال غاضبا على أولاده جراء تفريطهم في يوسف من قبل، ولذلك كان طلبهم أباهم بأن يرسل معهم أخاهم الصغير، تذكير له بما مضى مع يوسف عليه السلام، حيث استأمنهم وهم كبار على أخيهم الصغير الذي خرج معهم بطلبهم، وبتعهدهم بحفظه.. فلم يفعلوا.. وفرّطوا فيه بإرادتهم، وهم لا يدرون أن أباهم نبي يأتيه الخبر من السماء.. قد يخبره ربه بما غاب عنه...

أَوَ يُعقل أن يستأمنهم مرة أخرى على شقيقه ؟

ولكن طمعهم في كرم العزيز، وإحسانه يجعلهم يخوضون بحماس المحاولة، أو المراودة، كما أخبروا هم عن ذلك، وإن كانت بعيدة المنال...

         وكان لابد من التعقيب العام والشامل.. رغم كل المتغيرات، أن الله تعالى خير حافظا وهو أرحم الراحمين، يحيط علمه بكل شيء، وتطال قدرته كل شيء، فلا يَضِيعُ شيءٌ يحفظه سبحانه مهما أُحكمت خطط الظالمين...

ويعقوب عليه السلام كان من الذاكرين، الشاكرين، الذين لا يغيب على أذهانهم فعل الله تعالى وقدرته، وحضوره في كل غائبة مغيّبة..

 

( ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير)(65)

         كان الإخوة قد يئسوا من أن يقبل أبوهم إرسال أخيهم الأصغر معهم لما سمعوا مقالته، التي ذكّرتهم بجُرمهم الكبير في التفريط في يوسف عليه السلام...

 

 لكنهم عندما فتحوا متاعهم الذي جاءوا به من مصر، وجدوا ما لم يتوقعوه.. وهو أن بضاعتهم رُدّت إليهم، أي أن ما جاءوا به من الطعام من مصر كان مجانا، وبدون ثمن.. ووجدوا زيادة على ذلك أن هذا العزيز الكريم قد زادهم فوق ما طلبوه حِمل بعير.. ففرحوا بذلك فرحا كبيرا، واستغلوا هذه العطايا في إعادة طلبهم أباهم إرسال أخيهم معهم في المرة القادمة..

ولِما لا.. فالظاهر أن هذا العزيز، الذي هو مصدر كل هذه الخيرات، رجل طيب.. لا نخشى على أنفسنا، ولا على أخينا منه، فقد أعطانا ما نُطعم به أهلنا، وأخانا معنا نحفظه.. فلا داعي للخوف عليه من إرساله معنا، وقد نعود في المرة القادمة بما هو أكثر مما جئنا به الآن...

 

( قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موْثقا من الله لتأتُنّني به إلا أن يُحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل)(66)

         لاَن جانبُ سيدنا يعقوب عليه السلام، في قضية إرسال الأخ الأصغر معهم إلى مصر، حيث تحوّل من الامتناع الغير المشروط، إلى القبول بشروط: سوف أرسله معكم.. ولكن عليكم أن تأتوني موثقا وعهدا من الله، أن تحافظوا عليه، وتأتوني به، إلا أن تموتوا.. أو تُؤسروا.. أو تغلبوا على أمركم...

         كان الإخوة متحمسين للموضوع، كما وعدوا العزيز في مصر، ولذلك لم يتأخروا في تقديم العهد لأبيهم، فرحين أنه تحقق لهم ما كان بعيد المنال من قبل...

 إن يعقوب عليه السلام لم يُبق العهد بينه وبين أولاده فقط وإنما أشرك الله تعالى معهم في هذا العهد بجعله طرفا ثالثا.. شهيدا، ووكيلا

         كان سيدنا سيدنا يعقوب عليه السلام على علم بأن يكون الله تعالى وكيلا على عهده مع أولاده، لكن جلهم لم يعط الأمر كبير اهتمام... وهو عليه السلام لا يأمنهم على أخيهم ولذلك يجعل الله تعالى وكيلا، وحسيبا، ونائبا عنه يحفظ ابنه إذا ما فرطوا هم فيه، ولذلك قال عليه السلام: " فالله خير حفظا" وفي قراءة أخرى " فالله خير حافظا"

 

( وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله شيئا إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)(67)

         ولما قَبِل سيدنا يعقوب عليه السلام إرسال ابنه الأصغر مع إخوته إلى مصر مُكرَها غير مريد، لم يجد إلا أن يوصي كلّ أولاده بأن لا يدخلوا مجتمعين من باب واحد، ويدخلوا من أبواب متفرقة، دفعا لإثارة الانتباه، والعين، وكان عليه السلام على علم أنه لا يغني عنهم

 

بذلك شيئا من أمر الله وقضاءه، شأنه في ذلك شأن الوالد المتعلق بأولاده لحظة مفارقة بعضهم له بسفر أو ما شاكله. فالآباء عندها يريدون إطالة مدّة اللقاء ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا قبل أن يُحسم ذلك الفراق، والبُعد...

والحكم لله سبحانه، يحكم ما يريد، ولا راد لحكمه، فليس للعبد إلا أن يتوكل عليه، وينتظر رحمته، ويرضى بقضائه...

 

( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم مما كان يُغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(68)

         دخل أولاد يعقوب عليه السلام من حيث أمرهم أبوهم، حفظا لوصيته، وعملا بنصيحته، لكن ذلك كلّه لا يُغنيهم من قضاء الله شيئا، ولكنه وجد في نفسه حاجة إلى ذلك. وإنه عليه السلام، لذو علم، إنه علم النبوة، حيث يأتيه الخبر من السماء، فيسدد الوحي قوله وفعله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿69 

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴿70 

قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ﴿71 

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴿72 

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴿73 

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ﴿74 

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿75 

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴿76 

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴿77 

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿78 

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴿79 

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿80 

ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴿81 

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴿82 

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿83 

وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴿84 

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴿85 

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿86

 

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴿87 

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴿88

 

 

         يتميز هذا الجزء من السورة، باجتماع يوسف عليه السلام بشقيقه بنيامين من جهته، ومن جهة سيدنا يعقوب عليه السلام، وباقي الإخوة التفريط في أخ ثاني.. بعد التفريط في الأول من قبل.. فكان هناك إحساسان ونشوتان.. إحساس بالحزن والأسى.. والفشل والخجل أمام الأب، المكلوم أصلا من فقدان الإبن الأول.. وإحساس بالفرح والانتصار، والاستمتاع بنعمة الله تعالى في ذلك.

فكان لابد من حبك خطة تضلل الإخوة، وتشتت انتباههم، حتى لا يشُكّوا في الخدعة التي انتزع بها يوسف أخاه منهم..

وفحوى هذه الخطة هي أن يُتّهم الأخ المعني بالسرقة.. سرقة صوّاع الملك.. أي: مسروق لا يُتسامح مع فقده، ولا يُرحم من اقترف خطيئة من مثل ذلك.

         لم يتقبل الإخوة هذا الاتهام.. وهم صادقون في ذلك.. لكن إحكام اللعبة، وتمسك يوسف عليه السلام بإنقاذ شقيقه.. وإبقاءه معه في مصر، وأهمية المسروق، الذي هو شيء يعود للملك.. كل ذلك جعل الإخوة ينهارون في هذا الموقف، ويسلمون، ويقبلون بالهزيمة.. لكنهم لا يزالون يطمعون في كرم العزيز، وإحسانه كما عهدوه من قبل، فيستعطفون يوسف عله يأخذ أحدهم بدل أخيهم الذي تبثت عليه السرقة.. لكن يوسف عليه السلام المحسن كما يتوقعون يتناسى الإحسان في هذه الواقعة، ولذلك يرفض عليه السلام بدعوى العدل الذي لايسمح بأخذ غير الذي وجد المسروق عنده.

         أمام هذه الحادثة التي أربكت حسابات الإخوة.. كان أمامهم مشكل آخر.. ألا وهو الميثاق الذي أخذه أبوهم عليهم بأن يأتوه بصغيره إلا أن يحاط بهم  ويمنعوا من ذلك.. فبماذا يمكنهم جواب أبيهم عند سؤالهم عن أخيهم ؟

قرر كبيرهم عدم العودة إلى الديار خجلا من مُلاقات أبيه.. وخوفا من الله تعالى الذي كان شاهدا على الميثاق الذي واثقوا أباهم به على الحفاظ على أخيهم... وأوصى إخوته بالرجوع إلى أبيهم، وإخباره بأن ابنه سرق.. وكأنهم يعاتبونه على تفضيله عليهم هو وأخوه يوسف، ومأنهم يقولون بلسان حالهم، ها هم من فضلتهم علينا.. أصغرهم سرق، وأساء إلى سمعتنا وسمعتك في بلد آخر غير بلدنا.

 

لكن سيدنا يعقوب ازداد غضبا على أبنائه، وازداد حزنا على فقد احبائه: بنيامين، ومن قبله يوسف عليه السلام، حتى فقد بصره، وتولى عن اولاده، واعتزلهم رغم ما كان من أمرهم في تسفيه حزنه المستديم على يوسف..

لم ييأس سيدنا يعقوب عليه السلام من الاجتماع بأولاده من جديد، ولذلك طلب من أولاده وهم يتوجهون إلى مصر مرة أخرى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا ييأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون...

         ذهب الإخوة كما أمر أبوهم، متحسسين من يوسف وأخيه، وفي مصر حيث يعرفون أين يوجد أحدهم الذي هو بنيامين دخلوا على العزيز وهم لا يعرفون أنه يوسف، وسألوه أن يتصدق عليهم إن الله يحب المتصدقين...

 

( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون)(69)

         عندما وصل إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر، دخلوا على عزيزها الذي هو يوسف، وهم لا يعلمون أنه يوسف.. ومعهم أخوهم الأصغر بنيامين، تنفيذا للاتفاق الذي أبرموه مع العزيز في المرة السابقة، حيث طلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم... دخلوا عليه وهم متحمسون للقائه، لأنهم وفّوا بعهدهم له، وينتظرون وفاءه هو بما وعد به ضمنيا من حسن الضيافة، والزيادة في الكيل..

فكان أول ما قام به يوسف عليه السلام، أن قرّب إليه أخاه، وطمأنه بقوله:" إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون"

ولأن هذا الصغير قد يتوجس من العزيز خيفة، لأنه هو الآخر يجهل أن هذا العزيز هو أخوه يوسف، كان ذلك ما أسرّه يوسف عليه السلام له، كي يَطْمَئِن.. دون أن يعلم بقية الإخوة بذلك، وكأنه يقول له بلسان حاله: نجوتَ مِن مَكْرِهِم، وحسدهم، وغيرتهم، التي قد تؤدي إلى قتلك.. كما فعلوا ذلك معي في السابق...

وقوله تعالى:" لا تبتئس بما كانوا يعملون" إشارة قرآنية إلى أن الأخ بنيامين قد وجد من إخوته ما يسيء إليه، ويدل على حسدهم له، وأن سيدنا يعقوب يفضله عليهم، ويحبه أكثر مما

يفعل معهم.. لأنه يجد فيه شقيق يوسف، الذي يحمل كثيرا من صفاته في الخَلق والخُلق...

 

 

 

 

( فلما جهّزهم بجهازهم جعل السِّقاية في رحل أخيه ثم أذّن مؤذِّن أيتها العير إنكم لسارقون)(70)

         عندما أعدّ يوسف عليه السلام إخوته للرحيل، وذلك بأن أوفى لهم بما وعدهم به من حسن الضيافة، والزيادة في الكيل، بدأ في تنفيذ الخطّة التي اتفق عليها مع أخيه بنيامين: ومضمونها: أن أمر فِتْيانه أن يجعلوا السقاية في رحل أخيه، وهذه السقاية لابد أنها شيء ثمين، يستحق أن يؤخذ سارقه فيه، وقد سبق أن قلنا أنه من ذهب.

وقبل انطلاق القافلة التي كان ضمنها إخوة يوسف، "أذّن مؤذِّن أيتها العير إنكم لسارقون" توقفوا .. لقد سرقتم...

 

( قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صوّاع الملك ولمن جاء به حِمل بعير وأنا به زعيم)(71)

         تُصوِّر الآيات مشهد المفاجأة لدى إخوة يوسف، حيث جمعوا بين القول والإقبال، على المؤذِّن وجماعته، الذين يتهمون العير، وأصحاب العير بالسرقة.. ماذا تفقدون؟

قالوا نفقد صوّاع الملك، أي: السقاية، أو الصاع الذهبي.. ويكفي أن يُضاف إلى الملك، حتى يعلم الإخوة أن الأمر أكبر من أن يُستخَفَّ به: إن الشيء المسروق، ترجع ملكيته للملك.. إن الموقف صَعْبٌ للغاية.. ولكن العقلاء من الإخوة، وأكابرهم، يحاولون تهوين الأمر.. واستبعاده...

من جهة يوسف عليه السلام، وفتيانه، يرفعون من أهمية وخطورة الجرم، حتى يتسنى لهم المطالبة بمن وُجد في رحله.. إنه صوّاع الملك.. ولمن جاء به حِمْلُ بعير مكافئة له على إخراجهم من هذا المأزق، الذي يُحرجهم أمام الملك.

وكان يوسف عليه السلام، العزيز في نظرهم، ضامن لهذه المكافأة.. التي هي قيمة ما يحمله البعير من الطعام. وكل ذلك منه عليه السلام، رفع لأهمية، وخطورة ما أقدم عليه هذا الذي سيوجد معه صواع الملك .. حتى يُسلِّم الإخوة في الأخير بالنتيجة التي يريدها يوسف عليه السلام.. ألا وهي إبقاء أخيه معه في مصر.

 

( قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لِنُفْسِد في الأرض وما كُنّا سارقين)(73)

         أمام تهويل يوسف عليه السلام وفتيانه للموضوع، ورفع سقف التعويض على هذه الجريمة.. انصاع الإخوة.. وتوقفوا عن المقاومة.. واكتفوا بالمناشدة، والطلب، وإظهار

 

 

الجانب السلمي لهم: " لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين"، ما عُرف علينا أننا سرقنا شيئا من قبل.. وهم صادقون في كلامهم.. واثقون من أنفسهم.. لكن يوسف عليه السلام وفتيانه المسلطين، الذين أعدّهم لهذه المهمة أشد منهم ثقة بأن هناك سارق.. وهناك مسروق نبحث عنه.. ولذلك ردّوا عليهم ردّ الواثق:

 

( فما جزاءه إن كنتم كاذبين (74) قالوا من وُجد في رحله فهو جزاءه كذلك نجزي الظالمين)(75)

         ردا على ما قاله الإخوة، من أنهم ليسوا سارقين، قال يوسف عليه السلام، وأعوانه: فما جزاءه: أي السارق الذي وُجد معه الصوّاع؟

قالوا واثقين من أنهم ليسوا سارقين، وُثوقا عاما، يشمل كلّ الإخوة: " مَن وُجد في رحله فهو جزاءه" ضانين أنه لن يوجد عند أي منهم.. وبالتالي لا ضير، ولا خوف من تغليظ العقوبة.. أي يصبح عبدا عند من سُرق منه الصواع.. وذلك ما كان يريده يوسف عليه السلام.

" كذلك نجزي الظالمين" الذين تجرّؤوا على السرقة.. ولو خطر ببال أحدهم أن المسروق يوجد في رحل أحدهم ما نطقوا بذلك.

 

( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كِدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي عِلْمٍ عليم)(76)

         بدأ فتية يوسف عليه السلام بالتفتيش، والبحث عن المسروق في أوعية الإخوة، وحتى لا يشك باقي الإخوة في جدية الأمر، بدأوا بالبحث في أوعيتهم قبل وعاء الأخ الصغير المقصود، وحيث يوجد الوعاء، ولما وصل دور وعاء بنيامين.. استخرج الوعاء من رحله.. فاندهش باقي الإخوة لذلك..

إنه مكر الله تعالى.. ولولاه ما كان يوسف يستطيع ليأخذ أخاه في دين الملك أي في شريعته، حيث لا يُستعبد السارق، وإنما يُعاقب بغير ذلك عند ثبوت السرقة عليه.. كأن يُضرب، أو يُسجن، أو يُحكم عليه بردِّ المسروق أو ما يعادله... ولكن في شريعة يعقوب عليه السلام، وهي الشريعة التي يعرفها أولاده، كانت تسمح بأن يُؤخذ السارق عبدا مقابل ما سرق.

وقد حكم الإخوة على أنفسهم حينما أجابوا على السؤال القائل: ما جزاءه إن كنتم كاذبين؟ قالوا مَن وُجد في رحله فهو جزاءه.

 

 

والله قادر سبحانه على كل شيء، ويفعل ما يريد، لو أراد سبحانه حتى في شريعة الملك ليسّر لنبيه يوسف أخذ أخيه بالفعل.. فهو سبحانه يرفع درجات من يشاء، ويحط دركات من يشاء، ولا رادّ لحكمه، إنه العليم سبحانه.. يفعل ما يشاء.. ولا يُسأل عما يفعل.

 

( قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شرٌّ مكانا والله أعلم بما تصفون)(77)

         لم يُخْف الإخوة استياءهم من بنيامين، الذي ثبتت عليه تهمة السرقة.. وبسرعة متناهية، أكدوا اتهامه بذلك.. بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك.. واتهموا أخاه من قبل.. وجمعوا الشقيقين في تهمة السرقة دون بقية الإخوة، إشارة منهم إلى أصل هذه الخصلة عندهما.. حيث ورثاها من أمهما.. وكلّ ذلك ينمّ عن كراهية ورثها بقية الإخوة عن أمهاتهم.. بطبيعة العِلاّت  عادة، وما يحصل بينهن من تدافع، وتنافس، وتحاسد، إلا من رحم الله، وذلك منذ الأزل.

         لم يستسغ يوسف عليه السلام أن يتهمه إخوته ظلما بالسرقة، رغم أنه عليه السلام مُبرّأ منها. لكنه أخفى ألمه عنهم لمزيد من السرِّية، فهو لا يريد أن يعرف إخوانه من هو... وكان أصل اتهامه بالسرقة أنه كان قد أخذ تمثالا من ذهب لأبي أمه، وكسّره حتى لا يستطيع عبادته من جديد.. ولكن يوسف عليه السلام لم يمنع نفسه من أن يقول في نفسه عنهم رأيه فيهم، وغضبه على خيانتهم: " أنتم شرٌّ مكانا: أي أنتم أكثر شرّا من يوسف، ومن أخيه.. إذ سرقتم أخاكم من أبيكم.. وحاولتم قتل أخيه من قبل.. وبعتموه بثمن بخس... وكلّ ذلك في علم الله تعالى.. لا يخفى عليه شيء من أمركم، كما لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

 

( قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين)(78)

         مرّ الإخوة من مستوى الدفاع عن أنفسهم.. إلى مستوى آخر أقل حدة، علّهم يصلون إلى افتكاك أخيهم من العبودية لدى العزيز، فانتقلوا إلى مستوى الاستجداء، والطلب، واستمطار رحمات وإحسان العزيز.. مُقِرِّين باقتراف أخيهم للسرقة.. لكنْ تفاديا لِما قد يحصل لأبيهم الذي أخذ عليهم العهد من الله ليأتونه بأخيهم إلا أن يحاط بهم..

 يستجدون يوسف العزيز أن يأخذ أحدهم غيره مكانه.. آملين، وطامعين في إحسانه.. لأنهم رأوا فيه محسنا قد يتعاطف مع حال أبيهم.

لكن ما يطلبه الإخوة لا يخدم هدفه، ولذلك ردّ عليهم الرد الحاسم هذا:

 

 

( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون)(79)

         كان يوسف عليه السلام يعلم حال أبيه لحظة رجوع إخوته إليه بدون أخيهم بنيامين.. لكنه كان مطمئنا، واثقا في ربه أنه سيعلمه ما لا يعلمون.. ولذلك امتنع من الاستجابة لهم، ولاستجدائهم بأشد عبارات الامتناع، ثم إنه ما كان ليتنازل عن ما وصل إليه، ألا وهو أخذ أخيه، وإبقاءه معه في مصر.

فهو عليه السلام لا يريد عبدا أو خادما.. فلو كان الأمر كذلك لقبل طلبهم، بل يريد أخاه بنيامين بعينه.. ولئن أخذ غيره ممن لم يوجد المسروق معه سيكون ظلما يتناقض مع ما عُرف به يوسف عليه السلام بينهم من الإحسان.

 

( فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرّطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين)(80) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين)(81) واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون)(82)

         كان يوسف عليه السلام مُصمِّما على رأيه في أخذ شقيقه، ولم يرض باستبداله بغيره. فلما يئس بقية الإخوة منه في الاستجابة لطلبهم، اعتزلوه وأعوانه، للتشاور بينهم فيما يخصهم مع أبيهم، فكان منهم التالي:

قال كبيرهم – ولا ندري أكان كبيرهم سِنّا، أم كبيرهم رأيا وزعامة: " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله"، وكان هذا الموثق هو أن يأتوه بأخيهم الأصغر، إلا أن يُغلبوا على أمرهم، كأن يُقتلوا، أو يُؤسروا أو ما شابه ذلك، وأكثر من ذلك، أنكم تعيدون خطأ آخر مثل الذي اقترفتموه في التفريط في يوسف من قبل...

أنا لا أستطيع النظر في وجه أبي بعد كل هذا.. ولن أغادر مصر حتى يأذن لي أبي، بأن يُسامحني على كل ما سبق.. أو يحكم الله لي، بأن يقضي سبحانه قضاء فوق إذن أبي.. كأن أموت أنا.. أو يموت أبي.. أو يجعل الله في أخوي المغيبين أمرا يبرئني من المحاسبة...

" ارجعوا إلى أبيكم" فأخبروه بشناعة ما فعل ابنه.. وفي هذه اللهجة، تحميل للأب جرم ابنه، أو لعله مراجعة له، ولوم على تفضيله وأخيه (الشقيقين) عليهم جميعا...

ونحن صادقون، وإن لم تصدقنا فاسأل أهل القرية التي كنّا فيها، والمقصود أهل مصر.. واسأل المسافرين الذين رافقونا في القافلة.. ليشهدوا على صدق أقوالنا.

 

 

وكل ذلك كان منهم تبرير للتخلص من العهد الذي عاهدوا  به أباهم من قبل للحفاظ على أخيهم..

 

( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)(83)

         لم يُصدِّق سيدنا يعقوب رواية أبنائه عن سرقة ابنه، لأنه على علم بغيرتهم، وحسدهم ليوسف ومعه أخوه بنيامين.. وكيدهم المتواصل لهما من ناحية، ومن ناحية أخرى كان واثقا أن ابنه لا يمكن أن يكون سارقا، وما يكون له أن يفعل مثل ذلك.. ولذلك استبعد رواية أبناءه هذه، واعتبره نوعا مما زينته لهم أنفسهم.. ففعلوه للتخلص منه كما سبق لهم أن فعلوا مع يوسف...

ولذلك قال واثقا من ربه: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا أي: يوسف وأخيه بنيامين إنه هو العليم بكل شيء: بحالي، واشتياقي إليهما.. وبمكركم، وكيدكم.. الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.. ولا يحدث شيء في ملكه إلا بعلمه وحكمته.. لأنه سبحانه غالب على أمره.. لا يمكن أن يقع في الكون شيء بغير رضاه..

 

( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحُزن فهو كظيم)(84)

         أعرض يعقوب عليه السلام عن أولاده، واعتزلهم، وقال من شدّة حزنه:" وا أسفى على يوسف" ومن كثرة بكائه، وحصرته على ولديه يوسف وبنيامين، ابيضّت عيناه بذل سوادهما، فذهبت مع ذلك قدرته على النظر، فهو حزين، مغموم، مكروب، لكنه يكظم كلّ ذلك، فهو نبي الله.. أوتي الحكمة، والهمة العالية، فلا حاجة له في أن يعرف غيره حاله.. يكفيه أن يطّلع ربّه عليه وعلى حاله.. وكفى بربه شهيدا...

         كان يعقوب عليه السلام، يلوم أولاده على تفريطهم في يوسف وبنيامين من جانب، ويعلم أنها مشيئة الله، فينحني لها من الجانب الآخر، فهو يعلم ما لا يعلمه أولاده.

 

( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين(85) قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)(86)

         قالوا لا تزال تذكر يوسف حتى تشرف على الموت، أو تموت حقيقة، ففي نظرهم لا داعي إلى كل هذا الحزن.. وإذا غاب يوسف وأخوه، فنحن.. أبناؤك معك.. فابق لنا سالما...

 

 

قال إنما أبث حزني الشديد ، وشكواي لله وحده، ولا أبثها لغيره، فهو القادر على أن يُزيل همِّي، ويفرِّج ما بي.. وأعلم منه ما لا تعلمون:

أعلم أن رؤيا يوسف حقّ..

وهو حيّ يرزق..

وأنكم تكذبون.. فيعقوب عليه السلام نبي الله يأتيه الخبر من السماء.. فلعلّه يعلم منه سبحانه أكثر من هذا.. ولذلك لم ييأس من أن يلتقي مرة أخرى مع أحبائه من أبنائه..

فتوجه إلى أبنائه الذين أحزنوه.. آمرا إياهم أن يذهبوا، ويبحثوا عن يوسف وأخيه.. ولا ييأسوا من روح الله.

 

( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)(87)

         يا أبنائي اذهبوا، فاطلبوا خبر أخوَيْكم  يوسف وبنيامين، واسألوا عنهما ... ولا تيأسوا من وجودهما.. فوجودهما رحمة من الله تعالى بنا جميعا.. ولا ييأس من رحمة الله لأن اليأس من رحمة الله كُفْر.. ويقول عليه السلام هذا لأنه يعلم من الله ما لا يعلمون.

فانطلق الأبناء نحو مصر، لأنهم إن كانوا لا يعرفون مكان يوسف عليه السلام.. فهم يعرفون أن أخاه بنيامين موجود هناك.. فهم الذين سلموه بأيديهم ليكون عبدا لعزيز مصر.. ولعل يوسف عليه السلام كذلك هناك...

 

( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضُّرُّ وجئنا ببضاعة مُزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدِّقين)(88)

         جاء إخوة يوسف إلى مصر.. ولا ندري أجاء بهم التحسس من يوسف وأخيه فقط.. أم جاءت بهم الحاجة إلى التبضّع من مصر ككلّ موسم...

جاءوا.. ودخلوا على العزيز، الذي يحتجز أحد أخويهم.. وهو كذلك مصدر أرزاقهم من الطعام وغيره.. فعرضوا عليه حاجتهم، معلنين أنه جاء بهم الجوع.. الذي مسّهم، ومسّ أهاليهم.. لكنهم لا يملكون مقابل ما يريدون.. إلا بضاعة رديئة، قد لا يقبل بها مَن تدفع له.. ويطلبون من العزيز أن يقبلها منهم.. ويعتبر ذلك صدقة عليهم.. والله تعالى يجزي المتصدقين.

رقّ يوسف لحال إخوته، وحال أهلهم، فكشف لهم عن نفسه، فقال:

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴿89 

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴿90 

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴿91 

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿92 

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿93 

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴿94 

قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴿95 

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿96 

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴿97 

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿98 

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴿99 

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿100 

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿101 

ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴿102 

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103 

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴿104 

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴿105 

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴿106 

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿107 

قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿108 

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿109 

حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴿110 

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿111

 

الجزء الأخير من سورة يوسف  هو ختام لقصته العجيبة.. التي هي من أحسن القصص كما قال الله تعالى.. تتوّج بكشف يوسف عليه السلام نفسه لإخوته.. ممتنّا لله تعالى على نعمه، وتذكيرا بصبره وتقواه اللتان كانتا مصاحبتين له عليه السلام حتى في أصعب الأزمات عليه.

وكذلك كان كبيرا أمام الإخوة الذين يقتلهم الخجل أمامه.. طالبين العفو والصفح منه فلم يتأخر عن العفو عنهم بأعذب الألفاظ.. " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم".

كان هذا الجزء شاهدا على وصول يوسف إلى الغاية التي انتظر تحققها طويلا، ألا وهي الاجتماع بأهله من جديد بما فيهم إخوانه الذين أجرموا في حقه... وجاء الأهل جميعا إلى مصر فأكرم يوسف أبواه ورفعها على العرش، تقديرا لهما.. وخرّ الإخوة سُجّدا تقديرا ليوسف.. وتسليما لزعامته.. وانتصاره، رغم ماكان منهم من محاولات لإسقاطه وتدميره...

         لم يتأخر يوسف عليه السلام في شكر صاحب النعم كلها.. الذي أحسن به إذ أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته، إنه سبحانه لطيف بعباده.. وفي ظل الفرحة العارمة بكل ما حدث توجه إلى الله بالدعاء، والثناء.. تحقيقا للعبودية، والخضوع للحي القيوم الذي فطر السماوات والأرض، وولي المتقين أن يتوفاه مسلما ويلحقه بالصالحين من السابقين من عباده...

         كذلك احتفل هذا الجزء من السورة بتقييم كل السورة، وإظهار الامتنان على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في تعريفه بها.. إذ السورة ومحتواها الذي هو قصة يوسف عليه السلام من الغيب الذي ما كان له أن يعرفه لولا رحمة الله تعالى به، وتذكيره بأنه واحد من الرجال الذين أوحي إليهم.. وما أكثر الناس الذين يتوجه إليهم بالدعوة، وهو يحرص على

 

 

هدايتهم بالمهتدين.. وكم هي الآيات التي يمرون عليه غير منتبهين لها، ولا منتفعين من دلالاتها، مصرين على الكفر والشرك.. غير آبهين بما يمكن أن يحدثه الله تعالى في أمرهم.. ناسين ومتناسين أمر الموت، وأمر القيامة، والعذاب...

ويأمر سبحانه نبيه عليه السلام بالتصريح للناس أن سبيله ومنهجه هو ومن تبعه من المؤمنين هو الدعوة إلى الله تعالى بوثوق وبصيرة غير متردد ولا مرتاب من عاقبة ذلك موحدا غير مشرك بالله.. ومنزها إياه عما قال عنه القائلون...

وإن أمرك مع قومك لا يختلف كثيرا عما كان من أمر الرسل السابقين مع أقوامهم.. ولو انتبه قومك إلى ما حصل للمكذبين من السابقين لكان خيرا لهم.. يعتبرون.. ويستفيدون من خطئهم وفي الأخير تبقى الآخرة خير من الانشغال بالدنيا للعاقلين...

ومن سنة الله تعالى نصر أولياءه ورسله بعد أن يظنوا أنهم كذبهم الناس، وهو سبحانه لا يتخلى عن المحسنين من عباده، فكيف برسله الذين أرسلهم بدعوته إلى الناس.. فيلحق عباده وينجيهم .. ثم ينزل ببأسه على المجرمين...

ختمت السورة بالحديث عن جدوى قصص الأنبياء مع أقوامهم.. وأن فيها عبرا لأولي الألباب الذي يشغلوها.. وهي قصص حقيقية ليست افتراء وكذبا بل كان فيها تصديق من القرآن الكريم لما سبقه من كلمات الله تعالى التي أوحاها إلى الأنبياء السابقين.. بالإضافة إلى تفصيل شريعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهداية للناس ، ورحمة بالمؤمنين منهم..الذين صدقوا نبيهم محمدا واتبعوه ونصروه، واتبعوا النور الذي جاء به.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون(89) قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إنه من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)(90)

         عتاب من يوسف عليه السلام لإخوته على ما فعلوه به وبأخيه بنيامين، مستجيبين لجهلهم، وقلوبهم المريضة، وأنفسهم الغافلة، لا لشيء إلا لأن يوسف وأخاه، أحبّ إلى أبيهما منهم، ولا ذنب لهما في ذلك...

وكان ذلك العتاب إشارة لهم ليعرفوا أنهم في حضرة يوسف عليه السلام وأخيه، اللذان منّ الله عليهما، وأكرمهما بذلك المقام العليّ، جزاء على تقواهما، وصبرهما، فلم يبديا مع كل الآلام التي أصابتهما إلا ما يرضي الله تعالى.. فكانا محسنين في أقوالهما، وأفعالهما.. صالحيْن مصلحيْن للناس، راضيين بقضاء الله وقدره.. والله لا يضيع أجر المحسنين.

 

( قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين)(91)

         ما كان للإخوة إلا الاعتراف بخطئهم، والاعتراف بتفضيل الله ليوسف عليه السلام عليهم، بأن رفعه إلى ذلك المقام: يوسف عليه السلام رفعه ربّه إلى مقام أن أصبح عزيز مصر.. يتبوّء منها حيث يشاء.

وأخوه بنيامين مقرّب من عزيزها الذي هو أخوه.. " نرفع درجات من نشاء" رفع الله تعالى درجاتهما، في حين بقي حال الإخوة كما هو.. إن لم نقل تراجع عما كان عليه، بسبب الجوع، وشحِّ الموارد، الشيء الذي جاء بهم إلى مصر..

 

( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)(92)

         يوسف عليه السلام ينبئ إخوته بما فعلوه.. تصديقا لما وعده به ربه في البئر حين قال سبحانه: " ... لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون..." وهو عليه السلام مستشعر نعمة الله عليه من التمكين والنصرة...

ثم يغفر لإخوانه ويعفو عنهم، ويعدهم بأن يغفر الله تعالى لهم.. لأنه سبحانه هو أرحم الراحمين.. أرحم من يوسف بإخوته.. سبحانه وتعالى.

ولا معنى لعفو يوسف عليهم من دون عفو الله ومغفرته.. ولذلك قدّم عليه السلام عفو الله تعالى ومغفرته على عفوه هو.. فهو على يقين أن إخوته مع غفلتهم، وحسدهم لم يخرجوا عن قضاء الله وقدره.. ولذلك خَبَتْ لديه رغبة الانتقام...

 

 

ثم إنه عليه السلام، لا ينتبه إلى كبير جرمهم في حقه وحق شقيقه، بالنظر إلى ما يصبو إليه من أن يجتمع بأبويه وأهله جميعا في مصر...

 

( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين)(93)

         يوسف عليه السلام يهتم بما هو أكبر من محاسبة إخوانه على أفعالهم، فالانتقام من شيم الصغار.. كما أن العفو عند المقدرة من شيم الكبار...

كان اهتمام يوسف عليه السلام ينصبّ على أمل الاجتماع بأبويه، وإخوته من جديد.. وهذه المرة في مصر.. وهو فيها سيد على خزائن أرضها.. استحقاقا وليس اغتصابا.. بل يمكن القول.. منقذا لها وأهلها من الموت جوعا خلال سنوات الجفاف، والقحط والشدّة...

         وفضلا عن تأويل الأحاديث بفضل الله تعالى، كان على علم بالطبّ.. " اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا".

وليس فقط علاج أبيه من العمى، وإنما إنقاذ كل أهله  بما في ذلك إخوته من الفقر، والقحط الذي أصاب بلدهم، وذلك بنقلهم من ذلك الوضع، ومن تلك الأزمة، إلى حيث هو في مصر، حيث الأمن الغذائي، الذي توفر بفضل الله تعالى، وبفضل حكمة وحسن تدبير يوسف عليه السلام، وخطته الخمس عشرية التي دبّر من خلالها أزمة الجفاف والقحط في السبع سنوات الثانية..

فمصر كلها مدينة له عليه السلام، فلولا لطف الله تعالى بهم الذي وفّقهم إلى أن يكون يوسف بينهم في هذا المرحلة من الزمن، حيث أنقذ مصر، وأهل مصر، من الموت جوعا، وأصبحت ملاذا ومَحجّا لإنقاذ أهالي  البلدان المجاورة، والذين كان منهم أهل يوسف: أبواه وإخوته.

" اذهبوا واتوني بأهلكم أجمعين" فضلا عن العفو، والصفح منه عليه السلام لإخوانه الذين أساءوا إليه.. يستضيفهم وأهلهم أجمعين... فما أعظم العفو حين يكون عن مقدرة وعلو شأن..

         لقد كان عفو يوسف عليه السلام على إخوته رغم كل ما فعلوه في حقه، وعفو النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بعد فتحها، رغم ما قاموا به ضده وضدّ دعوته أعظم ما عرفته البشرية لهذه القيمة الأخلاقية العظيمة.

لو أنه كانت هناك مقرنة بين منافع الانتقام.. ومنافع العفو.. لكانت منافع العفو أكبر بكثير مما قد يجلبه الانتقام عدا إشفاء الغليل من المنتقم منه.. وتلك منفعة بشرية.. يمجدها الضعف ، وقلة الحيلة.. أما العفو فهو من شيم الكبار.. فالله سبحانه عفوّ يحب العفو.. فضلا عن نتائجه الضخمة  التي أقل ما يمكن أن تجلبه هو تقدير الناس، وإكبارهم للذي يعفو...

 

( ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنِّدون (94) قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) (95)

         لما فصلت العير، أي اقتربت، ودخلت المجال الترابي لفلسطين، حيث مسكن يعقوب عليه السلام، وأولاده، شمّ عليه السلام رائحة ولده يوسف.. وذلك تواصل جعله الله تعالى بين الوالدين والأولاد.. تخاطر روحي أحسّ به يعقوب عليه السلام تجاه يوسف.. ويعقوب عليه السلام يكشف عن إحساسه هذا متوقعا ردّ أولاده الحاضرين بأنه إنما هو في ضلال مستمر منذ القدم.. منذ حزنه على يوسف، وعدم تصديقه لروايتهم التي تتهم الذئب بأكل يوسف.. وهو منه براء.

لكن إحساس الأب بفلذة كبده كان حقيقة، سرعان ما جعلت إخوة يوسف يتوقفون عن الاستخفاف بأحاسيس والدهم، ويطلبون العفو والاستغفار منه...

 

( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)(96)

         لما وصل بعض إخوة يوسف ممن تعرفوا عليه في مصر، وجاءوا بقميصه ليلقوه على وجه يعقوب عليه السلام، كما أوصى بذلك يوسف.. كان أول ما فعله البشير.. هذا الأخ الذي كلف بهذه المهمة، والتي كانت أحبّ إلى قلبه، فالأمر يتعلق بأبيه.. هو أن يلقي قميص يوسف على وجه أبيه.. فارتدّ بصيرا، أي عاد له بصره.. كما توقع يوسف عليه السلام.. وكان كلّ ذلك انتصارات ليوسف عليه السلام، وتثبيت لقيمته، وعذر لأبيه في حبه أكثر منهم، وتفضيله عليهم...

ولما تأكد من حال يوسف، قال يعقوب عليه السلام مفنِّدا من كان يسفِّه رأيه في حزنه على يوسف.. ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون، من جانب كونه نبي الله تعالى يأتيه الخبر من السماء..

 ولعلّه اطمأن على ولده بما عرفه من ربه، حين ادعى إخوته أن ابنه سرق.. ومن قبل لما ادعوا أن الذئب هو الذي أكل يوسف، لما ذهبوا يستبقون، وتركوا يوسف عند متاعهم فقال عليه السلام: " قال إنما أشكوا بثِّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون" أي أنه عليه السلام كان على علم بأن رؤيا يوسف عليه السلام حق.. سيجعلها الله تعالى واقعا، وأنه حي يرزق..

 

 

 

( يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنّا خاطئين(97) قال سوف أستغفر لكم ربِّي إنه هو الغفور الرحيم)(98)

         ظهر الحق أخيرا.. وبدت خطاياهم تجاه أخيهم تظهر للعيان، والتي إنما هي نتيجة الغيرة والحسد.. فلم يبق لهم إلا أن يطلبوا العفو والصفح عن خطاياهم.. التي لم تكن مبررة.. فتوجهوا إلى أبيهم كي يستغفر لهم الله تعالى.. أن يغفر خطاياهم التي يعترفون بها.

فما كان من يعقوب عليه السلام إلا أن أجاب طلبهم مستعملا كلمة "سوف" التي تؤجل قليلا إجابة الطلب، لكنه في الأخير فرح باعتذار أبنائه عن خطئهم، ورغبتهم في الاستغفار، لأن الاستغفار في الأول والأخير، قربة إلى الله تعالى، بحكم أنه تصحيح للخطأ، ولذلك سيستغفر لهم اللهَ تعالى، لأنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيِّئات.. فهو الغفور الرحيم.

 

( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)(99)

         وبعد طول الرحلة من أرضهم وبلادهم، دخل يعقوب عليه السلام وأهله معه، وأولاده جميعا مصر.. ودخلوا على يوسف.. فقرّب إليه أبويه، واحتفى بلقائه بهما من جديد احتفاء المشتاق الذي طال فراقه عن والديه سنينا طويلة.. وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين لا تخافون، فهو ذو شأن يمكنه أن يُؤمِّن من أراد تأمينه.. ويُخوِّف من أراد..

وذلك من إتمام نعمة الله على يوسف، ولطفه به.. فقد جمعه بأخيه بنيامين من قبل، واليوم يجمع شمله بأهله جميعا.

 

( ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سُجّدا وقال يا أبتي هذا تأويل رُؤياي من قبل قد جعلها ربِّي حقّا وقد أحسن بي إذ أخرجني مِن السجن وجاء بكم من البدو مِن بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربِّي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)(100)

         كان يوسف عليه السلام فرحا باجتماعه بأهله وذويه، وخصوصا اجتماعه بوالديه، فلم يجد أكثر من أن يرفعهما على العرش، احتفالا واحتفاءا بهما، وإبرازا لطاعته لهما.. وفي الجانب الآخر، خرّ إخوته، الذين يُحسون بالذنب تُجاهه سُجّدا، إكراما وتعظيما له.

"وقال يا أبتي هذا تأويل رُؤياي من قبل قد جعلها ربِّي حقّا" فيوسف عليه السلام الذي رأى الرؤيا في صِغره هو الذي يفسرها في كبره، وعموما ليس هناك أفضل من تفسير صاحب الرؤيا لما رآه، وإن فسّر له المفسِّرون.

 

 

 

ورؤيا الأنبياء والمرسلين حقّ.. وقد بدأ الوحي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالؤيا الصادقة، التي كانت مثل فلق الصبح.. ولذلك أصرّ يعقوب عليه السلام ألا يخبر بها يوسف إخوته في صغره.. فهو نبي الله.. إنه لذو علم لما علمه ربه ولكن أكثر الناس لا يعلمون...

         وثناء على الله اللطيف الخبير، يعدِّد يوسف عليه السلام نِعم الله عليه، وعلى أهله، من إخراجه من السجن.. ومجيء أبويه، وإخوته من البدو، من بعد ما حصل بينه وبينهم بفعل نزغ الشيطان، اعترافا له سبحانه بالفضل والمنّة، فسبحان العليم الحليم الذي لم يَخْفَ عليه شيء من كل ذلك.

 

( ربِّي قد آتيتني من المُلك وعلّمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وَلِيِّ في الدنيا والآخرة تَوَفَّني مُسلما وألحقني بالصالحين)(101)

         يتوجه يوسف عليه السلام إلى ربِّه بالحمد والشكر، شأنه شأن العابد المتبتل، الذاكر غير الغافل على نِعم الله الكثيرة، وآلائه الكبيرة، والتي لا تُحصى، ولا تُعدّ، من مثل رفع قدره، وتمكينه في الأرض، إلى أن وصل إلى حكم مصر، بعد أن جاءها عبدا مملوكا، وتعليمه تأويل الأحاديث.. الشيء الذي فتح له قصر الملك، فتبوّء المكانة العالية هناك، وغيرها كثير... كلّ ذلك جعل يوسف يُجدد ولاءه لِرَبِّه، وسُؤاله أن يختم حياته وهو على الإسلام.. غير متحوِّل عنه إلى غيره من الدعوات.. وأن يُلحقه بالصالحين من عباده الذي رضي الله عنهم وأرضاهم.

 

( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون)(102)

         يتوجه الخطاب القرآني صراحة لأول مرة في هذه السورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رغم أن كل القرآن الكريم عليه نزل، مُذكِّرا إياه أن من فضل الله تعالى عليه وعلى أمته إخباره بقصة يوسف عليه السلام، التي هي من الغيب الذي ما كان له أن يعرف تفاصيلها، ولا إجماع إخوة يوسف واتفاقهم، على إبعاد يوسف عليه السلام.. إن لم يقتلوه، ليصفو لهم وجه أبيهم، وذلك بمكر، وسابق إصرار.

وذلك تأكيد لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم تحديدا لوظيفته كمبلِّغ عن الله تعالى، لا يعلم الغيب، ولا يقول إلا ما أُمِر به من ربِّه سبحانه، ولا يتعدّاه إلى غيره مما لم يُؤمر به...

 

 

 

 

( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(103)

         لا زال الخطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم أكثر منه إخبارا بحقيقة الناس، لأنه سبحانه، العالِم بأحوال الناس، المطّلِع على سخائم نفوسهم ، يريد للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحزن لعدم إيمان بعضهم، وأن لا تذهب نفسه حسرات عليهم، إنما عليه البلاغ، والناس في ذلك أحرار، بين مؤمن وكافر، فمن آمن واتبع هُدى الله فلن ينفع إلا نفسه.. ومن كفر وجحد بآيات الله فلا يضُرّن إلا نفسه.. فلا إكراه في الدين ما دام قد تبين له الأمر، وتحمّل مسؤوليته في الدنيا والآخرة، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، كما لا تضرُّه معصية العاصين.

 

( وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين)(104)

         ولمزيد من الإيضاح للنبيّ صلى الله عليه وسلم، يُخبره ربّه سبحانه أنه لا ينتفع من إيمانهم واستجابتهم، ولا يسألهم على ذلك مالا.. وإنما هم المنتفعون بذلك الذكر، المُبلّغ لهم وللعالمين من غيرهم.. " إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل" فلا يضرّك قولهم مما يحُزّ في نفسك، ولا تحرص على إيمانهم فأنت لا تسألهم مالا جرّاء ذلك.

 

( وكأيٍّ مِن آية في السماوات والأرض يمرّون عليها وهم فيها مُعْرِضُون(105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهُمْ مُشركون)(106)

         يُنزل الله تعالى الآيات المُبَصِّرات بالحقيقة الكبرى، التي جاء من أجلها الأنبياء والرسل، وأنزلت الكتب ، في السماوات بما في ذلك الرعد والبرق، والمطر والثلج، والخسوف والكسوف، وحركة النجوم، وشروق الشمس وغروبها، وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى.

وفي الأرض من مثل الزلازل والبراكين، وإنبات الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، وإحدات السُّبُل والأنهار، وضمان رزق كل المخلوقات: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها..."

كلّ هذه الآيات، يُنزلها الله تعالى باستمرار لعلّ الناس إلى ربِّهم يرجعون، وكثيرة هي الآيات التي تلامسهم بشكل أو بآخر، لكنهم يمرّون عليها، غافلين عن مدلولاتها.. فمنها ما لا ينتبهون إليه، ومنها ما يدركونه، ولكنهم يُعرضون عنه، معتمدين حُججا يقنعون بها أنفسهم، تكون في الغالب تعارض هذا الذي تُنَبِّه إليه الآيات مصالحهم، وشهواتهم، أو ما يخدم ذلك، فيحول كل ذلك دون هدايتهم، وتحوُّلهم إلى الاستقامة...

 

         وفي حالة إن وُجِد منهم من آمن بالله تعالى، كان أكثر المؤمنين منهم مشركين في إيمانهم ذاك.. أي أنهم لم يستجيبوا لِما دعاهم إليه نبيِّهم، وإنما صدّقوه في بعض ما جاء به، وضلوا على معتقداتهم التي كانوا عليها في الجاهلية قبل البعثة.. كذلك كان المشركون يعتقدون في الأصنام.. حيث يعبدونها لتقربهم إلى الله زُلفا.. فيشركون بالله غيره.. فهم يعتقدون النفع والضرّ فيهم من غير الله.. وذلك هو الباطل الذي يكرهه الله سبحانه، أن يعتقد العبد في غير الله النفع والضرّ.. ولا نفع.. ولا ضرّ إلا منه سبحانه وتعالى.. فقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: " اللهم ما بي من نعمة ولا بأحد من خلقك إلا منك وحدك لا شريك لك..."

 

( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغثة وهم لا يشعرون)(107)

         هذا تهديد منه سبحانه لهؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان، أو الذين آمنوا بالله وهم مشركون.. مِن أن تأتيهم غاشية من عذاب الله في الدنيا والآخرة، أو تفاجئهم الساعة بغثة دون أن يعملوا حِسابا لها.. وهذا التهديد إنما يُراد من ورائه رجوعهم، وهدايتهم إلى الحقّ، لأن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ويريد لهم الإيمان، فما يفعل بعذابهم إن كفروا...

 

( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)(108)

         قل لهم يا محمد (صلى الله عليه وسلم) دعوتي إياكم إلى الله هي سبيلي، ووظيفتي في هذه الدنيا، دعوة العالمين إلى الله تعالى بعلم وبصيرة وثقة، ومن ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم لعَمِّه أبي طالب عندما ساومه المشركون أن يتركهم ويُخَلِّي بينهم وبين دين أجدادهم، ولا يدعوهم إلى ما جاء به من الهُدى.. قال عيه السلام:

" والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه" هذا شأني، وهو كذلك شأن مَن اتبعني وآمن بي.

         ويمكن استخلاص حكما فقهيا من الآية، بوجوب التصدي للدعوة في سبيل الله بالنسبة لكل مؤمن، أو بعبارة الآية : كلّ من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة وعلم حتى يحكم الله.

ولقد أعجبني توصيف أحد الدعاة المغاربة لأمر المؤمن الذي عرف الحق، كمثل رجل كان نائما بصحبة آخرين في "النادر" -وهو المكان الذي يتم فيه تجميع المحصول الزراعي قبل درسه- فاستيقظ ليلا وأصحابه نيام، فوجد نارا عظيمة تلتهم المحصول..

 

وتوشك أن تصل إليهم، وعليه أن يسرع بالهرب لينجو بنفسه، وأصحابه لا يزالون نياما، أفينجو بنفسه ويترك الآخرين ؟

 أم واجب عليه أن يوقظهم، ليكونوا من الناجين من تلك النار؟

فذلك شأن المؤمن الذي عرف الحقّ، والتزم به.. واجب عليه أمام الله أن يوقظ الآخرين ما أمكنه .. ويدعوهم إلى الله، حتى لا تلتهمهم نار جهنم يوم القيامة.

"وسبحان الله" أي تنزّه سبحانه عن كل ما ادعاه المبطلون: فسبحان الله عن الشريك، وسبحان الله عن المثيل، وسبحان الله عن أن يتخذ ولدا، وسبحان الله عما يصفون...

ومع تنزيه الله تعالى عن كل نقيصة يتبرّأ عليه السلام من أن يجعل لله شريكا، لخوفه عليه السلام من ذلك.. فالله سبحانه "لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"

فيعلن عليه السلام: "فما أنا من المشركين"، ولا أدعو إلى الشرك، ولا يُفوِّت فرصة إلا واعترف بوحدانية الله، وعدم الشرك به، فكان يردِّد كلمات التوحيد عشرات المرّات في اليوم الواحد: "لا إله إلا الله".

 

( وما أرسلناك من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون)(109)

         وما أنت بدعا من الرسل يا محمد (صلى الله عليه وسلم) شأنك شأن مَن أرسلنا مِن قبلك من الرجال من أهل القُرى، فما اختار الله نبيا ولا رسولا إلا من قومه، وبلسانهم، وتلك من رحمة  الله بعباده.. فيوحي رسالاته إليهم ليبلغوها إلى أقوامهم كما أخبر القرآن الكريم: "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه..."

"وإلى عاد أخاهم هودا..."

وإلى ثمود أخاهم صالحا..."

"وإلى مدين أخاهم شعيبا"

وكذلك أرسلناك للعالمين من خلال قومك من قريش..." تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا..."

" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين..."

" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا..."

 

 

أفلم يتسنّى للكافرين من قومك، أن يسيروا في الأرض، بأرجلهم مسافرين، وبأحلامهم مفكرين، ومعتبرين من التاريخ.. وكيف كانت عاقبة السابقين مِمَّن كذّبوا رُسلهم، وجحدوا بآيات ربِّهم، فما أغنت عنهم قوّتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم من الله شيئا، إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، والدار الآخرة  هي خيرٌ للذين اتقوا واستقاموا لربهم، وأطاعوه، واتبعوا رُسله، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، ولا يُوظفون ما أعطاهم الله تعالى من مِنَحٍ وعطايا.

 

( حتى إذا استيأس الرُّسل وظنُّوا أنهم قد كذِّبوا جاءهم نصرنا فننجِّي مَن نشاء ولا يُردّ بأسنا عن القوم المُجرمين)(110)

         الله سبحانه وتعالى لا يتخلّى عن رُسله وأنبياءه، فهو سبحانه لا يخفى عليه شيء من أمرهم، لكن الرُّسل بطبيعتهم البشرية يستيئسون، ويتبادر إلى أدهانهم أنهم قد تركوا لمصيرهم، يتحكّم فيهم أعداءهم... فيصيبهم الخوف، والملل، وغيره.. مما يصيب جنس البشر...

والله تعالى إنما يُريد اختبارهم في تبليغ الرسالة، والصبر عليها، والإصرار على تبليغها، واختبار أقوامهم كذلك، في تكذيبهم، أو استجابتهم ، ونُصرتهم لرُسله...

فقد قال الله تعالى عن نوح عليه السلام في سورة هود : " وأُوحِي إلى نوح أنه لن يون من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مُغْرَقون ..."

وفي نفس السورة قال عن هود عليه السلام: " ولما جاء أمرنا نجَّينا هودا والذين آمنوا معه ونجَّيناهم من عذاب غليظ..."

وكذلك كان الأمر مع صالح عليه السلام، حين كذَّبه قومه وعقروا الناقة التي حذرهم من أن يمسُّوها بسوء:

" وقال يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فلا تمسُّها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يَغْنَوْا فيها... ألا إن ثمود كفروا ربَّهم ألا بُعدا لثمود..."

وتحقّق نصر الله لنبيِّه لوط عندما كذبه قومه، وكانوا مِن قبل يفعلون السيِّئات، كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، قال تعالى:

" ولما جاءت رُسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يُهرعون إليه وكانوا مِن قبل يفعلون السيئات قال هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله

 

ولا تُخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا إنك لتعلم مالنا في بناتك من حقّ وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رُسُل رَبِّك لن يصلوا إليك فاسري بأهلك بقِطْعٍ من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مُصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصُّبْحُ بقريب ولما جاء أمرنا جعلنا عَالِيَها سَافِلَها وأمطرنا عليهم حِجارة من سِجِّيل منضود مُسَوَّمة عند ربِّك وما هي من الظالمين بِبَعيد..."

وجاء نصر الله تعالى شُعَيْبا حينما حذّر قومه من أن يُصيبهم مِثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح أو قوم لوط ولم يكونوا منهم ببعيد، فما كان منهم إلا أن هدّدوه بالرجم لولا رهطه:

 قال تعال: " ولما جاء أمرنا نجّينا شُعَيبا والذين آمنوا معه برحمة مِنّا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يَغْنَوا فيها ألا بُعدا لمَدْيَن كما بَعُدت ثمود"  سورة هود الآية:95

وكذلك كان الأمر مع موسى عليه السلام حين أرسله ربُّه إلى فرعون ومَلَإِهِ :

 " فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الوِرد المورود وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بِئْسَ الرِّفد المرفود..." هود/99

وكذلك كان الله تعالى مع كل أنبيائه ورُسُله.. يُنجِّي من يشاء من عباده ولا يُرَدّ بأسه عن القوم المجرمين...

 

( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)(111)

         يقصد سبحانه قصص الأنبياء والرسل وأقوامهم، كانت عبرة للاحقين بعدهم من الأمم الأخرى، ولم تكن كذبا ولا افتراء، ولكن هي تصديق الرسالات الأخرى التي سبقت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي القرآن الكريم، الذي فصّل كلّ شيء:

ما يتعلق بالألوهية، والنُّبُوَات، والمخلوقات، والدنيا والآخرة، والمؤمنين، والكافرين، والمنافقين وأحوالهم في الدنيا والآخرة.. والحلال والحرام في المأكل والمشرب والمعاش.. والزواج، والطلاق، والرضاع، والإرث والوصية وغيرها...

وهداية للعالمين، ورحمة لمن آمن منهم واستجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع هَدْيَهُ واقتفى أثره...

 

 

 

         لقد كانت سورة يوسف عليه السلام فعلا من أحسن القصص على الإطلاق، لأنها جمعت كل ما تفرّق في غيرها من القصص الكونية، فالمتخصصون في القصص الدرامية يجدون فيها الدراما بإحكام كما لم تكن في غيرها...

         والمهتمّون بالقضايا السياسية والاقتصادية يجدون فيها توجيهات وملامح عبقرية لم تتكرر من بعد...

         والمهووسون بالتعليم والتربية، يجدون فيها ملامح تربوية مُحكمة تفوق قدرات الإنسان العادية...

         وكُتّاب الغراميات، والقصص العاطفية يجدون القصة القرآنية لم تُخْفِ ما كان من تصرفات الإنسان في مواقف ضُعفه، تعليما له كي يُحسن التصرُّف في مثل تلك المواقف...

         ومن يهتم بالعلاقات الاجتماعية  والأسرية، يجد قصة يوسف قد صورت ذلك أحسن تصوير، وحبكته كما لم يوجد في قصة قبلها ولا بعدها.

         نعم إن قصة يوسف كانت أحسن القصص بحكم الله، وبتفصيله لفصولها، وأحداثها ووقائعها.. حتى أن القارئ ليستمتع بها وإن يقدسها كقرآن هو في الأول والأخير كلام الله تعالى..

جمعت ما هو اجتماعي على ما هو سياسي اقتصادي على ما هو تربوي سلوكي على ما هو غرامي يتعلق بعلاقة الرجال بالنساء، وكل ذلك في قالب دعوي يخلص إلى الاستسلام لله تعالى في هذا الكون الفاني للارتقاء إلى الخلود مع الكمال في الجنة في الآخرة...

 

 

 

 

 

        

 

 

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire